يدور في اسرائيل نقاش يبدو جدياً حول الانسحاب من مستعمرات قطاع غزة في إطار إعادة الانتشار الاسرائيلية الأحادية الجانب في المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967. وما يبدو كأنه صراع يخلط الاوراق الإعلامية بعد الاغتيالات ورسالة الضمانات الاميركية هو في الواقع صراع منضبط داخل القبيلة الاسرائيلية في شأن افضل الطرق للحفاظ على اكبر قسم ممكن من مستوطنات الضفة الغربية تحت السيادة الاسرائيلية. ويعلم حتى آخر المعارضين الليكوديين الجديين لإعادة الانتشار في غزة أنه لا مستقبل للاستيطان اليهودي فيها. ولكنه خط الدفاع الاول عن مستعمرات الضفة. وبموجب منطقه يجب ان ترى المؤسسة الاسرائيلية الحاكمة معركة حقيقية في غزة لكي تفكر الف مرة قبل ازالة اي مستوطنة في الضفة. بذلك تتحول ضمانات بوش الى مجرد نقطة انطلاق جديدة،"مكسيموم"جديد سيتهم الفلسطينيون بالتطرف اذا تمسكوا به. انه نقطة انطلاق لتوسيع تعريف"الحقائق السكانية"التي يجب ان يأخذها الحل في الاعتبار على حد تعبير بوش. ويجب ان تساعد المعركة التي يخوضها شارون الرأي العام العالمي على الادراك ان حكومة اسرائيل لا تستطيع ان تخوض معركة سياسية داخلية كهذه كل عام. وهذه ليست أول مرة يتم فيها الصراع الديموقراطي داخل الدولة الاستعمارية على حساب الشعوب المعرضة للعدوان. وهذه ليست أول مرة تعتبر فيها قضية الشعب الواقع تحت الاحتلال تشعباً لقضايا اسرائيلية داخلية، فكم بالحري عندما تكون القيادات العربية والفلسطينية في حال انتظار، انتظار أي شيء،"انتظار جودو"مع المعذرة من صموئيل بكيث ومن كافكا ومن غيرهما، او في حال ردود فعل على ما يفعله شارون. على كل حال الضغط الحالي في"الديموقراطية الاسرائيلية"يأتي من اليمين. والموضوع الفعلي للجلبة الصادرة عن"ليكود"هو الدفاع عن مستوطنات الضفة وليس عن مستوطنات غزة. وخطة شارون برأينا غير معرضة"للخطر". إنه توتر الدراما حتى اللحظة الاخيرة، ويخرج منها شارون منتصراً ويبدو فيها المجتمع الاسرائيلي كأنه اختار السلام، وفي الواقع يكون قد اختار الاجماع الوطني الاسرائيلي على ضم مناطق من الضفة الغربية وعلى رفض حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وعلى التمسك بالعلاقة الاستراتيجية مع الولاياتالمتحدة. تتم هذه الصراعات على خلفية شأنِ أثار وسائل الاعلام الاسرائيلية من خارج الاجماع واوضح كم هذه القبيلة قبيلة. وبالفعل انجرفت المؤسسة الإسرائيلية والرأي العام الذي تستثيره بسهولة ويسر من مفهوم الجناية والعقاب إلى أجواء الخطيئة والنجاسة والانتقام في التعامل مع قضية موردخاي فعنونو. وما زلت أذكر ذلك اليوم الذي قزم فيه ذهولنا من تصريح بروفيسور يشعياهو لايبوفتش عن فعنونو، الخبر نفسه عن فعلة فعنونو وعن قصة اختطافه البوليسية. لقد قص الرجل لل"صانداي تايمز"ما يعرفه كل مواطن متوسط، وما يعتبره شمعون بيريز رصيده السياسي الكبير ويفاخر به من أيام بناء مفاعل ديمونا والتعاون النووي مع فرنسا في فترته كمدير لوزارة الأمن الاسرائيلية، وما تعتبره السياسة الاسرائيلية الرسمية استراتيجية ردع، وما صرح به صراحة رئيس الدولة الاسرائيلي البروفيسور إفرايم كتسير حول تملك اسرائيل للسلاح النووي، ثم أخرس التصريح اياه صمت اعلامي رهيب. لم نستغرب من سلوك فعنونو بقدر ما اثار استغرابنا تصريح لايبوفتش المعروف بمواقفه الحادة ضد الاحتلال رغم تعريفه لذاته أنه صهيوني ومتدين يفصل بين الأمرين، أي الصهيونية والتدين. قال لايبوفتش في حينه:"فعنونو هو حثالة الجنس البشري". وعندما سئل عن مغزى هذا التصريح أعاده الى تغيير فعنونو دينه، وهو أمر حظر على اليهودي حتى في أصعب ظروف الملاحقة بقرض ديني: أن"يقتل ولا يرتكب هذه المعصية". أي أنه اشبه بالمرتد الذي يحق قتله