سمو ولي العهد يُعلن إطلاق «مؤسسة الرياض غير الربحية» وتشكيل مجلس إدارتها    656 % نمو أعداد السياح الوافدين لأغراض الترفيه بالمملكة    الليلة السعودية تستعرض الفرص التعدينية    "قضايا معاصرة" يناقش تحديات التنمية المستدامة    «أخمرين» تطلب رصف وإنارة الطريق    بيشة: رئة «نمران» بلا أوكسجين !    أوروبا تصوّت على قرار جمارك سيارات الصين الكهربائية    وزير الخارجية: غياب المساءلة رغم الانتهاكات الإسرائيلية يشجع على التصعيد    وزير الخارجية يعلن إطلاق «التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين»    تقدير أممي لجهود مركز الملك سلمان الإنسانية والإغاثية في العالم    البرلمان العربي يدين الموقف الدولي المتخاذل.. مطالبة بوقف فوري للعدوان الإسرائيلي على غزة    ميزة جديدة.. «واتساب» يحجب رسائل المجهولين !    وكيل محافظة تعز ل«عكاظ»: مشاريعنا الإستراتيجية والحيوية بدعم كامل من السعودية    في ختام الجولة الخامسة من دوري روشن.. التعاون يستقبل الاتفاق.. والشباب يواجه الرائد    الجهني يغيب عن «كلاسيكو الجوهرة»    رونالدو يقود النصر أمام الريان    ضبط 15324 مخالفًا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    18 أكتوبر.. انتهاء مهلة تخفيض سداد المخالفات المرورية    اختبارات منتصف الفصل الأول للتعليم العام.. اليوم    في خمس مناطق للقراءة والتأمل.. «الرياض تقرأ».. رحلة بين السطور    رحلة إثرائية    التفكير النقدي    500 عمل فني تزيّن بينالي الفنون الإسلامية في جدة    وزير الثقافة للمبتعثين: القيادة تدعم تنمية القدرات البشرية في المجالات كافة    أحد رفيدة: مطالبات بتكثيف مكافحة الحشرات    طريقة عمل البسبوسة الناعمة    5 أسباب للكوابيس والقلق أثناء النوم    5 نصائح.. تسرِّع التعافي بعد جرعات العلاج الكيميائي    قبضة الخليج تلاقي ماغديبورغ الألماني    سيدات الطائرة يدشّنّ منافسات دورة الألعاب السعودية    سيتي يتعثر وليفربول ينتزع الصدارة    من دمَّر الأهلي ؟    رقم قياسي للهلال بعد الفوز على الخلود    دور أمانات المناطق في تحسين تجربة المواطن والمقيم    مفكران عراقيان: معرض الرياض الدولي للكتاب من أهم نوافذ الثقافة العربية    وزير التعليم: مبادرة البرامج الجامعية القصيرة (MicroX) يأتي ستنمي قدرات الطلبة في مهارات سوق العمل    الزواج التقليدي أو عن حب.. أيهما يدوم ؟    د.الشمسان: ثلاثة محاور رئيسية لتعزيز كفاءة القطاع الصحي    كيف سيرد حزب الله بعد مقتل قائده؟    بغلف وباربيع يحتفلان بعقد قران أصيل    الرّفق أرفع أخلاق نبينا الأمين    وكيل إمارة الرياض يحضر حفل السفارة الصينية    يوم مجيد توحدت فيه القلوب    سلمان الخير    ضبط مواطن في عسير لترويجه (9) كجم "حشيش"    جمعية إجلال لكبار السن بمركز الحكامية تحتفل باليوم الوطني السعودي ال٩٤ بالراشد مول بجازان    تكريم الكاتبة السعودية أبرار آل عثمان في القاهرة    الزهد هو المجد في الدنيا والمجد