«إحصائي مجلس التعاون»: الاقتصاد السعودي مزدهر ومستدام    فيصل بن فرحان يلتقي رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر    بعثة المراقبة الدائمة لروسيا لدى منظمة التعاون الإسلامي تحتفل باليوم الوطني السعودي    ضربات إسرائيلية تستهدف حزب الله مع تبادل القصف    «متحالفون من أجل إنقاذ الأرواح» تؤكد العمل لإنهاء الأزمة في السودان    دعم خليجي للقضية الفلسطينية    رحلة صندوق التنمية السياحي في تمكين مستقبل الاستثمارات في قطاع السياحة    الوحدة يتأهل لدور ال16 في كأس الملك بعد تغلّبه على الفيصلي بركلات الترجيح    نحلم ونحقق.. 990 أمان لكم    34 موقعًا لاحتفالات يوم الوطن 94 في محافظات جنوب الرياض    خادم الحرمين وولي العهد يتلقيان تهاني القادة بمناسبة اليوم الوطني    أمير تبوك: اليوم الوطني مناسبة لاستحضار مسيرة البناء    بدر الفيصل: ذكرى ملحمة التوحيد    اليوم الوطني ملحمة التاريخ    المملكة واليمن شراكة ومواقف ثابتة    شارك في الحدث رفيع المستوى بقمة المستقبل.. الربيعة: 4 تحديات تواجه العمل الإنساني    قائد محور البقع ل«عكاظ»: اليوم الوطني.. احتفاء بمسيرة عريضة من الإنجازات    اليوم الوطني ال 94 تجسيد للفخر والانتماء الوطني    التميمي: توظيف تقنيات الفضاء لمعالجة التغير المناخي    «المونديال» في قلب السعودية    القيادة تهنئ رئيس مالي    في كأس الملك.. النصر لا يخشى الحزم    للمرة الأولى في المملكة .. "الدمام" تستضيف أول بطولة دولية في كرة الطاولة    الحرص على مواصلة تعميق العلاقات البحرينية السعودية التاريخية التي أرسى دعائمها الآباء    استدامة.. تطور وقفزات    «فلكية جدة»: دخول «الاعتدال الخريفي 2024».. فلكياً    فيصل بن بندر يرعى احتفاء «تعليم الرياض» باليوم الوطني ال94    مناهج عصرية في التعليم.. الهدف بناء الإنسان    الشعر والعرضة والأهازيج الشعبية تزين احتفالات «مكس اف ام» بيوم الوطن    موهوبو المملكة يهدون الوطن 107 جوائز عالمية.. و582 ألفاً يتنافسون داخلياً    العرضة.. فنٌّ تراثيٌّ فريدٌ    بخطى متسارعة.. «غير النفطي السعودي» يتجاوز %4.4    الداخلية تطلق فعالية "عز الوطن 3" احتفاءً باليوم الوطني ال (94)    اليوم الوطني السعودي94..أمجاد تتجدد    مستهدفات عالمية .. وإنجازات حضارية    الأول من الميزان    بقيادة الملك سلمان وسمو ولي العهد.. السعودية.. أيقونة الازدهار والابتكار    كأس الملك .. القادسية يتغلّب على العروبة برباعية    شمس الوطن لا تغيب    أروح لمين ينصفني منك؟    يمثل أحد أهم مظاهر التحول التنموي والحضاري الكبير.. الحراك الثقافي في المملكة.. تحولات جذرية وانطلاقة عالمية    مسجلة في قائمة التراث العالمي في اليونسكو.. عجائب تراثية سعودية تبهر العالم    نحلم ونحقق.. اليوم الوطني السعودي 94    تأملات في الزمن والمسافة    الربيعة يتحدث عن التحديات والأزمات غير المسبوقة التي تعترض العمل الإنساني    اليوم.. أول أيام فصل الخريف فلكيا    "الأرصاد" استمرار هطول الأمطار على جازان وعسير والباحة ومكة    الموت يغيب مطوف الملوك والزعماء جميل جلال    «التعليم»: منع بيع 30 صنفاً غذائياً في المقاصف المدرسية    وداعاً فصل الصيف.. أهلا بالخريف    "قلبي" تشارك في المؤتمر العالمي للقلب    فريق طبي بمستشفى الملك فهد بجازان ينجح في إعادة السمع لطفل    اكتشاف فصيلة دم جديدة بعد 50 عاماً من الغموض    لا تتهاون.. الإمساك مؤشر خطير للأزمات القلبية    مصادر الأخبار    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. تنظيم المسابقة المحلية على جائزة الملك سلمان    مركز الملك سلمان: 300 وحدة سكنية لمتضرري الزلزال في سوريا    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالفيحاء في جدة يستأصل بنجاح ورماً ضاغطاً على النخاع الشوكي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الوسط" تنشر فصولاً من كتاب أميركي جديد يكشف أسراراً مهمة عن قضايا الشرق الاوسط الكبرى . متى وكيف بدأ التقارب بين أميركا وصدام حسين ؟
نشر في الحياة يوم 22 - 03 - 1993

حصلت "الوسط" على حقوق نشر كتاب اميركي جديد يكشف اسراراً ومعلومات مهمة عن السياسة الاميركية في الشرق الاوسط، وعن مجموعة قضايا بارزة تتعلق بايران والعراق والنزاع العربي - الاسرائيلي ومنطقة الخليج والمشكلة اللبنانية. الكتاب ألفه هاوارد تايشر، وهو مسؤول اميركي سابق عمل في وزارة الخارجية الاميركية ومجلس الامن القومي الاميركي في عهدي الرئيسين جيمي كارتر ورونالد ريغان وساهم في التخطيط للسياسة الاميركية في الشرق الاوسط. وكان اول منصب تسلمه تايشر هو محلل لشؤون الشرق الاوسط في وزارة الخارجية الاميركية في تموز يوليو 1977 في عهد كارتر، ثم تسلم بعد ذلك مناصب ومسؤوليات عدة ابرزها منصب مدير شؤون الشرق الادنى وجنوب آسيا ثم مدير الشؤون السياسية والعسكرية في مجلس الامن القومي في الفترة بين 1982 و1987. وقام تايشر بمهمات سرية وعلنية عدة في الشرق الاوسط، سواء في ايران او لبنان او مصر او سورية او اسرائيل او دول اخرى. ويرئس تايشر منذ 1989 شركة كومبيوتر، كما انه يعمل كمستشار لعدد من الشركات والدول في العالم. وقد ألّف هذا الكتاب الذي يحمل عنوان "الركيزتان الاساسيتان لعاصفة الصحراء" بالتعاون مع زوجته غايلي وهي خبيرة في القضايا الدولية ومكافحة الارهاب. وقد حصلت "الوسط" على حق نشر ابرز فصول هذا الكتاب وهو عبارة عن مذكرات تايشر، قبل اسابيع من صدوره في الولايات المتحدة. وما يهمنا من نشر الكتاب هو كشف المعلومات الواردة فيه من دون ان يعني ذلك تأييد مضمونه. وفي ما يأتي الحلقة الأولى التي تتناول موضوعين مهمين، الاول سقوط شاه ايران والثاني بدء التقارب بين الولايات المتحدة والعراق.
في تشرين الأول اكتوبر 1978 عملت كمحلل في مكتب "تحليل السياسة الاميركية في الشرق الادنى وأفريقيا وجنوب آسيا" التابع لنائب وزير الدفاع روبرت مري. وكانت ترئس هذا المكتب نانسي بيرغ. ومهمة هذا المكتب هي تقديم التحليلات للضباط المسؤولين عن مختلف البلدان في المكتب. وكان يفترض في هذا المكتب ان يضع تحليلات تساهم في تطوير السياسة الاميركية في المجالين الدفاعي والخارجي في تلك المنطقة في المستقبل.
في أواخر فصل الصيف وأوائل فصل الخريف من عام 1978 بدا من الواضح، حتى للخبراء الذين كانوا يرفضون في السابق الاعتراف بضعف مركز شاه ايران، ان العلاقات الاميركية - الايرانية تواجه مشاكل خطيرة. ولم يمض على التحاقي بالمكتب اسبوع واحد حتى كلفني بوب مري بتحليل عواقب ظهور نظام ايراني معاد للولايات المتحدة على تلك العلاقات. وفعلاً اعددت مذكرة لوزير الدفاع هارولد براون وصفت فيها النتائج السلبية لذلك الاحتمال:
1 - انكشاف الاسرار العسكرية المتصلة بالتكنولوجيا الاميركية العسكرية الحساسة لانها يمكن ان تقع في ايدي الاتحاد السوفياتي.
2 - فقدان محطات الاستماع السرية الموجودة على الحدود الايرانية - السوفياتية.
3 - الاضرار التي ستصيب الاقتصاد العالمي نتيجة فقدان النفط الايراني.
4 - انتشار "التطرف الاسلامي" في مختلف ارجاء الشرق الاوسط.
والواقع، انه كان هناك تناقض اساسي في سياستنا تجاه ايران. اذ كنا نسلح الشاه من جهة بينما كنا نقوض سلطته من خلال انتقادنا لسجله في مجال حقوق الانسان من جهة ثانية، مما ساعد على إثارة عدم الاستقرار، وهو ما كانت سياستنا تسعى اصلاً الى تفاديه. وقلت ان الشرط الاساسي المسبق لتأمين الاستقرار في المنطقة هو اظهار القوة الاميركية بصورة مستمرة وبشكل لا يترك اي مجال للشك في تصميم اميركا وقدرتها على حماية مصالحها. وقلت انه كلما سارعت الولايات المتحدة في اتخاذ اجراء عسكري حاسم كلما كان ذلك افضل.
وقبل ان ارسل المذكرة الى مري طلبت المشورة من زملائي في قسم شؤون الامن الدولي، وبشكل خاص من ضابط الاسطول جيمس كيلي الذي كان مسؤولاً عن مكتب الشؤون الايرانية. وكان كيلي وجد نفسه في مواجهة دوامة احداث الثورة الايرانية. وعندما تولى مكتب الشؤون الايرانية كانت تعليماته تقضي بالاشراف على مبيعات الاسلحة لايران والعلاقة العسكرية معها. وكانت كل قضية لها علاقة بالدفاع بين الولايات المتحدة وايران تحتاج الى مشاركة مباشرة من مسؤول المكتب الايراني. ولهذا كان الديبلوماسيون والصحافيون وكبار الموظفين ومتعهدو الدفاع وموظفو الكونغرس وغيرهم يستشيرونه. الا ان الثورة الايرانية حوّلت مهمة كيلي الى نوع من الكابوس. اذ ان كل شيء تقريباً في العلاقات الاميركية - الايرانية بدأ يسير في المنحى الخاطئ. وكانت كل الانباء السيئة ترد على مكتب كيلي الذي كان عليه ان يقدم ايضاً الاجابات الفورية على سيل الاسئلة التي كان البنتاغون يمطره بها.
