سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
في آخر حديث له قبل وفاته . محمد حسن الزيات يروي ذكرياته لپ"الوسط": كيسنجر أبلغ العرب : لا تنتظروا عودة كل الأرض العربية المحتلة ، قال لي رئيس باكستان : مصر انتهت والقاهرة على وشك السقوط ، هذه قصة اقتراح الاردن نقل مقر الجامعة العربية ... الى القدس
هذا حديث الذكريات مع الدكتور محمد الزيات وزير الخارجية والاعلام المصري السابق الذي توفي في الرابع والعشرين من شباط فبراير الماضي عن عمر يناهز 78 عاماً. الحديث أجرته "الوسط" مع الدكتور الزيات قبل فترة من وفاته، في منزله الواقع في حي الزمالك وسط القاهرة. وفي هذا الحديث يتوقف الزيات عند محطات مهمة في حياته السياسية والديبلوماسية، وفي حياة مصر والمنطقة العربية، ومنها حرب 1973، كما يتذكر شخصيات مهمة عرفها. والزيات متزوج من السيدة امينة ابنة استاذه طه حسين وله منها ابن وبنتان وهو شغل في حياته مناصب عدة ابرزها منصبا وزير الاعلام ووزير الخارجية عام 1972 ثم منصب مستشار الرئيس انور السادات للشؤون الخارجية في تشرين الأول اكتوبر 1973. وتولى الزيات ايضاً رئاسة لجان الشؤون العربية والثقافة والاعلام والسياحة في مجلس الشعب المصري. ونترك الآن الزيات يروي ذكرياته لپ"الوسط": "المحطة الأولى" في هذه الذكريات قصته مع الرئيس الراحل انور السادات. يقول الزيات: "في ايلول - سبتمبر - 1972 كنت في دمشق ضيفاً الى مائدة العشاء في منزل وزير خارجية سورية آنذاك السيد عبدالحليم خدام. وكنت ازور سورية بصفتي وزيراً للاعلام في حكومة الدكتور عزيز صدقي. وعلمت اثناء العشاء انني اصبحت وزيراً لخارجية مصر. لقد اختارني الرئيس انور السادات لهذا المنصب من دون ان يبلغني بذلك مسبقاً. صباح 11 نيسان ابريل عام 1973 رن جرس الهاتف في منزلي في الزمالك، وجاء صوت الرئيس السادات منفعلاً يطلب ان اذهب اليه فوراً، ودهشت لأنه ليس من عادته ان يستيقظ مبكراً، وعندما دخلت عليه، بادرني بسؤال: ماذا تعرف عن حادث مساء الأمس؟، فأجبته بأن ثلاثة من كبار قادة منظمة التحرير الفلسطينية هم كمال عدوان وأبو يوسف النجار وكمال ناصر قتلهم الاسرائيليون في مخادعهم، بعد ان وصلوا الى بيروت من البحر. وقلت ايضاً إنني اتصلت بوزير خارجية لبنان لأسأله ماذا ستفعلون، فأخبرني بأن الحكومة مستقيلة، وانهم سيبلغون الأممالمتحدة، وسيوزعون خطاباً على الدول الاعضاء في المنظمة الدولية. ورد السادات بغضب: أهذا كل ما تستطع أن تفعله؟ معنى هذه الحادثة ان اسرائيل اصبحت عسكري المنطقة، وانها يمكن ان تقبض عليك غداً"! وطلب السادات مني ان اذهب الى نيويورك لأشارك في مناقشة هذا العدوان، ولكنني اجبته بأن كل هذه الجهود لم يعد لها تأثير، وذكرته بأنني قلت في مجلس الوزراء ان وزير الخارجية فشل، وان على وزير الحربية ان يتحرك كي يعطيني فرصة - انا ايضاً - لأتحرك، وأذكر انني قلت يومها عبارة ذات جرس ادبي لم اعد لها قبلاً، ولكنها كانت تعبيراً دقيقاً عن الوضع وهي: "يائس وبائس وزير الخارجية الذي لا يستند الى وزير حربية"!! وهنا فاجأني السادات حين قال لي: "اذهب وقل لهم اننا سنحارب"! سافرت الى الأممالمتحدة في اليوم التالي وهناك التقيت مندوب مصر الدائم في الأممالمتحدة الدكتور عصمت عبدالمجيد واتفقنا على انه من غير المجدي ان نتحدث في موضوع الغارة نفسها على لبنان، فهل اذهب كوزير خارجية الى المنظمة الدولية لأقول للأميركيين والاسرائيليين ان ما فعلتموه عيب وقلة حياء؟ وبالتالي اخذت المبادرة من جانبي ومن دون الرجوع الى السادات في ان اطلب الى اعضاء مجلس الامن تأكيد موقفهم بالنسبة الى القرار 242 الذي صدر في 22 تشرين الثاني نوفمبر 1967، بعد الاستماع الى غونار يارنغ مبعوث الامين العام للأمم المتحدة الى المنطقة، والقضاء على الغموض المفتعل حول ما اذا كان القرار 242 ينص على الجلاء من بعض او كل الاراضي العربية، وما اذا كان يتحدث عن الفلسطينيين بوصفهم لاجئين او شعباً له دولة، ووافق مجلس الامن بالاجماع على تحديد موعد في المستقبل يدعو فيه يارنغ للحضور وسماع اقواله ويستأنف نظر القضية. والحقيقة انني طلبت هذا انطلاقاً من الكلمة التي قالها لي السادات قبل سفري: "قل لهم اننا سنحارب"، لأنه اذا كان سيحارب فعلاً فلا بد من تحضير سياسي، هذا على رغم ان الكثيرين استسخفوا ما قمت به في نيويورك ومنهم اسماعيل فهمي. وانعقد مجلس الامن في 25 تموز يوليو 1973 وتقدمت ثماني دول آسيوية وأفريقية، منها الهند، بمشروع قرار جلا الغموض في ما يتعلق بنص القرار 242، حول حق المجلس في اصدار قراراته وتنفيذها بالقوة طبقاً لأحكام المادة السابعة من قانون المنظمة الدولية. وفي ما يخص الجلاء عن الأراضي العربية ذكر القرار اهمية "سلامة" الأراضي ووجوب مراعاتها، كما قال عن الفلسطينيين ان مشكلتهم يجب ان تحل على اساس احترام الحقوق السياسية والأماني القومية لهم. ووافق اعضاء المجلس جميعاً واستخدمت اميركا حق الفيتو، وهنا اعلنت في مجلس الامن انني سأعود الى بلادي وأطلب منها ان تبحث عن حقوقها بأظافرها الى ان تعينها الأممالمتحدة، فقد ظهرت ارادة المنظمة الدولية بموافقة 13 دولة على مشروع القرار وعدم اشتراك الصين في التصويت لأنها كانت تريد قراراً أقوى، ثم اعتراض اميركا الذي منع القرار ان يكون رسمياً. وعدت الى مصر وفي ذهني ان تحركنا أثمر رسالتين: الأولى، ان العالم رأى اننا على صواب، وأن من حقنا ان نسترجع ما سلب منا. والثانية، ان مجلس الامن عجز عن القيام بدوره لأن اميركا منعت ذلك، وإن كانت لم تمنع وضوح ظهور النية الدولية في مساندتنا وتوضيح ما كان يقال بأنه غموض في القرار 242. وأذكر بعد ذلك ان هنري كيسنجر وزير خارجية اميركا بادرني بعد حرب تشرين الأول اكتوبر 1973 في نيويورك بقوله: "ما هذه المفاجأة" فأجبته: "لم تكن مفاجأة على الاطلاق، فقد ذكرت في مجلس الامن في 25 تموز يوليو انني سأعود الى بلادي وأطلب منها انتزاع حقوقها بأظافرها" وضحك كيسنجر قائلاً: "ولكننا لم نكن نصدقكم" فقلت له: "ان هذا كان من عوامل نجاح حربنا"! كان السادات حتى ذلك الوقت يوافق على طريقتي في اداء واجبي، ويترك لي ان اتصرف من دون العودة اليه كما فعلت