بينما كان وزير خارجية الاتحاد السوفياتي اندريه غروميكو معروفاً في الاوساط الدولية بالسيد "لا" لأنه كان يرفض كل ما تقترحه واشنطن، يعرف وزير خارجية روسيا الاتحادية الراهن اندريه كوزيريف، في بلاده بالسيد "نعم" لموافقته الفورية على كل ما يأتي من واشنطن والغرب. و "لا" غروميكو و "نعم" كوزيريف ليستا من الصفات الشخصية لأي من الوزيرين، فالأولى شكلت سمة العلاقات الاميركية - السوفياتية طوال اربعة عقود من الحرب الباردة، فيما تشكل الثانية جوهر العلاقات الاميركية - الروسية الراهنة بعد انهيار الكتلة الشرقية والاتحاد السوفياتي. ففي القمة التي عقدت منتصف الشهر الجاري، وجمعت، للمرة الاولى في التاريخ، رئيساً اميركياً ورئيساً روسياً منتخباً وفق القواعد الديموقراطية، تم توقيع 39 اتفاقاً لتنظيم مختلف جوانب العلاقات المستقبلية بين البلدين وازالة الآثار الشديدة التعقيد التي خلفتها الحرب الباردة، وبين هذه الاتفاقيات سبع وقعها الرئيسان شخصياً. والاتفاقية الابرز التي اعطت هذه القمة اهمية اكثر مما كان يتوقع لها المراقبون، هي المتعلقة بتخفيض الترسانة النووية الى 3500 رأس نووي في الولاياتالمتحدة و3000 في روسيا، بدلاً من العدد الاجمالي الراهن المقدر بنحو 12 الف رأس في البلدين. وتعهد يلتسين بازالة 300 صاروخ "إس. إس 18" المتعددة الرؤوس، تشكل الهاجس الامني الاكبر للأميركيين لأنها كانت معدة لتوجيه الضربة الاولى الى القواعد النووية الاميركية. بل ان بعض الخبراء الاميركيين كان يعتبرها مؤشراً على التفوق النووي السوفياتي. وتقضي الاتفاقية بانجاز التخفيضات بحلول عام 2003، لتنتهي بذلك مرحلة التوازن الاستراتيجي بين البلدين وتبدأ مرحلة اللاتوازن، ذلك لأنها تسمح للولايات المتحدة بالاحتفاظ بالتفوق النووي الدفاعي، في وقت لا تستطيع روسيا تأمين تكاليف سباق التسلح، وتجد نفسها مضطرة للقبول بوضعية الدولة الثانية. وقال يلتسين ان الاتفاقية تعني التخلي عن نظرية التعادل النووي مع واشنطن، هذه النظرية التي قادت نصف سكان روسيا الى ما تحت خط الفقر. واذا كانت هذه الاتفاقية الامنية العسكرية هي الاهم بالنسبة للأميركيين فان الاتفاقيات الاقتصادية الثلاث الاخرى هي الاهم بالنسبة للروس. وتقول المصادر الاميركية ان يلتسين وافق على هذا الخفض الكبير في عدد الرؤوس النووية لاخراج قضية التسلح من ملف العلاقات الاميركية - الروسية الى الابد، وتحقيق القضية الرئيسية بالنسبة اليه، وهي عملية الاصلاح الاقتصادية وما تتطلبه من مساعدات اميركية وغربية. وتتضمن الاتفاقيات الثلاث منح روسيا وضعية الدولة الاكثر رعاية في المجال التجاري، وتشجيع الشركات الاميركية الخاصة على الاستثمار في روسيا عبر اعفائها من الازدواج الضريبي، اي دفع الضرائب في روسيا وحدها من دون الولاياتالمتحدة. اما الاتفاقية الثالثة فتتضمن الاطار القانوني لحماية المؤسسات الاميركية الراغبة بالاستثمار في روسيا وتنظيم عملية تحويل ارباحها من الروبل الى العملات الصعبة لارسالها الى الولاياتالمتحدة. وتهدف هذه الاتفاقيات التي ستشكل نموذجاً لاتفاقيات مشابهة مع الدول الصناعية الاخرى، الى تمكين روسيا من الانتقال الى اقتصاد السوق وفق بنية اقتصادية صلبة لا تكفي لبنائها المساعدات المالية المباشرة وحدها. فقد تعلم الاميركيون من التجربة البولونية ان المساعدات ضرورية لكنها غير كافية للتحول الى اقتصاد السوق. اذ لا توجد رأسمالية من دون رأسماليين. وقال يلتسين في خطابه امام الكونغرس الاميركي ان المساعدات الغربية والقروض من المصرف الدولي وصندوق النقد الدولي لن تنقذ روسيا، بل انها لن تساعدها بشكل ملحوظ. اما الرئيس بوش فأوضح ان الاتفاقيات تهدف الى انماء التجارة ومضاعفة الثروات وايجاد فرص العمل. لكن الاهم من كل هذا هو ان اتفاقية خفض السلاح النووي لا يمكن تطبيقها الا اذا استمر يلتسين او اي اصلاحي آخر في الكرملين. واستمرار يلتسين والاصلاحيين مرتبط الى حد بعيد بالنجاح في انقاذ الاقتصاد الروسي من الانهيار. ويلتسين، الذي صفق له الكونغرس الاميركي حين قال ان الشيوعية التي انتشرت في كل مكان ونشرت معها الفقر والذعر، انتهت الى الابد في روسيا، حذر من انه اذا فشلت عملية الاصلاح الاقتصادي الراهنة فستقوم الشيوعية بتجربة جديدة. وذكّر اعضاء الكونغرس بأن "الاقتصاد المنهار عام 1917 شكل نقطة الانطلاق بالنسبة الى البلاشفة، وانه "بعد ثلاثة ارباع القرن يمكن القول ان المساعدات الاميركية تشبه الى حد بعيد عملية الانزال التي قام بها الحلفاء في فرنسا عام 1944". ولم يتردد يلتسين بالقول "ان حرية اميركا تبدأ في روسيا"، وان فشل الاصلاح الروسي سيكلف اميركا مئات المليارات من الدولارات، بينما مشروع المساعدات الاميركية الذي ينتظر مصادقة الكونغرس لا يتجاوز 12 مليار دولار. من جهته اكد الرئيس بوش ان ادارته عازمة على تقديم المساعدات لروسيا لأن ذلك "يخدم الامن القومي الاميركي". وأضاف ان المطلوب مساعدة روسيا على البقاء دولة ديموقراطية حرة لأن الولاياتالمتحدة صرفت المليارات في المواجهة مع الاتحاد السوفياتي. ولكن الى اي مدى سيتمكن يلتسين من توظيف نجاحه في واشنطن لتمرير اتفاقية خفض التسلح النووي في موسكو حيث يتوقع المراقبون ان يحاول البرلمان، الذي تسيطر عليه اكثرية من المحافظين، الغاء الاتفاقية او المماطلة بالتصديق عليها اطول فترة ممكنة. صحيفة "كمسمولسكايا برافدا" المقربة من يلتسين ذكرت ان الاتفاقية ستثير استياء كبيراً في البرلمان. بل ان عدداً من معاوني يلتسين، الذين رافقوه في زيارته لواشنطن انقسموا حول الموقف من الاتفاقية، خصوصاً انه وعد جنرالات الجيش، قبل يومين من الزيارة، بأنه لن يوافق على ازالة صواريخ "إس. إس 18" وانه لن يسمح للولايات المتحدة بالتوصل الى تفوق استراتيجي. وقد عقد الزعماء البرلمانيون المتشددون مؤتمراً صحافياً اعلنوا فيه رفضهم للاتفاقية. بل المحوا الى استخدام النضال المسلح لوقف خفض التسلح. فقد قال نيكولاي بافلوف، وهو من كبار المعارضين، انه لا يدعو الى خرق الدستور، ولكن اذا لم يتمكن البرلمان من منع وضع روسيا تحت المظلة النووية الاميركية، واذا لم تنجح الوسائل الديموقراطية بذلك، فلا بد من ان تظهر الالوية الحمراء من جديد. يبقى ان هناك شكوكاً كثيرة حول فاعلية الاتفاقية الاميركية - الروسية في مجال انقاذ العالم من حرب نووية واسعة النطاق. ويقول الخبير في مجلس الاعلام الامني البريطاني - الاميركي المشترك دان بليتش: "اعتقد ان الناس شعروا بالارتياح الشديد ازاء خفض الاسلحة النووية لأنهم لا يدركون مدى خطورة استمرار وجود بضعة آلاف من الرؤوس النووية". وتساءل بليتش عن سبب عدم البحث بازالة جميع هذه الرؤوس. ورفض الحجة القائلة بأن اجراء مزيد من التخفيض لن يكون ممكناً من الناحية المالية. وقال المفاوض الاميركي السابق في محادثات التسلح جوناثان دين: "ان الاتفاق يسمح بتخزين الصواريخ وبالتالي استخدامها في المستقبل. وهذا امر شديد الخطورة. خصوصاً مع استمرار عدم الاستقرار في روسيا والجمهوريات السوفياتية سابقاً. ومع ذلك يميل عدد كير من المراقبين في واشنطنوموسكو الى الموافقة على تقديرات يلتسين بأن الاتفاقيات السبع هي بمثابة رسم ملامح عالم جديد.