ولكن على رغم كل ذلك باشر كيلي بدراسة مذكرتي. وبعد حوالي ساعة من الزمن جاء الى مكتبي ليقول لي انني اعيش في "عالم من الخيال والاحلام" اذا كنت اعتقد ان الولايات المتحدة ستلجأ الى استخدام القوة في الخليج. ومع انه لم يكن على استعداد للاعتراف بأن الشاه مصيره السقوط، فانه وافق معي على معظم تصوراتي للمضاعفات التي ستترتب نتيجة ذلك على المصالح الاميركية، لا سيما اذا ما قامت "دولة اسلامية متطرفة" بدلاً من ظام الشاه. لكن كيلي واصل القول: "ليس هناك أي احتمال اطلاقاً لأن تتدخل الولايات المتحدة عسكرياً في الازمة. اذ لا احد في هذه الادارة يؤيد استخدام القوة لحماية مصالحنا، وليس هناك احد فيها يفكر في استخدام القوة من ناحية استراتيجية". وختم كيلي حديثه بالقول: "أرجوك اترك فكرة التدخل العسكري وسأوافق على كل ما جاء في المذكرة". وعندما حاولت مناقشته في هذه النقطة رفع بصره الى سقف الغرفة ثم قال: "هاوارد... ألا تفهم؟ لقد اعطينا الشاه كل شيء طلبه منا لكي يستطيع حماية مصالحنا. ولكن من الواضح انه لا يستطيع كما ترى حتى حماية مصالحه. فما الفائدة اذن من محاولة انقاذه؟".
في كانون الثاني يناير 1979 عيّن الشاه شابور بختيار رئيساً للحكومة طبقاً للاجراءات الدستورية. وقرر الرئيس كارتر مساندة بختيار على امل ان تبدأ عملية سياسية منظمة في ايران بعد الشاه، مما سيساعد على انهاء العنف والابقاء على قدر من النفوذ الاميركي. ولكي يبيّن الرئيس الاميركي التزامه بالعملية السياسية في ايران ومعارضته لأي تدخل عسكري، أرسل الجنرال روبرت هيوسر من سلاح الجو الى طهران لكي يحث العسكريين الايرانيين على تأييد بختيار ومساندته، وتفادي اراقة الدماء لكي يتمكنوا بالتالي من الاعتماد على استمرار التأييد الاميركي. ومع ان الكثيرين من الخبراء افترضوا خطأ آنذاك ان مهمة الجنرال هيوسر كانت الحث على استخدام القوة العسكرية الشديدة لمواجهة الاضطرابات، فانها كانت في الواقع عكس ذلك تماماً. وكان هيوسر يرفع تقاريره الى وزارة الدفاع الاميركية من طهران يومياً خلال فترة اقامته هناك لمدة ثلاثة اسابيع. وقد رافقت مري في مناسبتين عندما توجه الى مكتب وزير الدفاع براون بينما كان يسجل ملاحظاته عن "المكالمات الهاتفية" المأمونة. وكان هيوسر يقول دائماً ان الجنرالات الايرانيين يسيطرون على الوضع وأن في وسع الرئيس كارتر أن يطمئن الى ان هؤلاء الجنرالات سيؤيدون بختيار. وكان من الواضح ان تقاريره لا تتفق اطلاقاً مع الحقائق الموضوعية. اذ أن البرقيات الديبلوماسية وتقارير المخابرات والتقارير الصحفية كانت كلها ترسم صورة واضحة، وهي ان السلطة المركزية بدأت تفقد سيطرتها بسرعة امام الحرس الثوري الايراني.
وسط هذه الظروف بدأت رئاسة الاركان المشتركة الاميركية تدعو الى نوع من "عرض القوة" العسكرية الاميركية لمساندة هيوسر ولكي تظهر واشنطن انها مستعدة لاستخدام القوة العسكرية اذا ما اقتضى الامر. لكن الدوامة التي واجهت الجميع هي كيفية التعامل مع ضبط النفس المستمر الذي انتهجه كارتر: بأي وسيلة يمكن للولايات المتحدة أن تقنع الاصدقاء والاعداء بأنها حليف موثوق وعلى استعداد لاستخدام القوة، بينما هي في الوقت نفسه ترفض شرعية ذلك؟
وفي الوقت الذي كان المسؤولون الاميركيون منهمكين في مناقشات حول كيفية التعامل مع الازمة الايرانية، رحل الشاه عن البلاد وعاد آية الله الخميني الى طهران في شباط فبراير 1979 وقامت الجمهورية الاسلامية.
"الانحياز الاميركي" الى العراق
بعد سقوط الشاه، طلب مني مري اعداد دراسة عن القدرات العسكرية الراهنة لكل من اسرائيل وسورية والاردن والعراق وأن أقارن بينها على اساس ان مصر ستظل خارج اطار اي حرب عربية - اسرائيلية جديدة بعد توقيع معاهدة كامب دايفيد.
وقد ثبت لي فيما بعد ان هذه الدراسة كانت من اهم المهمات التي قمت بها في حياتي المهنية. اذ ان الدراسة حللت ظهور العراق كقوة عسكرية حيوية متعاظمة، وأثارت تحليلاتها الكثير من الاسئلة عن اهداف العراق ونواياه واستراتيجياته وتكتيكاته ومصادر قوته ونقاط ضعفه، وهي اسئلة لم يكن احد في الادارة الاميركية أثارها من قبل. فمع ان وكالات المخابرات كانت تجمع المعلومات الاستخبارية عن العراق وتراقب سير العلاقات العراقية - السوفياتية وقدرة العراق القتالية الميدانية وانتاجه النفطي وامكاناته، فانني لم اجد اي تحليل داخل الادارة الاميركية او خارجها يجمع كل هذه المعلومات معاً لدراسة المضاعفات التي قد تنجم عنها على المصالح الاميركية. وكان يبدو ان هناك نقصاً شاملاً وكاملاً في الاهتمام بالنوايا العراقية، مما أثار انزعاجي.
