يقال عن مدينة "رومان - سور - إيزير" الفرنسية، التي تقع على بعد مئتي كيلومتر من مدينة جنيف ومئتين وعشرين كيلومتراً من مرسيليا، انها بلدة للزيارة والاكتشاف، لا لجمال شوارعها القديمة فقط وللطبيعة الرائعة التي تحيط بها، بل لأنها تحضن اروع متحف للأحذية في العالم. وهذا يضم كل ما ابتكره الانسان حتى اليوم من اجل حماية وتجميل قدميه. اشتهرت رومان منذ القديم بصناعة الجلود ودباغتها، واعتبرت هذه البضاعة من اساس حياة سكانها. فكانت تعالج الجلود وفق تقاليد صناعة متوارثة أباً عند جد. ولا يزال العديد من المصانع اليوم يتابع صناعة احذية تجاوز صيتها جميع الحدود. وفي المتحف الذي يضم سبعة آلاف حذاء، لا بد من التوقف عند هندسته البنائية من الطراز الايطالي التي حققت مرحلة بعد اخرى بين القرن السابع عشر والقرن التاسع عشر. اكتسب المتحف شهرة كبيرة في العام 1968 حين حصلت مدينة رومان على مجموعة الاحذية التي كان يملكها المصمم الباريسي فيكتور غيلان. وكانت هذه المجموعة تتألف من الفي حذاء قادمة من القارات الخمس ويمتد تاريخها على اربعة آلاف سنة من الزمن. وكان هذا الكسب صدمة ثقافية حقيقية حسب رأي ماري جوزيف بوسان، محافظة المتحف. وقد اضيفت اليها اعمال موريس سافان ومحتويات متحف المقاومة. معرض خاص في العام 1979، نظمت جمعية اصدقاء متحف الاحذية معرضاً بعنوان "رومان، الجلد والحذاء"، وعرضت فيه الادوات والآلات والوثائق السمعية والبصرية التي تروي تاريخ صناعة دبغ الجلود الرقيقة والدباغة والاحذية، بشكل عام، في مدينة رومان. واظهر المعرض، الذي صار دائماً، استعمال الحذاء عبر العصور وتنوع اشكاله والمواد التي صنع منها، كل الجلود استخدمت في تحقيقه: جلود الغنم والبقر والعجل والعظاية والفقمة، ومن المواد الاصطناعية والالياف ذات المصدر النباتي أو الحيواني. في المتحف اقدام المومياء المصرية القديمة والصنادل الرومانية والقبطية، والاحذية الحلزونية المستطيلة الرأس والمرتفعة التي استعملت في القرون الوسطى، وجزمات القرن السابع عشر واحذية البلاطات الملكية وتلك الخاصة بالامراء والطبقة البورجوازية. وقد حصل المتحف اخيراً على احذية تعود الى السنوات ما بين 1918 و1960، وتتضمن مئة حذاء حققها مختلف الصنّاع الفرنسيين والايطاليين ومنهم ارنست وجوليان وبيروجيا. واهم من ذلك كله مجموعة احذية هيلسترن المتكونة من مئتي حذاء ابتكرها بين العامين 1920 و1930 لمشاهير وشهيرات العصر ولممثلات المسرح. ثم أتت هبة جورج هارمس الثمينة التي ادخلت الى المتحف مئة واربعة عشر زوجاً من زردات الاحذية العائدة الى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. عدا عن ذلك، فمتحف رومان للاحذية هو في الواقع مركز وثائق عالمي في مجال موضة الحذاء وصناعته وتاريخه واكسسواره واستعمالاته. وقد اختيرت من بين موجوداته الكثيرة من الاحذية، مجموعة مؤلفة من ثلاثمائة حذاء لتعرض بصورة دائمة، وحفظت الاحذية الاخرى في اماكن خاصة من المتحف. ويمكن للمصممين والباحثين الاطلاع عليها بناء على موعد محدد. ويقيم المتحف معارض لانواع من تلك الاحذية حسب المناسبة والظروف. كانت احذية الطبقة الارستقراطية فاخرة جداً. وهي ليست معروضة كلها في المتحف. وكان افراد الطبقات الشعبية يحتفظون بأحذيتهم حتى اهترائها الكلي. وقد اقام