في حال الأصولية الاسلامية. وقد اتهم مثقفون عرب بالارتداد وعوملوا بقسوة شديدة ومثيرة. وفي نصر حامد ابو زيد عبرة، وهو لم يرتد ولم يغير دينه بل اتهم فقط بالارتداد. على كل حال، تعاملت المؤسسة الاسرائيلية مع فعنونو كأنه مرتد. وهو مرتد عن الدينين، وليس عن دين واحد. وهنا منبع وسر تراكم هذا الحقد كله. لقد ارتد عن الدين اليهودي إلى نصرانية انغليكانية تصادفت مع وجوده في بلدها، اي انه لم يخترها من بين خيارات دينية وفلسفية، وارتد ايضاً عن الدين الامني العسكري الذي يمكن تسميته بالعبرية ب"طحونيزم"النزعة الأمنية الذي يقدس الجيش واسرار اسرائيل العسكرية حتى تلك المعروفة للقاصي والداني. وهنا أود لو أذكِّر أن نظرية المؤامرة العربية لم تتجاوز هذا الرجل في حينه. فقد كتب كثير من المعلقين العرب ان تصريحات فعنونو لل"صانداي تايمز"هي مؤامرة موسادية خبيثة تهدف إلى نشر أفكار الردع الاسرائيلية بين العرب لكي"تردع وتحبط العرب". اختلفت اللهجة العربية الآن في اتجاه اعتباره نقطة ضوء وبطلاً وبديلاً من داخل المجتمع الاسرائيلي. على كل حال ما قام به الرجل على رغم انه ليس عالماً يشبه ما قام به علماء وعسكريون سابقون في الغرب بانتقالهم إلى حركة السلام في بلادهم ضد التسلح النووي. ولم يعتبروا خونة ولا جواسيس. في اسرائيل اعتبر فعنونو خائناً وجاسوساً ومرتداً في الوقت ذاته. لم يقبض فعنونو ثمن المعلومات التي أدلى بها، ولم يتجسس لمصلحة دولة اجنبية بل خرج إلى الرأي العام. حملة التحريض عليه والانتقام منه وسجنه زادته صلابة وتمسكاً بموقفه إلى ان انقطع الخيط الأخير بينه وبين مجتمعه. ما هي دوافعه؟ هل هي أخلاقية، دينية، شخصية، سياسية... ربما... لا ندري، وقد لا يدري هو. ولكنه يصيغها صياغة سياسية. وهذا حسن. وقد دفع ثمن مواقفه غالياً. ولكن ما قام به لم يحرج اسرائيل في الموضوع النووي ذاته، فهو معروف، لا جديد فيه... وتعترف اسرائيل به عملياً. انها اسرائيل نفسها التي ترفض علناً التوقيع على معاهدة حظر انتشار الاسلحة النووية. ما أحرج اسرائيل برأيي هو ان نظامها السياسي والاجتماعي التعبوي يضطرها الى التعامل بهذا الشكل الانتقامي مع مواطن خرج عن مألوفها ومقدساتها. ما احرجها انها بُنِيت بشكل لا يمكنها من غض النظر عن... او التساهل مع... او"ان تكبّر عقلها"بالنسبة لفني نووي سابق توجه الى الرأي العام بواسطة صحيفة وأورد شهادات تثبت صحة ما هو معروف للجميع. فبالنسبة الى اسرائيل يؤدي التسامح مع هذا السلوك الفردي الخالص الى انهيار وحدة القبيلة. لقد تم استنفار القبيلة بنبذ الرجل والتبرؤ منه. وقد شمل السلوك النابذ الى درجة الاستعاذة بالله من النجاسة، اليسار واليمين على حد سواء. سوى اوساط اخلاقية، فردية الطابع ايضاً، في اليسار. وهكذا استمر عقابه الاجتماعي بعد نهاية عقوبته القانونية الرسمية القاسية اصلاً. وليس لدى اجهزة الأمن الاسرائيلية أي اشارة او دليل عن الخطر الذي يشكله فعنونو الآن، ومع ذلك تستمر العقوبات الادارية اضافة للنبذ والاقصاء الاجتماعي. ولكن الاحراج ليس نابعاً من خصوصية الرجل بقدر ما ينبع من خصوصية اسرائيل. خذ مثلاً عملية تغيير الدين التي تعتبر خطوة سلبية في غالبية المجتمعات وليس في اسرائيل فقط. ومع ذلك ففي اسرائيل يعتبر هذا الامر مشكلة حقيقية. فما هي قومية فعنونو الآن؟ هذا وحده مصدر احراج شديد. لقد تحول الى انغليكاني ولم يتحول الى انكليزي وهو لا يدعي انه عربي مغربي مثلاً، وبقي مواطناً اسرائيلياً. فهل هو مسيحي اسرائيلي؟ ولكن اسرائيل لا تعترف بالاسرائيلية كقومية كما هي الحال في فرنساوالولاياتالمتحدة. يعج التاريخ الاسرائيلي بأسماء افراد خرجوا عن وحدة القبيلة وتم التحريض عليهم الى درجة الاقصاء الاجتماعي الشامل. وعندما يجتمع الاعلام الاسرائيلي على فريسة فإنه يجعلنا نشفق حتى على الحنان تننباوم الذي لا شك انه يهمس في داخله" سقا الله ايام حزب الله". فالأسر عند"حزب الله"كان أسهل بكثير من الحملة الاعلامية عليه وعلى عائلته وعلى ماضيه. والقبيلة الاسرائيلية تعرف كيف تؤكد ذاتها عبر التعددية وحتى عبر اقلام النقاد في حدود القبيلة، في حدود ال"نحن"القبلية. ويستشرس هؤلاء في الهجوم على من يهدد مكوناتها او مسلماتها الاساسية. وهذه ليست احتلال عام 67، ولا التمييز ضد العرب في الداخل، هذه كلها بحد ذاتها ليست من مسلمات القبيلة. الامر يتعلق بالتوجه وبمنطلق النقد ضد الاحتلال. وقد تثار احدى المسلمات في خطوة تبدو في البداية عديمة الضرر. ويستغرب المراقب أحياناً مدى الخطر والانفعال الاجتماعي الذي يثيره سلوك فرد في بعض الحالات. والحالة الفردية التي تتداعى الى الذهن وتبدو ايضاً كحالة مس بالمسلمات هي حالة ييغال عمير، قاتل رئيس الحكومة رابين. لا شك انها صدمة حقيقية في التاريخ الاسرائيلي ان رئيس الحكومة الوحيد الذي تم اغتياله في اسرائيل قتل بيد شاب يهودي. واذا لم يكن هذا تهديداً لوحدة القبيلة، فما هو التهديد؟ والحقيقة انه لا شبه بين الحالتين. وقد يذهب ما سأقوله الآن ابعد مما ينبغي، ولكن لا يهم ان يذهب الكلام بعيداً عن المألوف، المهم ان يقترب من الحقيقة، حقيقة الواقع ذاته برأيي. لقد قتل ييغال عمير رابين باسم وحدة القبيلة، وهو، خلافاً لفعنونو، لم يخرج عنها بل اكدها في وجه من هدد وحدتها بنظر اليمين الاسرائيلي. لم يهدد رابين وحدة القبيلة بالتنازل عن أراضٍ في الضفة الغربية وقطاع غزة، هذا ما سيقوم به شارون أيضاً. وكاتب هذه السطور لا يأخذ بجدية صراع اليمين الليكودي معه على التنازل عن مستوطنات غزة على رغم الضجة الكبرى، ويعتبرها مقدمة للصراع على مستوطنات الضفة الغربية، كما بينا اعلاه. لقد قام اليمين بإقصاء رابين واعتباره خاطئاً من خطيئة وعاصياً من معصية وليس مُخطئاً من خطأ لأنه تنازل عن الغالبية اليهودية عند اتخاذ القرار حول هذه الموضوعات وبذلك هدد شرعية ووحدة القبيلة. فالديموقراطية الاسرائيلية هي ديموقراطية القبيلة. ولا شك ان اعادة اللحمة للقبيلة بعد قتل رابين تتطلب معاقبة ييغال عمير عقاباً شديداً، وقد حرض اليسار الاسرائيلي عليه بمنهجية وبشكل متواصل. ولكنه لم يعد للحكم الا مستنداً في قراراته على غالبية يهودية. هذا ما استفاده باراك من تجربة رابين. ويتطلب الحفاظ على وحدة القبيلة مع اليسار الصهيوني من اليمين الصهيوني عدم المطالبة بالعفو عن ييغال عمير. ولكن عمير لا يثير القرف ولا الاشمئزاز ولا الشعور بالنجاسة في اسرائيل. لقد عرَّض الديموقراطية الاسرائيلية للخطر وليس يهودية الدولة، وهذه في نظر اليمين مسألة شكل الدولة وطابعها وليس جوهرها. ويتنافس ممثلو اليمين في ادانته بتعابير قاسية لتأكيد التزامهم الديموقراطية اليهودية، ولكن لا يستطيع أحد اخفاء وجود معسكر اسرائيلي واسع لا ينبذ عمير ولا يتعامل معه كأنه خرج عن القبيلة. ولا يستطيع البعض ان يخفي تعاطفهم مع هذا الشاب الذي وقع برأيهم ضحية خطة مخابراتية اسرائيلية لاغتيال رابين نسخة اسرائيلية عن نظرية المؤامرة. بين حالتي فعنونو وعمير اللذين كسرا صورة الشاب اليهودي الشرقي كلٌ بطريقته تدور الصراعات داخل المجتمع الاسرائيلي. وبين الخروج عن القبيلة وبين تأكيد القبيلة لذاتها بقوة السلاح حسم الصراع حالياً لمصلحة الخيار الثاني، ومن هنا الرمزية في مغادرة اليهودية، مغادرة الهوية ذاتها من قبل ذلك الذي كسر المسلمات. ومن نافل القول أن هذا يتضمن تنازلاً عن محاولة التأثير وشعوراً مسبقاً باستحالته من داخل القبيلة طالما كسرت المسلمات. ولا ادري اذا كانت هذه نقطة ضوء. * نائب عربي في الكنيست الاسرائيلية.