في الآخرة    وطني.. مجد ونماء    ايجابيات اليوم الوطني    مروّجو الأوهام عبر منصات التواصل الاجتماعي    جونسون يعترف: خططت لغزو هولندا لانتزاع لقاح كورونا    إدارة المساجد والدعوة والإرشاد في الريث تشارك ضمن فعاليات اليوم الوطني السعودي ال94    "الغذاء والدواء" تحذر من شراء مستحضرات التجميل من المواقع غير الموثوقة    رابطة العالم الإسلامي ترحب بإعلان المملكة إطلاق «التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين»    بحضور 3000 شخص.. أحد رفيدة تحتفل باليوم الوطني    محافظ هروب يرعى حفلَ الأهالي بمناسبة اليوم الوطني ال 94    رصد المذنب "A3" فجر أمس في سماء مدينة عرعر بالحدود الشمالية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رمضان في المجتمع العربي
نشر في الحياة يوم 22 - 03 - 1993

ارتبط رمضان في المجتمع العربي بألوان من العادات والتقاليد، قد تختلف في مظهرها قليلاً أو كثيراً من بلد الى آخر، لكنها تتفق جميعها في الخروج على نمط الحياة المألوفة. وتتميز هذه التقاليد بما تدخله من تغيير، فيه الكثير من المتعة والخلاص، على الرتابة اليومية التي يعيشها الناس باقي أيام السنة، وكان للتراث الشعبي في الماضي القريب شأن كبير في تحقيق ذلك وما زال له اليوم بعض هذا الشأن، وان اتخذ أشكالاً جديدة تناسب روح العصر وإمكاناته.
وقبل أن تستأثر الاذاعة والتلفزيون باهتمام الجماهير وتغير من أساليب الترفيه، بفنون التمثيل والرياضة، كان الناس يقبلون على الأدب الشعبي بوسائلهم المتاحة. والى جانب المتعة الفنية، كانوا يجدون في هذا الادب تعبيراً رمزياً عن بعض همومهم الذاتية والقومية قد لا يدركون دلالاته بصورة واعية، لكنها تمس في عقولهم ووجدانهم مواطن عميقة الغور، قد تأصلت عبر قرون طويلة من أحداث المجتمع ووقائع التاريخ.
وما زلت أذكر كيف كان لكل أسرة كبيرة في القرية قاعة خارجية للضيوف، وكيف كان يجتمع هواة السير الشعبية في تلك القاعات بعد العشاء فيتداول من يحسن بينهم القراءة فصول سيرة من تلك السير، حتى يحين موعد السحور. وكانت كل قاعة "متخصصة" في سيرة بعينها: واحدة لسيرة عنترة وأخرى لسيف بن ذي يزن، وثالثة لسيرة الظاهر بيبرس... وكان من الطريف أن تسمع أثناء النهار فلاّحاً أمياً ينشد أبياتاً من الشعر الفصيح وردت على لسان عنترة، أو يتحدث عن اسماء وشخصيات أجنبية من معسكر الفرنجة المناوئين للظاهر بيبرس.
ولعل تعلق الناس بتلك السير كان يعود الى أن أبطالها - على تفردهم - لم يكونوا شخصيات تاريخية خالصة، ولا اسطورية كاملة، يشعر المستمع العربي إزاءها بأنها منفصلة تماماً عن حياته الحاضرة، وعما يمكن أن يكمن في وجدانه الفردي والجماعي من هموم وطموح وتجارب. فقد كانت شخصيات تلك السير تجمع بين الوجود التاريخي الحقيقي، والتفوق الفذ الذي لا يبلغ حد الوجود الاسطوري، وبين هذين الوجودين تظل شخصية البطل شخصية صالحة لإثارة التطلع والطموح على المستوى الذاتي، والمستوى القومي عند الانسان العادي.
