يتفق عدد من الخبراء الغربيين في الشؤون الروسية على ان الرئيس الروسي بوريس يلتسين يواجه حالياً مصاعب كبيرة داخل بلاده، سواء على الصعيد السياسي او الاقتصادي او الاجتماعي. وقال لپ"الوسط" روبرت هول المتخصص في الشؤون السوفياتية سابقاً والروسية حالياً في مؤسسة المعلومات التي تصدر عنها مجلة "جينز ديفانس ويكلي"، ان وزارة الخارجية الروسية، ومن خلفها الفريق الاصلاحي الذي يقوده يلتسين، ليست مطلقة الحرية في اتخاذ القرارات المتعلقة بالقضايا الدولية، فهي مرغمة بصورة دائمة على ايجاد نوع من التسوية بين التوجهات الاصلاحية من جهة وبين توجهات القوى السياسية في مؤتمر نواب الشعب الذي تسيطر عليه أغلبية معارضة من الشيوعيين والقوميين المتشددين والذي طالما وصفه يلتسين بأنه "وكر لمجموعات من الذئاب المتربصة بالاصلاح". وأضاف هول ان اكثرية اعضاء المؤتمر، الذي يتمتع، وفق الدستور الروسي، بصلاحية حجب الثقة عن الوزراء الاربعة الرئيسيين في الحكومة الروسية، هم من الشيوعيين السابقين والقوميين المتشددين. وأكثرية هؤلاء الاعضاء تعتقد ان انقاذ روسيا من أزمتها الحالية لا يتم الا بالعودة الى السياسة الخارجية، التي كان ينتهجها الكرملين قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، وقوامها بصورة اساسية، مناهضة سياسات الدول الغربية. وبالتالي فان وزير الخارجية الروسي اندريه كوزيريف مضطر احياناً لمراعاة هذه التوجهات اذا ما شاء ان يظل في منصبه ويحافظ على فرص الاصلاح. وحول هذه المعادلة الصعبة في السياسة الخارجية الروسية قال لپ"الوسط" جورج شوبلين، وهو محاضر في شؤون اوروبا الشرقية في مدرسة ادارة الاعمال في لندن، ان الاوضاع الروسية الحالية لا تسمح ليلتسين لا بتهدئة غضب المتشددين الشيوعيين والقوميين والجماعات الاخرى المناهضة له، ولا بمعارضة السياسة الغربية، سواء في المسائل الدولية او في القضايا الرئيسية المتعلقة بالاصلاح الاقتصادي والديموقراطي في بلاده. فهو يحتاج الى كل "فلس" اميركي أو أوروبي لاعادة بناء الاقتصاد من جهة، والى ارضاء المتشددين في كل خطوة يتخذها في هذين المجالين من جهة أخرى. "روسيا لن تعيش أكثر من سنة" إن محصلة سياسة "الصدمة" التي انتهجها يلتسين لاخراج بلاده من نتائج انهيار الاتحاد السوفياتي، لا تبدو مشجعة، لا على المستوى الاقتصادي، ولا في مجال علاقة موسكو بمقاطعاتها الاتحادىة، ولا في الاطار الدستوري لترسيخ ديموقراطية قادرة على استيعاب الازمات. وخلال احتفالات الذكرى الأولى لتوليه منصب أول رئيس منتخب في روسيا الاتحادية قال بوريس يلتسين: "قفزنا الى النهر من دون ان نعرف كيف نسبح. لكننا لم نغرق". ويقصد بذلك انه بدأ تجربة الانفتاح والاصلاح السياسي والاقتصادي من دون خبرة في هذا المجال. وفي المناسبة ذاتها قال المحلل السياسي المتخصص في الشؤون السوفياتية بول غوبل في دراسة صدرت عن مؤسسة "كارنغي للسلام الدولي" في واشنطن "ان روسيا الاتحادية لن تعيش اكثر من سنة اخرى". وإذا كان