لقد كانت اهمية العراق الذي يدعمه السوفيات في ميزان القوى واضحة. اذ اصبحت بغداد أهم خصم لعملية السلام وزعيمة لجبهة الرفض، كما انها كانت تنشر الراديكالية في العالم العربي عن طريق الترهيب. ولهذا مسك العراق بزمام المبادرة في العالم العربي لمحاولة منع توقيع معاهدة السلام بين مصر واسرائيل. وظل العراق دولة مواجهة منذ تأسيس اسرائيل. اذ انه ارسل قوات لمحاربتها في اعوام 1948 و1956 و1967 و1973. وعقب انهيار الشاه في ايران وظهور نظام معاد مكانه، لكل من اسرائيل والولايات المتحدة، اصبح النظام العراقي في وضع افضل، مما يعني انه لن يضطر الى ابقاء اعداد كبيرة من قواته على حدوده الشرقية. وسيكون ضعف ايران العسكري عاملاً مساعداً على انضمام العراقيين الى الجبهة الشرقية ضد اسرائيل. كما سيكون في وسع العراق ان ينشر قوات اكبر مزودة بأسلحة سوفياتية وفرنسية ضد اسرائيل. ومعنى ذلك ان العراق اصبح يهدد ميزان القوى الجديد الذي كانت الولايات المتحدة تأمل في تحقيقه للقضاء على اي احتمال بنشوب حرب عربية - اسرائيلية جديدة بعد توقيع معاهدة السلام المصرية - الاسرائيلية. يضاف الى ذلك ان العراق وسورية اللتين طالما تنافستا على زعامة العالم العربي، استخدمتا المناسبة على رغم الخلاف البعثي بينهما، لرأب الصدع وتسوية خلافاتهما ولو بصورة موقتة. ومع ان المصالحة بين الدولتين كانت قصيرة الاجل وشكلية فانها اظهرت كيف أدت جرأة السادات الى إحداث تغييرات خطيرة غير متوقعة في ميزان القوى الاقليمي.
لكن الخطر العراقي الواضح على مساعي السلام التي تمت باشراف اميركا لم يحل دون حدوث تطور آخر مثير للانزعاج، ألا وهو ظهور مفهوم في واشنطن ينادي بوجوب "انحياز الولايات المتحدة الى العراق في مواجهة ايران". وكان المنادي الرئيسي بهذه الفكرة مستشار الرئيس كارتر لشؤون الامن القومي زبغنيو بريجنسكي. اذ كان بريجنسكي يروج منذ كانون الثاني يناير 1979، في مختلف اجتماعات مكتب الشؤون الدولية ومجلس الامن القومي، لفكرة اعادة واشنطن النظر في علاقتها مع العراق.
ولم يكن هناك الكثير من الاهتمام بالعراق في مكتب الشؤون الدولية، باستثناء ما اظهره محلل واحد هو ريتشارد هاس الذي كان آنذاك مساعداً خاصاً في مديرية التخطيط. وكانت هذه المديرية تتولى المسؤولية الرئيسية للعمل مع هيئة الاركان المشتركة والقوات المسلحة في مجالات التحليل والمراجعة والاستعراض والتطوير والتنفيذ المتصلة بالبرامج والاستراتيجيات والمناورات وخطط العمليات العسكرية الطارئة في مختلف انحاء العالم. وفي عام 1989 أصبح هاس مدير شؤون الشرق الاوسط في مجلس الامن القومي في عهد الرئيس بوش.
وكان هاس يؤيد وجهة نظر بريجنسكي بأن على الولايات المتحدة أن تعوض عن خسارتها "العمود الايراني" عن طريق الميل نحو العراق. ومع انني كنت صديقاً لهاس ونشترك في عدد من المواقف والقضايا فانه كان يرفض باستمرار تحليلي للنوايا العراقية وقدرات بغداد. اذ كان يقول انني مفرط في التشاؤم كما انه لم يوافق على تقييمي لأهمية دور القيادة العراقية في تزعم جبهة الرفض العربية. وكان هاس مقتنعاً بأن على الولايات المتحدة ان تكافئ الاعتدال العراقي الجديد باتخاذ مبادرات تجاه بغداد. ومع اننا كنا ننهمك، بصورة منتظمة، في مناقشات حامية الوطيس للسياسة الاميركية نحو العراق، فاننا لم نستطع أن نغير رأي بعضنا البعض بالنسبة الى هذه النقطة الأساسية.
كان العراق قطع علاقاته الديبلوماسية مع الولايات المتحدة بعد حرب عام 1967. وبحلول عام 1972 عززت بغداد مكانتها في الفلك السوفياتي فتوصلت الى معاهدة صداقة وتعاون مع الاتحاد السوفياتي، وهي معاهدة ضمنت لها امدادات لا حدود لها من المعدات العسكرية والمساعدات الفنية، اضافة الى تأييد من دولة عظمى لبرامجها الراديكالية المعادية للغرب. ولكن العراق في الواقع لم يكن دولة تابعة للاتحاد السوفياتي. كما ان القيادة العراقية حددت مصالحها بوضوح، وكثيراً ما كانت تتصرف باستقلالية عن موسكو. كذلك طور العراق علاقات تجارية وتسليحية مهمة مع فرنسا.