في مجلس الامن. كيسنجر: لا تنتظروا عودة كل الأرض العربية والحديث عما جرى بعد حرب تشرين الأول اكتوبر يدفعني الى رواية واقعة مهمة حدثت ابان وجودي في نيويورك مع وزراء الخارجية العرب في اعقاب الحرب. فقد اجتمع وزراء الخارجية العرب في غرفتي في الفندق وأبلغوني انهم سيحضرون لقاءنا مع الرئيس نيكسون و"نبلغه ان دولنا تؤيد مصر تأييداً كاملاً". وقابل وزراء الخارجية العرب كيسنجر قبل لقائهم نيكسون فقال لهم: "إعملوا حسابكم ألا تنتظروا عودة الأرض العربية المحتلة كلها ابداً، ولا بد من تعديل حدود اسرائيل"، اما نيكسون فقد استقبلهم بشكل مختلف وودود، وقال: "اننا نبحث عن الحل العادل". وكان ما رأيته في نيويورك يؤكد ان مصر تزداد ثقلاً بالعالم العربي، والعالم العربي يزداد ثقلاً بمصر، بينما استشعرت من معلومات كانت تصلني من القاهرة ان السادات قرر ان يعتمد كلياً على اميركا، التي قال وزير خارجيتهاامامنا، انها لن تسمح بعودة اراضينا كاملة. وعدت الى مصر في ظروف خاصة حيث توفي حماي الدكتور طه حسين يوم 28 تشرين الأول اكتوبر وكان لا بد ان اشارك في موكبه الاخير، فأرسل لي السادات طائرة خاصة أقلتني الى روما ومنها الى القاهرة. وقبل الجنازة قابلت السيد حافظ اسماعيل مستشار الرئيس السادات للأمن القومي وقدمت له استقالتي بعد ان تأكدت من ان الطريق الذي نسير فيه غير ذلك الذي اؤمن به. وخرج موكب طه حسين من جامعة القاهرة وكان يسير الى جواري الاديب ثروت اباظة واضعاً في اذنه سماعة راديو ترانسيستور، ذلك ان السادات في ذلك الوقت كان يعقد مؤتمراً صحافياً عالمياً مهماً، وفيه استمع ثروت ان الرئيس وهو يقول انه سيرسل مستشاره للشؤون الخارجية محمد حسن الزيات الى انكلترا وفرنسا، فقال لي: "ما الحكاية؟ انت مستشار ام وزير خارجية؟" ففهمت ان السادات فضل ان يكون الشكل كذلك وليس استقالة، وهكذا اصبحت مستشاراً للسادات. "طيب خاطرهم يا زيات" زرت باريس واجتمعت بالرئيس الفرنسي آنذاك جورج بومبيدو وقلت له ان السادات يريد حلاً عن طريق الاممالمتحدة وان الحل عن طريق المنظمة الدولية هو الوحيد والامثل، الا ان قدراته العسكرية والسياسية ضعفت جداً بعد الحرب، وهو يحتاج الى الاعتماد على اميركا سياسياً لتحجيم مناصرتها العسكرية لاسرائيل، وقد ارسلني لأرجوك ان يستمر اهتمام الدول الخمس الكبرى بالموضوع، وان ابلغك تقديره الشديد لموقف فرنسا. واضفت: "والرئيس السادات يرجوك ايضاً ان تتحدث الى رئيس وزراء انكلترا ليقابلني حيث أقوم بابلاغه الرسالة ذاتها، والتي تعني تدويل مشكلة الشرق الاوسط لا امركتها". وشعرت ان بومبيدو سعد جداً بذلك وبالفعل تحدث الى رئيس وزراء انكلترا هاتفياً وأظهرا لي اعجابهما المشترك برسالة السادات ومضمونها. كل ما كان السادات يريده من زيارتي التي كلفني بها هو: "طيب خاطرهم بأي شكل يا زيات"، ولكنه كان استقر تماماً على ان هناك دولة عظمى واحدة في هذا العالم هي اميركا، بناء على درسه لموقف الاتحاد السوفياتي وقدراته. وهنا لا بد ان نقدر السادات قدره، فقد كان عنده من بعد النظر ما يجعله يتوقع