المتحف اخيراً معرضاً لأحذية روجيه فيفيه مخترع الكعب المسماري الذي عانق القرن العشرين بتمامه وابتكر اجمل الاحذية لشهيرات العصر. وقبل اشهر، صدر كتاب ضخم عنه إسوة بكبار المشاهير في العالم. كما اقيم له معرض في 1987 و1988 في متحف فنون الموضة بعنوان "احذية روجيه فيفيه". وفي العام التالي دخلت مجموعة اعماله في محفوظات المتحف المذكور. وكانت تلك المجموعة نموذجية في نوعيتها وعدد القطع التي تتضمنها. والسبب انها آتية جميعها من ملكية روجيه فيفيه الشخصية. موهبة للحذاء لم يكن بين المئة والثماني والستين قطعة الفريدة في شكلها الا القليل من ازواج الاحذية فكل قطعة وهبها روجيه فيفيه كانت نموذجاً اصلياً بنى عليه موديلاته في ما بعد، وهي تشكل ابتكار خمسة وثلاثين عاماً من حياته الفنية. والاهم في هذه المجموعة هو عدم وجود شبيه لها في اي متحف من متاحف الالبسة. كانت، باختصار، تشكل الاعمال الاصيلة لمختبر روجيه فيفيه في حقل ابتكار الحذاء في الفترة الواقعة بين العامين 1953 و 1988. كان روجيه فيفيه احد اهم المصممين في القرن العشرين، والوحيد الذي ركّز فنه وموهبته في حقل الحذاء. كان تأثيره على الصعيد العالمي لدرجة ان خطوطه لا تزال توجه موديلات الاحذية حالياً. ولم تبق شهيرة في العالم الا طلبت منه ان يصمم لها احذيتها الفاخرة. امبراطورة اليابان، الاميرة فاطمة بهلوي، ملكة اسبانيا، ملكة تايلاند، اميرة لييج، الاميرة دي باري، دوقة لوكسمبورغ الكبيرة، الاميرة غريس دي موناكو، جاكي اوناسيس، وغيرهن في اوروبا واميركا اللاتينية وآسيا مما لا يسمح المجال لذكر اسمائهن جميعاً. كما صمم احذية لنجوم سينمائية عالمية من امثال آفا غاردنر ورومي شنيدر وبريجيت باردو واورسولا اندرس وسيلفي فارتان وماريا كالاس وريتا هيوارث وانغريد برغمان وجولييت غريكو وميراي دارك، والسلسلة طويلة. سبب شهرة روجيه فيفيه انه اعتبر الحذاء فناً من الفنون الجميلة. وكان اعتقاده في محلّه، لأن ابتكاراته الرائعة في ميدان الاحذية النسائية خلال اقل من قرن تتصدر نماذجها اليوم اكبر المتاحف في الكرة الارضية. وخلال اكثر من خمسين سنة ابتكر الاحذية للشهيرات والنجوم، كما سبقت الاشارة. كان هذا قدره الحتمي كفنان من مستوى رفيع رافق جميع التطورات الفنية وثوراتها الجمالية وقلب المفاهيم المتعلقة بالفخامة والجمال للمرأة العصرية. من هو؟ ولد روجيه فيفيه في 13 تشرين الثاني نوفمبر 1907 في الدائرة الثامنة من باريس. كان والده مدير مطعم وتوفي في 1914. وفي 1917 توفيت والدته، فصار روجيه في رعاية خالته التي اشرفت على تنشئته. كان عمره خمسة عشر عاماً حين بدأ العمل في مصانع للاحذية. وبعد قليل من ذلك، انتسب الى كلية الفنون الجميلة في باريس فرع النحت وراح يعمل في التصوير بالاوبرا ويرسم محارم الجيب. كان يبحث عن طريقه الفني. وطلب من بعض افراد عائلته الذين يملكون مصانع احذية ان يرسم لهم موديلات لحذاء يلفت النظر ومختلف عن المستعمل في العصر. احياناً تولد المواهب الكبيرة من شأن بسيط جداً. بعد أن أدى روجيه فيفيه خدمته العسكرية في فرقة الزواوي بتونس الجنود الفرنسيون بلباس اهل مراكش والجزائر، عاد الى باريس التي كانت تغلي فنياً. السوريالية في الأوج. المعارض العالمية عن الفنون التزيينية والصناعية في العام 1925، تكشف عن