من بين أكثر الطرائف التي يتبادلها الايرانيون تدليلاً على الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة في ايران طرفة تقول ان آخر سلاح استعمله السوفيات لحماية الشيوعية من السقوط كان الترسانة النووية التي بنوها طوال العقود الاربعة الاخيرة، في اشارة واضحة الى برامج التسلح الواسعة التي تقوم بها ايران، وسعيها بأي ثمن لبناء قوة نووية، وانفاق مليارات الدولارات على تطوير القدرات الهجومية، في الوقت الذي تبدو فيه قضية انتهاء الحرب مع العراق قبل سنوات واحدة من افضل الانجازات التي تحققت منذ سقوط الشاه اواخر السبعينات، ووصول آيات الله الى الحكم. وبالفعل، لا يجد الايرانيون ما هو افضل من المثال السوفياتي القريب من حدودهم لانتقاد خطط الحكومة الساعية الى بناء قوة عسكرية تتجاوز الاحتياجات الوطنية للبلاد، على حساب الاصلاح الاقتصادي الذي يفتقر الى الاستثمارات في ظل تراجع الثقة الخارجية ببرامج تنشيط الانتاج، واعادة بناء ما دمرته الحرب مع العراق، والحد من تفاقم معدلات البطالة، وتحسين الوضع الاجتماعي لغالبية الايرانيين. ويقول خبراء اقتصاديون زاروا ايران في الاشهر الاخيرة ان ازمة البطالة اعمق بكثير مما هي في البيانات والاحصاءات الرسمية، حتى انها تتجاوز اكثر التقديرات واقعية، وفي حين تقول تقديرات شبه رسمية، ان معدل البطالة ارتفع في العام 1992 الى 20 في المئة من مجموع القوى العاملة في البلاد، الا ان تقديرات اخرى تقول ان المعدل فاق هذا الرقم بكثير، ويجب الا يقل عن 30 في المئة، اذا ما اضيف الى عدد العاطلين عن العمل آلاف العاملين في الزراعة الذين اضطرتهم صعوبة العمل والعجز عن تصريف الانتاج، الى التخلي عن حقوقهم ومزارعهم، والتوجه الى المدن القريبة بحثاً عن مداخيل اقل، لكنها اكثر استقراراً، او التجمع في الساحات العامة، وهو مشهد يومي في المدن الايرانية الكبرى، حيث يقوم آلاف الشبان بانتظار فرص عمل افضل. ولا يعني ذلك ان الموظفين هم احسن حالاً، ومن الشائع جداً في ايران الحديث عن الرشاوى التي يلجأ اليها الموظفون الحكوميون لتحسين مستوى مداخيلهم الرسمية، بعدما تآكلها انهيار سعر صرف الريال الايراني، ونادراً ما يهتم هؤلاء الموظفون بالتحذيرات الحكومية من تطبيق العقوبات الصارمة بحق المرتشين. وغالباً ما يصطدم المستثمرون، على قلتهم، بأكلاف غير منتظرة، تتمثل في الضرائب المزاجية التي يفرضها الموظفون الحكوميون، من دون تفريق في مستوياتهم، وبشكل فاضح ومباشر، حتى ان معظم الصفقات لا يتم الا في المكاتب الحكومية. ويبرر موظفو الحكومة قبولهم الرشاوى والحصص، بحاجتهم الى تحسين ظروفهم المعيشية ومواجهة متطلبات عائلاتهم الا ان حجم ما يحصلون عليه لا يدل على انهم يسعون فقط الى توفير احتياجاتهم، وانما الى اكثر من ذلك، وربما الى تحقيق ثروات طائلة. ومع ذلك، فإن غالبية الايرانيين لا زالت تعيش دون مستوى الحد الكافي، ومن الاكيد ان الالوان الزاهية للمحلات التجارية وعودة الاسماء الاجنبية، خصوصاً اليابانية الى واجهة المتاجر، يجب الا تعني ان المصاعب الاقتصادية دفنت الى