ومما كان يؤكد قرب ذلك البطل الفذ، من وجدان عامة الناس، أن تفوقه لم يكن كاملا، وانه لم يكن ليستغني تمام الاستغناء عن جهود من يعجبون به ويشاركونه كفاحه الشخصي والقومي. فكان المستمع الى سيرته يشعر بأنه يمكن أن يكون - بوجوده العادي المتواضع - مُعيناً لذلك البطل الفرد، بوسعه ان ينقذه من مأزق أو ينبهه الى ما قد تغفل عنه البطولة المعتدة بقوتها. فإذا كان عنترة فارساً، مغواراً، قادراً على الالتحام والمبارزة، فقد كان يواجه مواقف لا تفيد فيها قوته شيئاً، وكان لا بد له من أخيه "شيبوب"، الذكي الذهن الخفيف الحركة، الذي لا يجرؤ على الالتحام لكنه يرمي بسهمه من بعيد فيرد عن أخيه البطل غائلة الغدر أو خطر الغفلة. وإذا كان بيبرس قائداً بارعاً يجاهد كي يرد عدوان الفرنجة، فإنه لم يكن قادراً برغم بطولته الفذة على الاحاطة وحده بكل ما يمكن أن يكفل النصر، فكان لا بد له من "العيارين" ذوي الحيلة الواسعة والقدرة على التنكر.
وقد تتصل حياة البطل الشعبي في تلك السير ببعض المصاعب - وبخاصة في سيرة سيف بن ذي يزن - فيخف الى نجدته صديق قدير، لكنها لحظات عابرة يعود بعدها بطلاً بشرياً قريباً الى وجدان الإنسان العام.
وقد يدعو الى النظر أن هذه السير الكبيرة بكل مواقفها وشخصياتها ودلالاتها الانسانية والقومية وما فيها من قدرة على إثارة الفكر والخيال، لم تظهر في "دراما" اذاعية أو تلفزيونية، ولم تحظ فيهما إلا بنصيب يسير لا يكاد يذكر، ولا يقارن بما ظفر به أثر أدبي شعبي آخر هو "ألف ليلة وليلة". فقد اجتذبت قصصها جمهور المستمعين في الاذاعة منذ سنين طويلة وتعلق بها الناس، وأصبح لحنها الموسيقي المميز المأخوذ عن "شهر زاد" للموسيقي كورساكوف، لحنا مألوفاً جذاباً عند الكثير من المستعمين. ثم عادت الرواية نفسها فاستأثرت بإقبال المشاهدين في التلفزيون، حين تحولت الى مسلسلات تبهر المشاهدين بملابسها التاريخية وألوانها الجميلة واستعراضاتها الموسيقية واعتمادها على حيل التصوير وخدع الكاميرا في الحركة والمزج والفصل والاختفاء والظهور. على أن الجمهور بعد أن تعوّد ذلك كله، فقد انبهاره بالتدريج، وأصبح يتطلع الى متابعة قصة جيدة، فلا يجد في المسلسلات المأخوذة عن قصص ألف ليلة وليلة إلا مادة درامية ضئيلة جدا، ضائعة في ثنايا مقدمة طويلة من الموسيقى والاستعراض، وخاتمة أطول، يتكرران كل ليلة، ويفترض أن يستمتع المشاهد بهما على مدى ثلاثين ليلة كاملة دون ملل.
ومهما تكن قيمة هذا الأثر الشعبي، ومهما يكن من اقبال المشاهد العربي عليه خلال سنين مضت، فإن ايقاع الحياة في هذه الأيام وما جدّ من فنون تمثيلية عصرية وانشغال المشاهدين بهموم اجتماعية وسياسية واقتصادية ملحة في الوطن العربي والعالم أجمع، جعلت هذا الأثر الشعبي - على النحو الذي يقدم به التلفزيون - شديد التخلف عن روح العصر، بعيداً عن ذوق الجماهير حتى الاطفال منهم. فقد أصبح للأطفال برامج اكثر جاذبية، بايقاعها السريع وشخصياتها المبتكرة. التي تثير خيال الطفل وتزوده، بكثير من المعارف. واصبح واضحاً - برغم اختلاف المعدين والمخرجين والممثلين - أن هناك فجوة كبيرة بين هذا البرنامج وأذواق الجماهير وحاجاتهم. ولا شك أن ألواناً كثيرة احرى من الأدب الشعبي - غير هذا الأثر - ما زالت تحمل كثيراً من الامكانات الفنية والدلالات الاجتماعية، مما يجعلها ذخيرة صالحة لتأليف درامي جديد. لكن الامر في الحقيقة، يتجاوز الاهتمام المستمر المسرف بأثر شعبي واحد، الى قضية عامة تتصل برسالة التلفزيون في مجتمع كالمجتمع العربي، وبغايته بين الخبر والثقافة والمعرفة، والتسلية والترويح عن النفس.