زوال الاتحاد السوفياتي كقوة عظمى، وعالم فيه قوة عظمى واحدة هي اميركا. وعدت الى السادات لأقابله في منزله، وكان مريضاً نائماً في سريره ويضع فوق رأسه وسادة ثلج، وأعتقد انه جعل المقابلة بهذا الشكل ليختصرها ما امكن، وأبلغته بما حدث، ولم يكن عندي اي مانع في موافقته على اعتماده الكامل على اميركا، لولا اقتناعي بما قاله بومبيدو من ان انهاء الصراع العسكري بين اسرائيل ومصر بهذه الصورة وفي هذا التوقيت، سيفتح الباب امام الصراع بين العرب ومصر، او بين العرب والعرب. وقد كانت للسادات علاقاته بالاميركيين من زمن طويل قبل الحرب، وكانت له - أيضاً - صلاته بكيسنجر قبل ان يصبح وزيراً للخارجية حين كان مستشاراً لشؤون الامن القومي في البيت الابيض. وهو يعرف عن المشكلة بكل دقائقها ما لا اعرفه انا كوزير خارجية. وهكذا اصبحت مستشاراً للشؤون الخارجية للرئيس السادات من دون وظيفة حقيقية، وجهز لي غرفة في سراي عابدين. وأذكر من طرائف فترة حرب 1973 ان كيسنجر هاتفني اثناء الحرب طالباً ان تعود الجيوش المصرية الى مواقعها الأولى، فأجبته ان هذه الرسالة غير مقبولة على الاطلاق. ثم قابلته في تشرين الثاني نوفمبر 1991 في باريس ابان انعقاد لجنة التحكيم للسلام التابعة لليونسكو وأنا عضو فيها، بينما هو يرأسها، فقال لي انه يحتفظ بشريط لهذه المحادثة وغيرها معي وانه سيهديه لي عندما نلتقي مرة اخرى في اجتماعات اللجنة في باريس في الاجتماع المقبل". "اسمك ايه؟" "المحطة الثانية" في ذكريات الزيات هي تجربته مع الرئيس الراحل جمال عبدالناصر. يقول الزيات: "التقيت الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، شخصياً، مرتين. الاولى، عندما كنت اؤدي اليمين بمناسبة تعييني سفيراً، وقد صافح عبدالناصر كل السفراء بسرعة، ثم توقف عندي لدقيقتين، وعندما عدت الى منزلي تصورت زوجتي وتصور الجميع ان هذا دليل اهمية، او انه كان حديثاً خاصاً جداً، والواقع ان السبب هو انه يعرف كل السفراء لأنهم من اصول عسكرية، اما انا فقد سألني: "اسمك ايه؟" وعندما اجبته، قال لي: "انا اتذكر عملك ايام كنت قائماً بالاعمال في ايران، وتمنى لي التوفيق" فقط لا غير. أما المرة الثانية فكانت بعد 1967، عندما اصدر مجلس الامن الدولي القرار 242، وطلبت الاممالمتحدة من الدول المعنية تحديد سبل تنفيذ القرار 242. وعينت اسرائيل ابان ايبان ممثلاً لها، وعين الاردن محمد الفرا، وأبلغتني مصر بتعييني ممثلاً لها. طلبني عبدالناصر لألتقيه في استراحة المعمورة في الاسكندرية، وكنت وقتها ادخن كثيراً، بينما كان هو ممنوعاً من التدخين بأمر الاطباء، وأخرجت من جيبي سيكارة لأدخنها ريثما يصل الرئيس، فلما دخل حاولت اطفاءها، فرفض وأتى بمنفضة سجائر ووضعها امامي، وقلت له: "انني لا اعتقد ان هناك فائدة كبيرة من ذهابي في هذه المهمة، ولكنني سأذهب"، وقلت ايضاً : "ارجو يا ريس ان اكون واضحاً، فأنا لا أعرف ان أقوم بمهمتي بالريموت كونترول، تقول لي من مصر ارفع ذراعك فأرفعه، او اخفض ساقك فأخفضها، انا اريد - فقط - ان اعلم ما هو الحد الادنى الذي تريده مصر؟ وما هو الحد الاقصى؟ ثم اتصرف على ضوء ذلك بحريتي وبحسب مقتضيات الظروف والاحوال". واستقبل الرجل كلامي بصبر وتفهم ثم سرح فترة وقال لي: "اتريد يا زيات ان تعرف الحد الادنى الذي يمكن ان اقبل به؟... انه القدس ودعك من الباقي كله"! وفي السيارة تأملت كلام عبدالناصر، وتساءلت: "يريدني ان آتي له بالقدس؟ ان ذلك يعني انني يجب ان آتي له بسيناء والضفة وغزة والجولان، فالقدس هي اعلى سلم الاولويات، ولا يمكن ان اصل اليه الا بعد تحقيق سائر الاولويات. "القاهرة على وشك السقوط" ويعود الزيات بذاكرته الى الوراء الى سنوات عهده الأولى فيقول: "ولدت في دمياط، وهي مدينة في اقصى شمال مصر، عام 1915، وشهدت في سنوات طفولتي المبكرة جداً احداث ثورة 1919، ثم احسست من خلال دراستي الأولية بأهمية البلد الذي انتمي اليه، وبأهمية انتمائي للعروبة التي اعطت العالم اساس حضارته الحديثة بما ترجمته عن اليونان، وبما ابدعه ابناؤها. سألني ديبلوماسي اجنبي مرة - وكان يرتدي نظارة -: "ما الذي اعطاه العرب للعالم؟" فأجبته: "النظارة التي ترتديها"، وحكيت له قصة الحسن بن الهيثم الذي اكتشف ان العين لا تبصر بنور ينبعث منها كما كان اليونان يعتقدون، بل بنور ينعكس عليها كعدسة. حين عملت في السفارة المصرية في باريس عام 1955 كنت اشعر بأنني معين وغير معين في آن واحد، فطلبت الى محمد عوض القوني وكان وقتها وكيلاً لوزارة الخارجية ان يعفيني من العمل في الوزارة، فأخبرني بأن مصر استدعت سفيرها في طهران عبدالشافي اللبان، وسألني اذا كنت احب ان اذهب مكانه قائماً بالاعمال. فوافقت لأنني متخرج في معهد اللغات الشرقية وكانت فرصة لي لدراسة الادب الايراني واجادتي الفارسية وصدر قرار - بالفعل - بتعييني قائماً بالاعمال!. هذه الفترة كات مصدر توتر كبير في العلاقات المصرية - الايرانية بسبب حلف بغداد. ثم جرى العدوان الثلاثي على مصر عام 6195 وسط هذه الاجواء. وفي ذلك الحين اقام شاه ايران حفلاً اسطورياً لرؤساء الدول الموجودين في طهران - وقتها - بملابس السهرة البيضاء وما يسمى "تيل جاكيت" ذو الذيل الطويل. ويوم الحفل الذي تلألأت فيه اضواء القصر الامبراطوري، وتناثرت فيه الموائد ومن فوقها لحم الطاووس وغيره، كانت مصر تلقت ضربة عسكرية موجعة للغاية في بورسعيد، فحضرنا الحفل وأحوالنا النفسية سيئة، خصوصاً ان اي انواع الاتصال ببلدنا لم تكن ممكنة، سواء هاتفياً او بريدياً او تلغرافياً، بل وحتى بالافراد حملة الحقائب. وقابلت عند دخولي القصر الامبراطوري وزير خارجية العراق الباجهجي وكان زميلا لي في اكسفورد عندما كنت ادرس للدكتوراه التي حصلت عليها في الفلسفة عام 1947، فقلت له: "أيصح موقف العراق من مصر وهي تتعرض لهذه الهجمة الاستعمارية؟!". فاذا به يجيبني: "ايصح ان يحكم مصر ناس من الشارع؟". فعنفته قائلاً: "الأكرم لك ان ترتد الى الشارع بدلاً من ان تشارك في نظام حكم يوقفكم هذا الموقف من مصر، ويجعلني - وأنا صديقك - استقبلك هذا الاستقبال". ثم التقيت السفير السوفياتي في الحديقة الخارجية وقلت له بانفعال: "أيعقل ان تتركونا وحدنا. هل نستطيع ان نحارب الانكليز والفرنسيين؟ أين انتم؟ فهمس السفير الروسي في اذني: "سأقول لك خبراً مهماً، على ان تقوم انت باعلانه في الحفل. الاتحاد السوفياتي سيوجه اليوم انذاراً الى الدول المعتدية على مصر". وأصابتني سعادة كبيرة، وقمت باعلان الخبر، الذي كهرب جو الحفل، وتناقلته الالسن في لغط كبير حتى وصل الى الشاه رضا بهلوي، الذي دبر على الفور اجتماعاً صغيراً لرؤساء دول حلف بغداد لدراسة الامر. وفي صبيحة اليوم التالي ذهبنا الى الرئيس الباكستاني اسكندر ميرزا. وكنا ثلاثة حيث فوجئنا بوجود السفير اللبناني حاضراً في مقر الرئيس الباكستاني، وبادرنا الرئيس اسكندر ميرزا بقوله: "ان مصر عزيزة علينا وعليّ بشكل خاص، ولكنها بكل اسف انتهت. والقاهرة على وشك السقوط، ولخوفي عليكم اتصلت بالشاه، واتفقت معه على ان اعرض عليكم اللجوء السياسي"! وهنا قلت له: "سيادة الرئيس لن ارد عليك، ولكنني سأطلب من اعضاء السفارة ان يردوا عليك بترتيبهم العكسي في السلك الديبلوماسي، يعني من اسفل الى اعلى، وبدأ امين المحفوظات بالرد قائلا: "ما هي مصادر معلومات رئيس الجمهورية... ما يقوله كلام فارغ وتخريف"! وتتابع اعضاء السفارة في ردودهم العنيفة على الرئيس الباكستاني، ثم جاء دوري فقلت له: "انا لست اقل وطنية منهم ومن امين المحفوظات"! وهنا قام الرجل وانتهت المقابلة". نقل الجامعة العربية... الى القدس ويتابع الزيات حديثه "في العام 1956 تمت ترقيتي الى منصب وزير مفوض وإرسالي الى الصومال. كانت الصومال وقتها نابعة لمجلس الوصاية، ولم تكن استقلت بعد، ولدى تعييني طلبت مني الخارجية ان اذهب الى نيويورك كي اقدم تقريراً الى مجلس الوصاية المكون من مصر والفيليبين وكولومبيا بالتعاون مع الحكومة الايطالية. وقد تشكل هذا المجلس بعد هزيمة ايطاليا في الحرب العالمية الثانية، وانتقال ارضها الافريقية ليبيا - الصومال وأريتريا الى انكلترا وفرنسا والولايات المتحدة، ولكن هؤلاء لم يكونوا شركاء وحدهم وإنما كانت معهم روسيا، ولأنهم كانوا لا يريدون دخول روسيا الى افريقيا، حاولوا ارجاع المستعمرات مرة اخرى لايطاليا عبر الأممالمتحدة، وكانت معركة استقلال ليبيا التي كسبها العرب بصوت واحد بعد ان تمكنوا من حبس احد مندوبي الدول في الجمعية العامة للأمم المتحدة في الحمام. اما الصومال فلم يكن من الممكن استقلاله عبر الجمعية العامة، لأنه لم يكن فيه اي شخص متخرج في الجامعة، او اي انسان مؤهل لأي منصب، وبالتالي اتفق المجتمع الدولي على ان يحكم الصومال مجلس وصاية لفترة موقتة. انتقلت الى الصومال لأبدأ حياتي الجديدة مع اسرتي في بلد ليس فيه ملعب ولا فندق، ولا ديبلوماسيون من بلاد اخرى. كنت اشفق على عائلتي من شعور افرادها بالوحدة، الا ان تعزيتي كانت في ان الاطفال وجدوا متعة كبيرة في مشاهدة الحيوانات في الغابة، حيث ادركوا ان الحياة شيء اكبر من الانسان، واعتقد ان من عوامل نضج ابنائي معيشتهم لفترة في هذه الاجواء. الطقس كان فظيعاً، درجة الحرارة لا ترتفع ولا تنخفض، الرطوبة عالية جداً لا يوجد لدينا وسيلة تسلية سوى بيانو اكلت الرطوبة اصابعه ولا يعمل. كانت وسيلتنا الوحيدة في أوقات الفراغ هي المشي على شاطئ المحيط الهندي. ولاحظت ان زوجتي كانت مكتئبة في احد الأيام، فقلت لها: "انت حزينة يا امينة للبقاء في الصومال؟ اذا كنت تريدين ان نعود غداً، فانني استطيع ان اعود منتصراً في مهمتي تكلل رأس اكاليل المجد!". وعندما سألتني كيف، أجبتها: "يمكنني ان اذهب الى حاكم الصومال الايطالي وأصفعه صفعتين وبالتالي سينزعج الرجل لكنه لن يستطيع ان يفعل شيئاً لأنني اتمتع بحصانة ديبلوماسية. ولكنهم سيعيدونني الى بلادي، ويقول الجميع ان الرجل الذي ضرب الحاكم تم ترحيله فأعود منتصراً، واستطيع ان اقول انني كنت احارب الاستعمار، فأحصل على المجد لنفسي، لا للوطن. اذا حدث هذا سيستقبلونني في مصر استقبال الابطال على رغم انني لم اقصد خدمة مصر ولكنني قصدت خدمة زوجتي". وقطبت امينة حاجبيها قائلة: "ولكن هذا سيكون خيانة لعملك الديبلوماسي وللصوماليين". وهكذا بقيت في الصومال على رغم المشاق التي اعرف انني عرضت عائلتي لها. وأعلن استقلال الصومال في 30 حزيران يونيو 1960 قبل الموعد المحدد له بستة اشهر. وعدت الى مصر لأتولى ادارة الشؤون العربية في وزارة الخارجية كما اصبحت في الوقت نفسه مندوب مصر الدائم في الجامعة العربية. وكلما تذكرت تلك الفترة، قفزت الى ذهني خاطرة عن واقعة مرت بي وقتها. ففي بداية الستينات كان الاردن وتونس في نزاع مع مصر. وطالب مندوبا البلدين بنقل مقر الامانة العامة للجامعة العربية من مصر الى تونس، وكان الذي يمثل الجمهورية العربية المتحدة مندوباً سورياً، بينما كنت انا ارأس لجنة الاجتماع وبالتالي لا اعبر عن رأي الجمهورية العربية المتحدة مصر وسورية. وهمست في اذن المندوب السوري بأن يعلن موافقته على مناقشة طلب نقل الامانة العامة للجامعة العربية من مصر اذا طالب احد المندوبين بذلك. وقام مندوب الاردن وألقى خطبة حماسية بدأها بالثناء على القاهرة لأنها قامت بواجبها طوال الفترة الماضية في استضافة مقر الجامعة، ثم اخذ يعدد اسباباً لا معنى لها توجب نقل المقر. وبادرته بسؤال: "ولكن الى اين؟" ثم طلبت من المجتمعين ان اعطي كلا منهم الكلمة، على ان يطرح عاصمته بديلاً للقاهرة في استضافة الجامعة، وسألت ما رأي الجمهورية العربية المتحدة، فقال مندوب سورية: قبلنا! وفي هذا التوقيت وصلتني تعليمته شخصية من حسين ذو الفقار صبري وكيل وزارة الخارجية وشقيق علي صبري بخط اليد افرش لهم الملاءة - وهو تعبير مصري يعني الردح او شيئاً من هذا القبيل - فأرسلت الى الرجل رداً على تعليمته: "ليس عندي ملاءة لأفرشها... ولكنني سأتصرف وفق الاعراف!". وبدأ مندوب الاردن وكان اسمه المرتجي في الحديث فطالب بنقل مقر الجامعة الى القدس. وهنا سألته: "وهل القدس عاصمة الاردن؟ اذا لم تكن تعرف فان الجامعة العربية كانت اتخذت قراراً بعدم الاعتراف بسيطرة الاردن على القدس". ولم يوافق احد. فعاودت سؤال مندوب تونس، اذا كان يرغب في نقلها الى بلاده، فتراجع ونفى. وهكذا انتهت هذه الجلسة التاريخية". وهنا اعلنت فض الجلسة.