فن جديد. شانيل تبتكر موضة ثورية لأنيقات باريس وترسل بعطرها "شانيل الرقم 5" الى الاسواق. وراح روجيه فيفيه يرسم الاحذية. دار على مصانع الاحذية في باريس وتأكد من ان مهنته تنتمي الى عالم صناعي تقني وليس الى فن حرفي. لكنه اراد ان يبتكر موديلات لاحذية راقية. كانت بداية الغيث مع جوزيفين بيكر التي صارت توصي على احذيتها من عنده. وتلقفته شركة المانية مختصة بصباغ الجلود. كانت تعرفت الى مواهبه، فعمل في فرعها في شارع روايال في باريس. في سنة 1937 فتح مخزناً خاصاً به لعرض ابتكاراته. لكن الشركة الالمانية لم تكن تنتج غير جلد من نوع واحد هو جلد الجدي. ومن جهة اخرى لم تكن الوان الاحذية تخرج عن نطاق محدود هو الاسود والبني والكحلي. لذا، كان محكوماً على روجيه فيفيه مراعاة الضرورة التجارية من جهة ومن جهة اخرى كان عليه ارضاء ولعه الفني في ابتكار الاحذية. الا انه بدأ بابتكار احذية من البلاستيك ومن "الزجاج" ضارباً باعتباراته الاقتصادية الخاصة عرض الحائط. وقدم احذية جريئة الزينة ولا تخطر على بال: حذاء مزين بالاسماك وبالكلاب وما شابه. حين بدأت الحرب العالمية الثانية في سنة 1939، سافر الى الولاياتالمتحدة الاميركية، وهناك عمل في ابتكار القبعات وراح يهتم بالتصوير. بعد عودته الى باريس، تعرف بأحد رسامي الموضة، وهذا عرّفه على كريستيان ديور. ومنذ ذلك الحين عمل الاثنان على تحقيق مغامرة فنية في عالم الموضة شاهد الجمهور عرضاً في 12 شباط فبراير 1947. واعتبر هذا اليوم هاماً في تاريخ الموضة. حذاء الملكة اليزابيت في العام 1953، أوصت الملكة اليزابيت الثانية على حذاء من جلد الجدي المذهّب والمزيّن بالياقوت الاحمر لمناسبة الاحتفال بتتويجها. بعدئذ، احدث روجيه فيفيه ثورة في عالم الاحذية حين اخترع الكعب العالي الرفيع جداً في العام 1954، والذي اصبح رمزاً لاناقة المرأة. ولم تعد شهيرات هوليوود يخشين على اثوابهن الطويلة من دون ان تمسح الارض بعد انتقال هذا النوع الجديد من الاحذية. غير ان الابتكار والاناقة الفارهة شيء والصحة شيء آخر. وهاهم الاطباء يدقون ناقوس الخطر من جراء انتعال الحذاء الرفيع الكعب والعالي جداً. فالعمود الفقري يتعرض للخلل من جراء هذا الحذاء. ثم انه يخرّب الارصفة والسجاد وارضية المتاحف الخشبية. اذاً يجب ان تخف الرغبة في الكعب العالي. ابتكر روجيه فيفيه بعد ذلك الحذاء المطرز ثم الحذاء الذي يماشي الثوب. وكان التصفيق يلتهب اثر كل عرض من عروض ازياء كريستيان ديور الذي قبل استثنائياً بوضع اسم مبتكر الاحذية الى جانب اسمه في نشرات الموضة. وبقي فيفيه مخلصاً لدار ديور بعد وفاة كريستيان سنة 1957. الا انه فكّر في احداث ثورة جديدة فابتكر الحذاء العملي الجميل. ولم يقلل هذا الابتكار من قيمة فنّه في موضة الحذاء "العالي المستوى" بعد انصراف الانيقات عن الحذاء ذي الكعب الرفيع. أبدل روجيه هذا الكعب بكرة من الألماس الاصطناعي، وابتكر الحذاء من الريش وجعل مقدمته عريضة جداً. وبقيت الملكة اليزابيت والامبراطورة فرح ديبا ودوقة وندسور واليزابيت تايلور واوليفيا دي هافيلاند ومارلين ديتريش من المخلصات لاحذيته الانيقة والمبتكرة. وجاء عهد المصممين الشهيرين اليوم من امثال بيار كاردان وايف سان لوران وكاشاريل وكوريج وسواهم. صارت لهؤلاء دورهم الخاصة بالموضة. فالفن