وهناك اعتقاد سائد بأن المشاهد العربي - بوجه عام - لا طاقة له على تحمل الكثير مما يقدم اليه في مجال الثقافة والمعرفة، وأنه حريص على برامج التسلية الخفيفة التي لا تقتضي كثيراً من الجهد الذهني أو المشاركة الوجدانية، ويرى اصحاب هذا الرأي ان المشاهد يلتمس ما ينسيه هموم العصر ومشكلات الحياة وأنه ليس في حاجة الى مزيد من الهموم في أعمال تمثيلية حادة تجلب إليه - في رأيهم - ما يسمونه "النكد"، أو الكآبة، لذلك يحرصون على أن يقدموا اليه ألواناً من الكوميديا السطحية التي قد تثير الضحك الأجوف، لكنها تترك المشاهد في حال من الخواء الفكري والنفسي يلهيه عن همومه الذاتية والقضايا العامة في مجتمعه ووطنه.
والذين يقفون هذا الموقف من التمثيلية الجادة، يخلطون بين ما تبعثه في نفس المشاهد من "شجن درامي" يشحذ وجدانه اذ يتعاطف مع الآخرين في مآسيهم وبين الكآبة الثقيلة التي يجلبها اليه العمل الدرامي الرديء. ويخلط هؤلاء ايضاً بين التمثيلية الكوميدية الراقية التي ترصد أحوال النفس والمجتمع ومتناقضات الحياة بعين الناقد الساخر وبين "التمثيلية الهزلية" التي تدغدغ المشاهدين وتدخلهم في حالة "الضحك الجماعي" الذي يفقد الانسان بفعل التكرار خاصة، حسّه الحضاري المهذب، المصقول. وقد يفتح بصائرنا على ما في هذا الجنوح المسرف الى الترفيه المحض، من التقصير في حق الثقافة والمعرفة، ما كشف عنه برنامج متميز طريف يقدمه التلفزيون المصري بعنوان "كلام من ذهب"، يسأل فيه المقدم بعض من يصادفهم في الطريق اسئلة يفترض أن يجيب عنها من يتمتع بالحد الادنى من المعارف العامة. وكم تكون دهشة المشاهد المثقف بالغة حين يعجز هؤلاء عن الاجابة، وفيهم من نال قدراً عالياً من "التعليم"، حتى ان هناك من يخرج بإجابات تبعث على السخرية وتنبه الى ما وصل اليه التعليم والمناخ الثقافي عامة من تخلف. ولو أنصف القائمون على أمر التلفزيون العربي، لأعادوا النظر في "فلسفتهم" وفهمهم لرسالة التلفزيون، وأحسنوا الظن بالمشاهد وقدروا حاجته الى الثقافة والمعرفة، وقدموا اليه بعض ما لم يعد يتلقاه في المدرسة، ولا يقع عليه في حياته اليومية، من معارف لا يكتمل كيان الانسان العصري من دونها. وليس من العسير بعد ذلك ان نهتدي الى وسائل تجتذب المشاهد الى تلك المعارف، دون أن تحولها عن طبيعتها، لتصبح مجرد ذريعة للتسلية والترفيه.