غوبل توقع "غرق روسيا الاتحادية" من خلال انهيار الاتحاد الذي يربط موسكو بپ88 مقاطعة تتمتع بدرجات متفاوتة من الادارة الذاتية، وتطمح جميعها الى الاستقلال الكامل، فان ساميرز لورانس نائب رئيس البنك الدولي يتخوف من النتائج نفسها لأن سياسة "الصدمة" الاقتصادية التي اتبعها يلتسين لنقل بلاده الى اقتصاد السوق لا تكفي لانجاز "أعقد وأضخم مهمة اعادة بناء اقتصادية في التاريخ". فقد أدت هذه السياسة، حتى الآن، الى موجات متصاعدة في ارتفاع اسعار السلع الضرورية، ونسبة التضخم، والى دفع ملايين العاملين الى سوق البطالة، وبينما يعتقد لورانس ان مزيداً من المساعدات المالية الغربية سينقذ الاقتصاد الروسي من الانهيار الكامل، يرى عدد كبير من الخبراء العالميين ان ضخ الاموال الاجنبية لن ينتج عنه سوى تأجيل الكارثة شبه الحتمية. وفي هذا المجال يقول بول غوبل ان من النادر في التاريخ نجاح المساعدات الاجنبية بانقاذ الدول، خصوصاً اذا كانت من حجم روسيا الاتحادية. وخلال جلسة لمؤتمر نواب الشعب عقدت أواخر الشهر الماضي أبلغ رئيس الوزراء الجديد فيكتور تشيرنوميردين الشيوعيين والقوميين أن جلّ ما يمكن فعله على الصعيد المالي هو وقف ارتفاع التضخم عند نسبة 50 في المئة شهرياً لتفادي الافلاس الكامل، ومنع العجز في الموازنة، من تجاوز حدود ستة مليارات دولار سنوياً. والروس يعرفون حالياً الكثير عن قضايا التضخم التي أدت في المانيا الى نشوء النازية. ويعيش ملايين الروس حالياً بأجور أقل من الحد الأدنى الرسمي للأجور، أي 2250 روبلاً شهرياً 4 دولارات. ويبلغ سعر قطعة الجبنة الرديئة نحو 600 روبل. وقطعة الخبز حوالي 20 روبلاً. وبدأت موجة التضخم هذه في الأول من كانون الثاني يناير 1991 حين اطلق رئيس الوزراء السابق ايغور غيدار حرية الاسعار. وبلغت نسبته خلال صيف العام نفسه نحو 2200 في المئة واستقرت حالياً على زيادة اسبوعية بنسبة 10 في المئة. وفي بداية سياسة "الصدمة" كان سعر صرف الروبل يساوي 67،1 دولار. أما الآن فيساوي الدولار الاميركي في السوق الرسمية 572 روبلاً، وفي الشارع اكثر من 650 روبلاً. وتقدر وزارة الامن الروسية قيمة الاموال التي تم تهريبها الى الخارج خلال العام الماضي بنحو 26 مليار دولار. أي أكثر من المساعدات الغربية بحوالي 8 مليارات دولار. واستناداً الى التاريخ الأوروبي الحديث تبدو الاوضاع الاقتصادية الروسية متجهة الى توفير الشروط اللازمة لظهور "هتلر السلافي" من خلال تحالف القوميين المتشددين والمؤسسة العسكرية، التي يعتبر معظم قادتها، ان يلتسين وفريقه الاصلاحي باعا الترسانة النووية الروسية للغرب مقابل حفنة من المساعدات. واذا كان يلتسين نجح بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بتشكيل ما يسمى "أسرة الدول المستقلة" للحفاظ على نوع من التعاون بين جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً، فهو يكتفي حالياً بمحاورات - تبدو أحياناً كثيرة بائسة - للحفاظ على كيان الفيدرالية الروسية. الاستفتاء