يقول ان لا ثوب جميلاً من دون حذاء جميل. وكان روجيه فيفيه سيّد من ابتكر الحذاء الفني ففتح دارته الخاصة للاحذية واقام عرضين لمبتكراتها في كل عام، اسوة بأصحاب دور الازياء الكبرى. مات الحذاء ذو الكعب الرفيع وترك مكانة للجزمة المصنوعة من جلد التمساح الاسود، وفسحت هذه الجزمة مكاناً للتنورة القصيرة تهبط من الخصر وتستقر عند الركبة. لم يعد روجيه يفكر فقط بالشهيرات والنجوم فقط، بل صار يفكر بجميع نساء العالم اللواتي رحن يرتدين السراويل العملية. فابتكر لهؤلاء الجزمة التي تلف الساق وتلك التي تستقر فوق عنق القدم بقليل. اختار الالوان الجميلة الفرحة لها وانواع الجلود الفخمة لصناعتها. صنعها من المخمل المزيّن بالفراء ومن جلد التمساح . وفي العام 1963 قام بدفن الحذاء ذي الكعب العالي في مقبرة فنونه الخاصة، وقرر منع الانيقات من ارتدائه. ابتكر فيفيه حذاء بكعب خفي ونعل مسطح. وقال عنه "انه حذاء ساندريون اثناء قيامها برقص الباليه الجميل". كانت الصرعة التالية هي ابتكار عقدة الحذاء من المعدن اللامع. حين وصل الحدث الابتكاري الى الولاياتالمتحدة الاميركية ضحكت الاميركيات وهن ينتعلنه، لانه اثار لديهن ذكريات تاريخية عن المهاجرين الاوائل من انكلترا الى ارض العم سام الجديدة. كانت احذية هؤلاء حينذاك تحمل زينة مشابهة، فترى هل قرأ روجيه تاريخ اميركا قبل اختراعه هذا؟ حذاء زجاجي ووسام بقيت عقدة الحذاء موضة، لكن فيفيه تنقل بين جميع انواع المواد التي وقعت بين يديه وجعل منها عقداً للاحذية الجميلة بدل العقد المعدنية. في العام 1967 وحده، باع عشرين مليون حذاء مصنوعة من مادة "الكورفام" الشبيهة بالجلد. وكان شأنها شأن المجوهرات المزيفة التي ابتكرها شانيل ونالت رواجاً وصيتاً كبيرين. كان مبتكر الاحذية هذا يردد دائماً "اريد ان اصنع احذية رقيقة ودقيقة اكثر من قدح زجاجي مصنوع في البندقية" وفي العام 1988 تلقى اكبر وارفع جائزة اميركية على ابتكاراته، انها جائزة "نيمان - ماركوس". بلغ فن فيفيه الذروة في صناعة وابتكار الجزمات، ولم يهمل حذاء الرجل من فنه. قال في 1966 "ليس من الطبيعي ان يستمر الرجل في انتعال الحذاء التقليدي، فنحن نستطيع ان نبتكر من اجله الأجمل والأكثر فرحاً بالالوان". فحقق حلم الرجل الأنيق برؤية قدميه تضربان الارض بحذاء مبتكر. ترك فيفيه باريس في 1972 وذهب ليسكن قصراً في شارونت. ثم في دارة مؤلفة من طوابق عدة في مدينة تولوز في الجنوب الفرنسي. ويعتبر المسكنان اليوم كمتحفين يعجان بالرسم والنحت في العام 1986، فتح داراً لاحذيته في نيويورك ووقّع عقداً للغرض ذاته في ايطالياواليابان. كثير من ابتكارات فيفيه معروض في متحف المتروبوليتان في نيويورك وفي متحف الموضة في باريس. أحذية ساندريون حقاً الى حدّ الخوف من وضعها في القدمين لجمال ابتكارها ودقة فنّها. وقد قام متحف رومان للأحذية باستعارة مجموعة مبتكراته من المتاحف ودور الازياء التي تملك متفرقات منها، من اجل اقامة المعرض الشامل عنه، وجاءت المجموعة من متحف فنون الموضة والنسيح ومتحف كالييرا ومتحف إيف سان لوران الخاص وشارل جوردان في باريس ومتحف نيويورك للفنون ومن مجموعات متفرقة خاصة والمجموعة الشخصية لروجيه فيفيه بالاضافة الى ملكية متحف رومان الخاصة من مخلفات مبتكر الحذاء لأشهر نساء العالم.