الابد، وان ايران استعادت ما خسرته من ازدهار في السنوات العشر الاخيرة. ويجمع معظم المتابعين لتطور الوضع في ايران على ان الاشهر القليلة المقبلة ستكون كافية لكشف المزيد من المصاعب والمشاكل، في بلد يقال ان حكوماته لم تعرف حتى الآن الا "ما لا تريده" في حين ان "ما تريده" حقاً لم يظهر بعد، او على الاقل ما زال عرضة واسعة للتجاذب، وحتى ولو بدا ان الرئيس الايراني هاشمي رفسنجاني نجح في ابعاد المعترضين على سياساته المعتدلة نسبياً عن مواقع القرار، واستبدالهم بآخرين اكثر استعداداً للاعتراف بأخطاء المرحلة الماضية، وبحاجة ايران الى مزيد من الواقعية. ويعترف مسؤول ايراني بالصعوبات الاقتصادية المتفاقمة التي ستواجهها ايران في العام الجاري، والاحتمالات المتزايدة لخسارتها سمعتها التجارية في الاسواق الخارجية نتيجة عدم الوفاء بالتزاماتها تجاه الدائنين. وطبقاً لتقديرات رسمية فإن العائدات النفطية المتوقعة في العام الجاري لن تزيد في افضل الحالات عن 17 مليار دولار تقابلها مستحقات تجارية تأخر سدادها حتى الآن اكثر من 4 اشهر وتبلغ قيمتها حوالي 2.5 مليار دولار. ومن المتوقع ان تستحق مبالغ اضافية تقدر بما بين 7 و8 مليارات دولار في الاشهر المقبلة، في وقت بدأت فيه مؤسسات تمويل دولية مراجعة سياساتها تجاه ايران، خصوصاً مؤسسات التمويل الاوروبية واليابانية التي قامت سياستها في الاصل على زيادة حصتها في السوق الايرانية، مع التوقعات التي كانت تقول بأن طهران تعلمت من الدروس ما يكفي للانصراف الى اعادة هيكلية اوضاعها الاقتصادية وانعاش قطاعها النفطي. ويقول خبراء ايرانيون، انه ليس امام الحكومة سوى اللجوء الى اعادة جدولة ديونها التجارية وتحويلها الى ديون متوسطة او طويلة الاجل، الا ان مثل هذه الخطوة ليست بسهولة كافية لقبولها في دولة تتميز بحساسية خاصة في موضوع الديون الخارجية. ويقول هؤلاء الخبراء ان وضع الرئيس رفسنجاني سيكون اكثر تعقيداً في ظل الانتخابات الرئاسية في حزيران يونيو المقبل، في اشارة واضحة الى الاحتمالات القوية، برفض سياسة وزارة المال والبنك المركزي الداعية الى تقييد الاستيراد من الخارج، لتوفير ما يكفي من العملات الصعبة لتغطية الديون المستحقة. ويجمع معظم المراقبين الاقتصاديين في طهران على ان ايران ستكون الاكثر حساسية تجاه اي انخفاض في اسعار النفط الى ما دون 17 دولاراً للبرميل، وقد يكون الرئيس رفسنجاني والتيار المعتدل الذي يؤيده في مراكز القرار الاقتصادي الاكثر سعادة اذا ما نجحت الاجراءات القائمة حالياً في استعادة الاسعار المتفق عليها داخل منظمة "اوبيك". ويعترف مسؤولون ايرانيون بأن طهران التي بدأت تنفيذ برامج انفاق في العامين الماضيين اتكلت على العائدات التي حققتها اسعار النفط في العام 1990، في ظل الاجتياح العراقي للكويت، والمخاوف التي سيطرت على الاسواق الدولية من احتمالات توقف الامدادات النفطية من الشرق الاوسط والخليج العربي، الا ان "رياح" السوق النفطية لم تجر كما اشتهت ايران، فتراجعت الاسعار، الامر الذي فرض على الاقتصاد الايراني استيعاب الانكماش.