وباتفاق الجزائر عام 1975 سوّت بغداد وطهران خلاف الحدود بينهما. وإثر ذلك استغل العراق السنوات اللاحقة من الهدوء النسبي عقب اتفاق الجزائر والثورة الايرانية لكي يركز طاقاته على التحديث الاقتصادي والعسكري. وما أن قاربت السبعينات على الانتهاء حتى بدأ العراق يسعى الى الخروج من عزلته داخل العالم العربي. اذ ان العراقيين لم يكونوا راضين عن علاقتهم مع الاتحاد السوفياتي. وفي عام 1978 أعدمت السلطات خمسين عضواً على الاقل من اعضاء الحزب الشيوعي العراقي بتهمة الخيانة، لكي تبين بغداد استياءها من الانقلاب الذي دبره السوفيات في افغانستان، ولكي تبين لموسكو ان بغداد لن تتساهل بأي شكل من الاشكال مع اتباع موسكو العراقيين اذا ما تدخلوا في الشؤون العراقية الداخلية.
لكن بريجنسكي الذي تجاهل العداء العلني الذي أظهرته بغداد لعملية السلام أصر على انه يمكن، بانتهاج الاساليب السليمة، إبعاد العراق عن موسكو. وتشجع بريجنسكي بما اتخذته السلطات العراقية من خطوات ضد الحزب الشيوعي العراقي، كما انه كان يميل الى الاعتقاد بأن بغداد ستتحول الى واشنطن فيما بعد مثلما فعلت مصر بعد حرب عام 1973 فاستنتج ان العراق سيحل مكان ايران بصفته "عموداً أساسياً" للاستقرار في الخليج.
ومع أن هذه الفكرة ظلت خفية لعام كامل تقريباً، فان بريجنسكي وآخرين في الادارة الاميركية بدأوا يقترحون بحلول عام 1980 علانية، ان العراق هو "الخلف المنطقي لايران لامتلاكه قوة عسكرية كبيرة. وأخذوا ينادون بوجوب بدء بناء علاقة جديدة بين بغداد وواشنطن. والواقع ان بريجنسكي أعلن في مقابلة تلفزيونية في شهر نيسان ابريل 1980، انه لا يرى هناك اي اختلاف جذري بين المصالح الاميركية والمصالح العراقية. فالعراق مثل الولايات المتحدة "يسعى الى أن يسود الامن الخليج"، كما ان الولايات المتحدة لا تريد استمرار القطيعة في العلاقات معه على رغم ان الطريق لتحسينها صعبة وطويلة. ويمكن اعادة هذا "الانحياز" الى جانب العراق ومناداة البيروقراطيين بتطبيق هذه السياسة مباشرة الى تلك الايام المشهودة من عام 1979.
ماذا يريد صدام حسين؟
اكتمل التحليل الذي أعددته في اوائل آذار مارس 1979. ووافق بعض المسؤولين على ان من الخطأ ان تنحاز الولايات المتحدة الى جانب العراق بينما كانت في الوقت نفسه تحاول مساعدة مصر واسرائيل على عقد صلح بينهما. ومع انني انجزت التحليل المطلوب فقد اتفقنا على ان أقوم بالمزيد من التحليلات للاستراتيجية العراقية ومضاعفاتها على المصالح الاميركية. وعلى رغم اننا لم نكن واثقين تماماً مما سيؤدي اليه ذلك التحليل فاننا كنا مقتنعين في الوقت نفسه بأن هناك قدراً من الاعتدال العراقي يفوق كثيراً كل المظاهر المعلنة.
رتبت دراستي عن العراق تبعاً للموضوعات الآتية: السياسة الخارجية، الشؤون الداخلية، السياسة النفطية، التطوير الاقتصادي والعسكري. وغرقت في البحث لحوالي عام. ووجدت انني بدأت أعثر على معلومات جديدة باستمرار، ومنها السري والعادي. وكان دوري ينصب على محاولة حل ذلك اللغز الذي يسمونه صدام حسين. فهل تغير صدام فعلاً الى الافضل؟ وهل تخلّى عن طموحاته وكراهيته الحقيقية للغرب بشكل عام واسرائيل بشكل خاص؟ أم هل كان صدام يرتدي بذكاء قناعاً لكي يرسم صورة من الاعتدال من أجل مساعدة العراق على الحصول على افضل التكنولوجيا الغربية من جهة ومواصلة العمل على تحقيق طموحه في قيادة العالم العربي والهيمنة على الخليج؟
عندما كنت طالباً درست تاريخ العراق الحديث والمعاصر حيث ركزت على هيمنة الاقليات على أجهزة القمع. وكنت اعتقد ان من المهم أن أعرف اكثر ما يمكن عن صدام حسين الذي كان آنذاك الرجل الثاني في العراق. وحتى في السبعينات لم يكن المرء بحاجة الى الحصول على معلومات سرية لكي يفهم الطبيعة الحقيقية للنظام العراقي. اذ ان المادة العربية وحتى المادة المكتوبة بالانكليزية على رغم قلتها عن النظام، لم تترك أي مجال للشك بما كان يجري داخل العراق. فتحت مظلة حزب البعث قتلت مجموعة صدام بكل وحشية خصومها واجتثت المعارضة لكي تعزز قبضتها على البلاد. وحتى المراقبين الذين لا يهتمون بالشؤون العراقية اعترفوا بوحشية صدام.