والصائم في رمضان لا يعاني كل هذا الجهد، كي تطالعه برامج تلفزيونية تحولت عن طبيعتها العادية، الى انماط مكررة من الفكاهة السطحية، تتوالى تحت انظاره. وقد يكفي للحفاوة برمضان بعض برامج دينية متميزة، وبعض أعمال تمثيلية رفيعة، تضاف الى برامج التلفزيون المعهودة قبل رمضان وبعده.
رمضان في المجتمع العربي
بقلم الدكتور عبدالقادر القط
ارتبط رمضان في المجتمع العربي بألوان من العادات والتقاليد، قد تختلف في مظهرها قليلاً أو كثيراً من بلد الى آخر، لكنها تتفق جميعها في الخروج على نمط الحياة المألوفة. وتتميز هذه التقاليد بما تدخله من تغيير، فيه الكثير من المتعة والخلاص، على الرتابة اليومية التي يعيشها الناس باقي أيام السنة، وكان للتراث الشعبي في الماضي القريب شأن كبير في تحقيق ذلك وما زال له اليوم بعض هذا الشأن، وان اتخذ أشكالاً جديدة تناسب روح العصر وإمكاناته.
وقبل أن تستأثر الاذاعة والتلفزيون باهتمام الجماهير وتغير من أساليب الترفيه، بفنون التمثيل والرياضة، كان الناس يقبلون على الأدب الشعبي بوسائلهم المتاحة. والى جانب المتعة الفنية، كانوا يجدون دلالاته بصورة واعية، لكنها تمس في عقولهم ووجدانهم مواطن عميقة الغور، قد تأصلت عبر قرون طويلة من أحداث المجتمع ووقائع التاريخ.
وما زلت أذكر كيف كان لكل أسرة كبيرة في القرية قاعة خارجية للضيوف، وكيف كان يجتمع هواة السير الشعبية في تلك القاعات بعد العشاء فيتداول من يحسن بينهم القراءة فصول سيرة من تلك السير، حتى يحين موعد السحور. وكانت كل قاعة "متخصصة" في سير بعينها: واحدة لسيرة عنترة وأخرى لسيف بن ذي يزن، وثالثة لسيرة الظاهر بيبرس... وكان من الطريف أن تسمع أثناء النهار فلاّحاً أمياً ينشد أبياتاً من الشعر الفصيح وردت على لسان عنترة، أو يتحدث عن اسماء وشخصيات أجنبية من معسكر الفرنجة المناوئين للظاهر بيبرس.
ولعل تعلق الناس بتلك السير كان يعود الى أن أبطالها - على تفردهم - لم يكونوا شخصيات تاريخية خالصة، ولا اسطورية كاملة، يشعر المستمع العربي إزاءها بأنها منفصلة تماماً عن حياته الحاضرة، وعما يمكن أن يكمن في وجدانه الفردي والجماعي من هموم وطموح وتجارب. فقد كانت شخصيات تلك السير تجمع بين الوجود التاريخي الحقيقي، والتفوق الفذ الذي لا يبلغ حد الوجود الاسطوري، وبين هذين الوجودين تظل شخصية البطل شخصية صالحة لإثارة التطلع والطموح على المستوى الذاتي، والمستوى القومي عند الانسان العادي.
ومما كان يؤكد قرب ذلك البطل الفذ، من وجدان عامة الناس، أن تفوقه لم يكن كاملا، وانه لم يكن ليستغني تمام الاستغناء عن جهود من يعجبون به ويشاركونه كفاحه الشخصي والقومي. فكان المستمع الى سيرته يشعر بأنه يمكن أن يكون - بوجوده العادي المتواضع - مُعيناً لذلك البطل الفرد، بوسعه ان ينقذه من مأزق أو ينبهه الى ما قد تغفل عنه البطولة المعتدة بقوتها. فإذا كان عنترة فارساً، مغواراً، قادراً على الالتحام والمبارزة، فقد كان يواجه مواقف لا تفيد فيها قوته شيئاً، وكان لا بد له من أخيه "شيبوب"، الذكي الذهن الخفيف الحركة، الذي لا يجرؤ على الالتحام لكنه يرمي بسهمه من بعيد فيرد عن أخيه البطل غائلة الغدر أو خطر الغفلة. وإذا كان بيبرس قائداً بارعاً يجاهد كي يرد عدوان الفرنجة، فإنه لم يكن قادراً برغم بطولته الفذة على الاحاطة وحده بكل ما يمكن أن يكفل النصر، فكان لا بد له من "العيارين" ذوي الحيلة الواسعة والقدرة على التنكر.