والغرق وفي هذا المجال قال روبرت هول لپ"الوسط" ان مقاطعات الفيدرالية الروسية سيكون من الافضل لها الاستقلال الكامل عن موسكو، خصوصاً في ظل الانهيار الاقتصادي وتصاعد النزعة القومية المتشددة. اما جورج شوبلين فيرى ان موسكو فقدت السيطرة على المقاطعات. لكنه يرجح في الوقت نفسه ان تظل روسيا الاتحادية قائمة، ولو في اطار صوري، لأن أربعة أخماس سكانها من الروس الذين يشكلون الأغلبية في اكثر من نصف المقاطعات الفيدرالية البالغة 88 مقاطعة. ولأن التوجهات الاستقلالية قد تسبب حروباً أهلية لا طاقة لهذه الشعوب على احتمالها. أما رئيس لجنة القوميات في البرلمان الروسي رمضان عبداللطيبوف فيعترف بأن القوانين الفيدرالية غير معمول بها في المقاطعات. ويؤكد بول غوبل ان هذه المقاطعات أصدرت حتى الآن حوالي 14 ألف قانون مغاير للتشريعات الفيدرالية. وتصدر هذه التشريعات في مقاطعات صغيرة مثل قرية ربيا خوفكا الواقعة في اقليم دوستوف جنوبروسيا، والتي ألغت القوانين الروسية بكاملها. وفي مقاطعات استراتيجية مهمة مثل تاتارستان التي تمر فيها الطرقات التي تربط روسيا الأوروبية بالأقاليم النفطية في سيبيريا. وقد رفضت تاتارستان التوقيع على اتفاقية الفيدرالية وتبنت دستوراً يؤكد هيمنة القوانين المحلية فوق أراضيها. بل ذهبت تاتارستان الى أبعد من ذلك حين طالب برلمانها، العام الماضي، باقامة اتحاد لجمهوريات الفولغا، وهو مشروع كان القوميون التاتار روجوا له خلال العشرينات من هذا القرن. والهدف الرئيسي من هذا المشروع هو ربط المناطق التاتارية بكازاخستان في الجنوب. وأخطر ما في قضية المقاطعات هذه هو انها تشكل احدى أدوات الصراع بين يلتسين ورئيس البرلمان رسلان حسيبلاتوف. ومثلما استخدم ميخائيل غورباتشوف قضايا جمهوريات الاتحاد السوفياتي لمواجهة تحديات يلتسين في حينها، يستخدم يلتسين قضايا المقاطعات لمواجهة ضغوط حسيبلاتوف. ومثلما انتهت تكتيكات غورباتشوف الى انهيار الاتحاد السوفياتي فقد تنتهي تكتيكات يلتسين الى انهيار روسيا الاتحادية. ومثلما ذيل يلتسين أسئلة الاستفتاء الشهير حول مستقبل الاتحاد السوفياتي بسؤال حول ما اذا كان يجب ان يحكم روسيا رجل روسي أم لا، من المتوقع ان يعمل زعماء المقاطعات على تذييل اسئلة الاستفتاء المقرر اجراؤه في روسيا في نيسان ابريل المقبل حول الدستور، بسؤال حول ما اذا كانت ستسود المقاطعات القوانين المحلية ام القوانين الفيدرالية. وبالتالي قد تنتهي نتيجة الاستفتاء المقبل الى ما انتهت اليه نتائج الاستفتاء السابق. على أية حال، فان نتائج الاستفتاء المقبل حول صلاحيات الرئيس ومؤتمر نواب الشعب ستقرر، ليس مستقبل علاقات موسكو بمقاطعاتها الاتحادية وحدها، بل ايضاً مستقبل مشاريع الاصلاح السياسي والاقتصادي ومستقبل علاقات موسكو بالولايات المتحدة والدول الاوروبية. ومن الآن حتى نيسان ابريل المقبل فان يلتسين يجد نفسه مرغماً على المحافظة على سياسة متوازنة لكي لا يغرق هو ومشاريعه الاصلاحية في "النهر".