ومع مرور الوقت وجدت نفسي أحاول اقناع زملائي في مكتب شؤون الامن الدولي بحقيقة واقع السياسة العراقية والاتجاه الذي يسير فيه صدام حسين.
وفي تموز يوليو 1979 تخلص صدام من أحمد حسن البكر الذي كان رئيساً رسمياً للدولة، وعين نفسه رئيساً. وبحلول نهاية الشهر بدأت ترد أنباء تصف حملة التطهير التي شرع فيها صدام ضد خصومه ومنافسيه من مجلس قيادة الثورة البعثي. اذ عقد اجتماعاً طارئاً للمجلس لكي يستمع الى الاعتراف بالخيانة من محيي عبدالحسين المشهداني احد زعماء البعث. وما ان انتهى من اعترافه حتى قال ان كثيرين آخرين كانوا خونة. وإثر ذلك اعتقلوا على الفور. وهكذا أعدم اثنين وعشرين آخرين. ولكي يضمن صدام من العالم العربي ادراك الدرس فقد سجل الحادث على شريط ووزع نسخاً منه على الذين كان يحاول انتزاع اعجابهم.
وبعد أشهر من البحث والتحليل للمعلومات التي توفرت لديّ بدأت أحاجج بأن اهداف صدام واضحة وجريئة ولا مراء فيها: اذ لم يحدث أي تغيير او اعتدال جذري في نواياه وإنما لجأ الى بسط ستار من الاعتدال الظاهري على سياسته الخارجية. ففي داخل العراق والعالم العربي حيث كان صدام يكشف عن وجهه الحقيقي، كان يتصرف بقسوة ووحشية متعاظمتين. اذ بدأ يظهر في العالم العربي ميزان جديد للقوى على ضوء عزلة مصر وسقوط الشاه. وانتهز صدام الفرصة في هذه البيئة لكي يعرض نفسه بصفة "صلاح الدين الجديد"، "صلاح الدين الحديث" الذي يستفيد من الغرب ويفيده في مواجهة ايران - الخميني.
وتعلم صدام وناطقوه من ياسر عرفات، فبدأوا يتحدثون اللغة التي يريد مستمعوهم أن يسمعوها. لكن المرء لم يكن بحاجة لأكثر من قراءة ترجمات خطابات صدام اليومية ومقابلاته أو قراءة الصحف العراقية لتكوين صورة واضحة عن ذلك الشرق الاوسط المعادي للغرب الذي رسمه في مخيلته، اذ كان يتباهى بأن قدره هو تطهير الشرق الاوسط من نفوذ الغرب السياسي وتدمير اسرائيل في نهاية المطاف، وتشجيع النهضة الثقافية العربية في الوقت نفسه. وكان في وسع المرء من ناحية اخرى ان يكتفي بقراءة التقارير الديبلوماسية او المقابلات التي يجريها معه من حين لآخر صحافيون غربيون معيّنون كانوا في الواقع بمثابة ادوات دعاية لصدام. ففي تلك التقارير والمقابلات سيجد المرء اصطلاحات من قبيل "التحديث الاقتصادي" و"تحرير المرأة العراقية" و"خفض نسبة الوفيات بين أطفال العراق" و"تحسين مستوى التعليم" و"أهمية التكنولوجيا الغربية غير العسكرية في تطور العراق"، وما الى ذلك. وحتى على صعيد الصراع العربي - الاسرائيلي كان صدام يبدي اعتداله بذكر اسم اسرائيل من حين لآخر بدلاً من وصفه المعتاد لها "الكيان الصهيوني".
وأدرك صدام أيضاً ان الخطوة الأساسية في المواجهة مع اسرائيل هي تحقيق السيطرة على الخليج، اذ ان هذا الاجراء لن يعطيه القوة المالية اللازمة لشراء الاسلحة وانتاجها كما يشاء فحسب، بل وسيعطيه ايضاً الثمن السياسي الذي يريده من الآخرين. واقتناعاً من صدام بحاجة الغرب الماسة الى النفط، أدرك ان الهيمنة على امدادات النفط ستعطيه القدرة على انتزاع التنازلات السياسية التي يريدها في القضايا الرئيسية. وكانت استراتيجيته تقوم على اساس الاستثمار في قطاع النفط العراقي الذي أولاه أعلى أهمية بعد القطاع العسكري. ولهذا اتخذ العراق كل خطوة ممكنة لزيادة انتاجه النفطي، وبنى منشآت نفطية جديدة كما مدّ خطي أنابيب النفط الجديدين عبر الأراضي التركية والأراضي السعودية، وسعى الى التأثير في سياسة منظمة اوبك عندما تبنى استراتيجية رفع الاسعار الى اعلى مستوى ممكن.
وما أن ألغى العراق من جانبه اتفاق الجزائر وغزا ايران في ايلول سبتمبر عام 1980 حتى وصل انتاج النفط العراقي الى حوالي أربعة ملايين برميل في اليوم، ليصبح ثاني اكبر منتج بعد السعودية. ولو نجح العراق في الاستيلاء على مقاطعة خوزستان عربستان ومرافق النفط الايرانية في جزيرة خرج لأصبح صدام حسين يسيطر على قدرة انتاج نفطية تصل الى أحد عشر مليون برميل في اليوم، أي حوالي خمس الاستهلاك العالمي آنذاك.