وقد تتصل حياة البطل الشعبي في تلك السير ببعض المصاعب - وبخاصة في سيرة سيف بن ذي يزن - فيخف الى نجدته صديق قدير، لكنها لحظات عابرة يعود بعدها بطلاً بشرياً قريباً الى وجدان الإنسان العام.
وقد يدعو الى النظر أن هذه السير الكبيرة بكل مواقفها وشخصياتها ودلالاتها الانسانية والقومية وما فيها من قدرة على إثارة الفكر والخيال، لم تظهر في "دراما" اذاعية أو تلفزيونية، ولم تحظ فيهما إلا بنصيب يسير لا يكاد يذكر، ولا يقارن بما ظفر به أثر أدبي شعبي آخر هو "ألف ليلة وليلة". فقد اجتذبت قصصها جمهور المستمعين فيالاذاعة منذ سنين طويلة وتعلق بها الناس، وأصبح لحنها الموسيقي المميز المأخوذ عن "شهر زاد" للموسيقي كورساكوف، لحنا مألوفاً جذاباً عند الكثير من المستعمين. ثم عادت الرواية نفسها فاستأثرت بإقبال المشاهدين في التلفزيون، حين تحولت الى مسلسلات تبهر المشاهدين بملابسها التاريخية وألوانها الجميلة واستعراضاتها الموسيقية واعتمادها على حيل التصوير وخدع الكاميرا في الحركة والمزج والفصل والاختفاء والظهور. على أن الجمهور بعد أن تعوّد ذلك كله، فقد انبهاره بالتدريج، وأصبح يتطلع الى متابعة قصة جيدة، فلا يجد في المسلسلات المأخوذة عن قصص ألف ليلة وليلة إلا مادة درامية ضئيلة جدا، ضائعة في ثنايا مقدمة طويلة من الموسيقى والاستعراض، وخاتمة أطول، يتكرران كل ليلة، ويفترض أن يستمتع المشاهد بهما على مدى ثلاثين ليلة كاملة دون ملل.
ومهما تكن قيمة هذا الأثر الشعبي، ومهما يكن من اقبال المشاهد العربي عليه خلال سنين مضت، فإن ايقاع الحياة في هذه الأيام وما جدّ من فنون تمثيلية عصرية وانشغال المشاهدين بهموم اجتماعية وسياسية واقتصادية ملحة في الوطن العربي والعالم أجمع، جعلت هذا الأثر الشعبي - على النحو الذي يقدم به التلفزيون - شديد التخلف عن روح العصر، بعيداً عن ذوق الجماهير حتى الاطفال منهم. فقد أصبح للأطفال برامج اكثر جاذبية، بايقاعها السريع وشخصياتها المبتكرة. التي تثير خيال الطفل وتزوده، بكثير من المعارف. واصبح واضحاً - برغم اختلا المعدين والمخرجين والممثلين - أن هناك فجوة كبيرة بين هذا البرنامج وأذواق الجماهير وحاجاتهم. ولا شك أن ألواناً كثيرة احرى من الأدب الشعبي - غير هذا الأثر - ما زالت تحمل كثيراً من الامكانات الفنية والدلالات الاجتماعية، مما يجعلها ذخيرة صالحة لتأليف درامي جديد. لكن الامر في الحقيقة، يتجاوز الاهتمام المستمر المسرف بأثر شعبي واحد، الى قضية عامة تتصل برسالة التلفزيون في مجتمع كالمجتمع العربي، وبغايته بين الخبر والثقافة والمعرفة، والتسلية والترويح عن النفس.