الا أن طموحات صدام حسين لم تقتصر على المنطقة او حتى العالم العربي. اذ انه أراد ان يتولى زعامة حركة عدم الانحياز ايضاً. فطوال عامي 1978 و1979 تقاطرت شخصيات العالم الثالث على بغداد في زيارات اسبوعية. ومكافأة لتلك الدول على مديحها لمنجزات العراق الاقتصادية ونجاح برنامج التحديث العراقي، قدم لها صدام مساعدات اقتصادية مقابل تغطية صحفها العراق بصورة ايجابية ووعدها بتأييد زعامة العراق لحركة عدم الانحياز.
قوة العراق العسكرية
ولم يتوقف البناء العسكري العراقي عام 1979. اذ كان لدى العراق قدرة عسكرية هجومية كبيرة. والواقع ان مشتريات صدام في مجال المدرعات والمدفعية كشفت عن نواياه لبناء قوة عسكرية عظمى تصل في فعاليتها الى مسافات بعيدة وفي كل الاتجاهات. اذ لم يكتف بمضاعفة عدد الدبابات العراقية بين عامي 1973 و1979 بل وجاب العراقيون مختلف انحاء العالم لشراء ناقلات الدبابات. ومع نهاية عام 1979 اتضح ان العراق اشترى اكثر من ألف ناقلة دبابات، وهي عنصر مهم في أية مواجهة بين العراق واسرائيل او في اي غزو عراقي لايران او الكويت. وأعطت تلك الناقلات العراق القدرة على نقل قواته ومعداته العسكرية الى مسافات بعيدة من دون الحاق اي ضرر بالدبابات.
وفي مجال مساندة المدرعات والدبابات زود صدام القوات العراقية المسلحة التي كانت مقسومة الى 12 فرقة بألفي مدفع بعيد المدى، و3500 مدفع من عيار متوسط و450 طائرة حديثة اضافية وصواريخ سكود وفروغ ارض - أرض و12 طراداً حربياً و14 قارباً لاطلاق الصواريخ و250 طائرة عمودية هجومية.
الا ان هذا المجال من الاسلحة التقليدية لم يثر الكثير من القلق على رغم ضخامته. ومع ان العديد من المحللين في اجهزة المخابرات كانوا ينظرون الى العراق نظرة واقعية، وكانوا مقتنعين بأنه كان يحاول في الواقع تطوير سلاح نووي، فان اسرائيل هي الجهة الوحيدة التي كانت تقول ان العراق بات قاب قوسين أو ادنى من انتاج السلاح النووي.
وبالنسبة الى هذه المسألة لم تكن هناك أية أدلة راسخة. وكان العراق على عكس اسرائيل من الدول التي وقّعت على معاهدة عدم الانتشار النووي. كما ان مرافقه كانت تستقبل مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بصورة منتظمة. وكانت ايطاليا وفرنسا في مقدمة الدول التي تبيع العراق منشآت نووية ومختبرات أبحاث ومواد مشعة والخبرة اللازمة لتطوير برنامج نووي شامل. وكان المفاعل الذي باعته فرنسا الى العراق في غاية التطور.
وبرز دليل جديد على نوايا العراق لتخزين البلاتونيوم عندما أعلنت ايطاليا انها وافقت على بيع العراق "تكنولوجيا الخلايا الحارة" التي تمكن العراق من اعادة تخصيب اليورانيوم بفصله عن البلاتونيوم الذي لا يمكن استخدامه في توليد الطاقة. كما ان ايطاليا لم توافق على التقديرات التي كانت تشير الى ان العراق يعتزم استخدام ترسانته المتعاظمة لتحقيق اهدافه وطموحاته. وبعيد غزو العراق ايران، أعلن في تشرين الثاني نوفمبر عام 1980 انه ألغى حقوق الوكالة الدولية للطاقة الذرية في التفتيش على منشآته. ومع ذلك فان معظم المسؤولين الاميركيين العاملين في الشرق الاوسط لم يصدقوا أن العراق كان يطور سلاحاً نووياً.
لقد كان الافتقار الى الواقعية في الادارة الاميركية بالنسبة الى العراق يثير الذهول. اذ ان المسؤولين لم يكونوا على استعداد للتصديق بأن العراق يشكل خطراً على المصالح الاميركية، بل كانوا يقولون انه سينتهج في نهاية المطاف سياسة معتدلة ليصبح الشريك المقبول بدلاً من ايران. وقد أقنعوا انفسهم أن في وسع العراق ان يساعد على خدمة المصالح الاميركية في المنطقة. وهكذا أصبح الانحياز الى جانبه مسألة راسخة.
ولم يكن هناك الا قلة في وكالة المخابرات المركزية الاميركية سي.آي.أي تدرك قوة صدام ونياته بصورة واقعية. لكن احد المحللين العسكريين أسرّ لي أن رؤساءه أبلغوه بوجوب عدم التكهن عن النوايا العراقية وانما مراقبة البناء العسكري العراقي. ومن الواضح ان كبار المسؤولين في الوكالة كانوا يريدون الاقتناع بأن العراق تغير نحو الافضل.
وحددت دراستي التي اكتملت في تشرين الثاني نوفمبر 1979 المعطيات الآتية عن العراق:
1 - تعاظم نفوذ صدام السياسي في العالم العربي وفي العالم الثالث.
2 - قدراته العسكرية الراهنة والمتوقعة وبرنامجه النووي.
3 - قدرات انتاجه النفطية وقدراته على التصدير.
4 - تأييده مختلف الارهابيين الدوليين الذين يخدمون المصالح العراقية وفي مقدمة ذلك جبهة تحرير عربستان وجماعة أبو نضال.
واستناداً الى خطابات صدام حسين الرنانة باللغة العربية وقمعه واضطهاده بصورة مستمرة لأية عناصر معارضة داخل العراق، توصلت الى نتيجة واضحة واستخلاصات واقعية عن اطماعه والآثار السلبية لذلك على المصالح الاميركية. وخلاصة القول ان صدام كان يغيّر من صورته فقط لا من اهدافه. ولهذا فان تعاظم قوته وسقوط الشاه ولامبالاة المجتمع الدولي بممارساته ضد من يفترض انهم أعداؤه، كل هذا عزز من ايمانه بأن الاهداف التي سعى الى تحقيقها منذ اوائل الخمسينات أصبحت قريبة المنال.
المطالبة بالكويت
وعلى رغم الاضطراب الاقليمي الذي نجم عن الثورة الايرانية فانني لم أكن مقتنعاً بأن الايرانيين سيتراجعون كلياً امام القوة العسكرية العراقية. ولهذا فان النتيجة النهائية للحرب العراقية - الايرانية لا يمكن التسليم بها. وأخيراً، وهي نقطة في غاية الاهمية، قلت ان نجاح صدام في شن غزوه على ايران معناه انه سيصبح القوة الرئيسية في الخليج وسيسعى الى إملاء أسعار النفط وامن امداداته. ومثل هذا التطور سيلحق ضرراً بالاقتصاد العالمي وسيضعف ما بقي لأميركا من نفوذ في الشرق الاوسط ويعزز امكانية حدوث زحف سوفياتي في جميع ارجاء جنوب غربي آسيا. وفي مثل هذه الحالة ستضطر الولايات المتحدة الى الاذعان للهيمنة العراقية او الى دخول مواجهة مكشوفة معها. اضافة الى ذلك اكدت في دراستي ان من المحتوم أن يجدد العراق مطالبته بالكويت، وليس هناك ما يحول دون الاعتقاد بأن صدام حسين سيكون أقل رغبة ممن سبقوه في حكم العراق في تجديد ذلك.
وكان هناك شيء واحد في منتهى الوضوح وهو ان صدام يعتزم استخدام القوة العسكرية التي بناها العراق. وفي اواسط تشرين الثاني نوفمبر 1979 قدمت دراستي التي كانت تتألف من اكثر من خمسين صفحة بملاحق وفهارس مفصلة الى بوب مري واقترحت ارسالها الى وزير الدفاع براون، لا سيما ان آرائي فيها كانت مغايرة لآراء معظم العاملين في بيروقراطية الامن القومي. ووافق مري على ذلك.
في ذلك الحين كانت الادارة منهمكة كلياً في قضية الرهائن الاميركيين في طهران. وهكذا أعيدت دراستي عن العراق الى بعد حوالي شهر وهي تحمل علامة "اطلع عليها الوزير". الا ان الوزير كتب على هامشها بخط يده: "اختلف معك. اذ ان العراق تغير وعدّل من مواقفه". ولم يكن هناك أي تعليق آخر.
ونظراً الى رغبة الادارة اليائسة في حل مشكلة الرهائن، مع ايران ولأنها كانت تعتقد ان الوضع لا يمكن ان يزداد سوءاً اتضح لي ان الوزير براون كان قرر موقفه من العراق. ولما كان رئيسي لا يزال يعتقد ان الادارة قد تغير موقفها فانه سلم نسخة من الدراسة الى الجنرال وليام أودوم من موظفي مجلس الامن القومي في شباط فبراير 1980 على أمل أن ينقلها الى بريجنسكي ليقرأها. وبعد حوالي شهر أبلغ أودوم رئيسي أن بريجنسكي اطلع على الدراسة وفوجئ بمدى النشاط السياسي والعسكري العراقي، لكنه لم يكن مقتنعاً بالتحليل الوارد فيها. وهكذا بدأت عملية "الانحياز الاميركي" الى جانب العراق وتقررت، ولم يبق الا تحديد سرعتها ومداها.
والواقع ان الكثيرين من المحللين في الادارة الاميركية اطلعوا على دراستي. وكان الكثيرون منهم على خلاف مع رأيي ومع استنتاجاتي لا سيما إصراري على ان صدام حسين سيغزو ايران وسيستخدم العنف اينما كان ذلك ضرورياً لخدمة مصالحه. ورأى آخرون ان تأييد العراق للارهاب الدولي كان مقصوراً على النشاط المعادي لاسرائيل، بينما رأى الموالون للعرب في وزارة الخارجية ان الدراسة دعاية معادية للعراق.
وهكذا وبتوقيع معاهدة السلام بين مصر واسرائيل في آذار مارس 1979 تنفس الذين عملوا في سياسة الشرق الاوسط الصعداء على أمل أن عهداً جديداً بدأ يطل. وظهرت فرص جديدة لتوسيع اطار عملية السلام العربية - الاسرائيلية وبدء المفاوضات الخاصة بالحكم الذاتي في وقت مبكر. وكان الرئيس كارتر يأمل في أن يعوّض "اعتدال العراق وميله" نحو الغرب من فقدان الهيبة الاميركية عقب سقوط الشاه، وأن يساعد ذلك على تطوير سياسة أمنية جديدة تحمي المصالح الاميركية. ولكن سرعان ما تبددت هذه الآمال باحتجاز الرهائن الاميركيين في طهران في تشرين الثاني نوفمبر ثم بالغزو السوفياتي لأفغانستان في كانون الأول ديسمبر 1979.
الاسبوع المقبل:
الحلقة الثانية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.