وهناك اعتقاد سائد بأن المشاهد العربي - بوجه عام - لا طاقة له على تحمل الكثير مما يقدم اليه في مجال الثقافة والمعرفة، وأنه حريص على برامج التسلية الخفيفة التي لا تقتضي كثيراً من الجهد الذهني أو المشاركة الوجدانية، ويرى اصحاب هذا الرأي ان المشاهد يلتمس ما ينسيه هموم العصر ومشكلات الحياة وأنه ليسى في حاجة الى مزيد من الهموم في أعمال تمثيلية حادة تجلب إليه - في رأيهم - ما يسمونه "النكد"، أو الكآبة، لذلك يحرصون على أن يقدموا اليه ألواناً من الكوميديا السطحية التي قد تثير الضحك الأجوف، لكنها تترك المشاهد في حال من الخواء الفكري والنفسي يلهيه عن همومه الذاتية والقاضاي العامة في مجتمعه ووطنه.
والذين يقفون هذا الموقف من التمثيلية الجادة، يخلطون بين ما تبعثه في نفس اتلمشاهد من "شجن درامي" يشحذ وجدانه اذ يتعاطف مع الآخرين في مآسيهم وبين الكآبة الثقيلة التي يجلبها اليه العمل الدرامي الرديء. ويخلط هؤلاء ايضاً بين التمثيلية الكوميدية الراقية التي ترصد أحوال النفس والمجتمع ومتناقضات الحياة بعين الناقد الساخر وبين "التمثيلية الهزلية" التي تدغدغ المشاهدين وتدخلهم في حالة "الضحك الجماعي" الذي يفقد الانسان بفعل التكرار خاصة، حسه الحضاري المهذب، المصقول. وقد يفتح بصائرنا على ما في هذا الجنوح المسرف الى الترفيه المحض، من التقصير في حق الثقافة والمعرفة، ما كشف عنه برنامج متميز طريف يقدمه التلفزيون المصري بعنوان "كلام من ذهب"، يسأل فيه المقدم بِض من يصادفهم في الطريق اسئلة يفترض أن يجيب عنها من يتمتع بالحد الادنى من المعارف العامة. وكم تكون دهشة المشاهد المثقف بالغة حين يعجز هؤلاء عن الاجابة، وفيهم من نال قدراً عالياً من "التعليم"، حتى ان هناك من يخرج بإجابات تبعث على السخرية وتنبه الى ما وصل اليه التعليم والمناخ الثقافي عامة من تخلف. ولو أنصف القائمون على أمر التلفزيون العربي، لأعادوا النظر في "فلسفتهم" وفهمهم لرسالة التلفزيون، وأحسنوا الظن بالمشاهد وقدروا حاجته الى الثقافة والمعرفة، وقدموا اليه بعض ما لم يعد يتلقاه في المدرسة، ولا يقع عليه في حياته اليومية، من معارف لا يكتمل كيان الانسان العصري من دونها. وليس من العسير بعد ذلك ان نهتدي الى وسائل تجتذب المشاهد الى تلك المعارف، دون أن تحولها ِن طبيعتها، لتصبح مجرد ذريعة للتسلية والترفيه.
والصائم في رمضان لا يعاني كل هذا الجهد، كي تطالعه برامج تلفزيونية تحولت عن طبيعتها العادية، الى انماط مكررة من المفكاهة لاسطحية تتوالى تحت انظاره. وقد يكفي للحفاوة برمضان بعض برامج دينية متميزة، وبعض أعمال تمثيلية رفيعة، تضاف الى برامج التلفزيون المعهودة قبل رمضان وبعده.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.