ماذا كانت تعني عبارة "دار أزياء" في بداية القرن العشرين؟ باختصار كانت دار الأزياء عبارة عن صرح فخم مكرس لپ"الموضة". فهذه كانت جميلة في ذلك العصر وتستهوي الطبقة البورجوازية الغنية. باب ضخم يقود الى مدخل مكسوّ بالرخام والأبنوس والأونيكس والزخارف المنحوتة بدقة. ومنه تصل الأنيقة الى قاعة كبيرة تضج بمن يعمل في الدار. في قاعة أخرى جانبية تجلس في مكان مخصص لها بناء على الموعد الذي تكون حددته. بعد قليل، ووسط أبهة الاستقبال والكثير من مجاملات اللياقة، تبدأ العارضات بالمرور أمامها. ويعرضن ثوباً إثر آخر. وهي تتابعهن بنظراتها من الرأس حتى الخصر حتى أخمص القدمين. فكل جزء من "الموديل" هو محل إهتمامها. الزينة تركز عليها أكثر من الثوب أو الطقم. بعد مرور وقت قد يكون طويلاً أحياناً، تقدم الى المسؤولة عن العرض ورقة تحمل أرقام التصاميم التي نالت اعجابها. يأتي بعد ذلك دور اختيار الأقمشة وأخذ القياسات وتحديد موعد آخر لإجراء تجربة الأثواب التي طلبتها على قامتها. خارج هذا الإطار الفخم تملك الدار مشغلاً للخياطة ملحقاً بها. وفي جناح خاص من يقيم المصمم، يحيط به مساعدوه الذين يقتصر دورهم على ابداء الرأي فقط. فرسم التصميم والتخطيط للموضة المقبلة وتحديد الأكسسوارات المناسبة لها، يعود الى المصمم بالدرجة الأولى. التجربة تتحقق على عارضة أزياء أو "مانيكان"، وعليها يتعدل "الموديل" ألف مرة قبل أن يصبح جاهزاً للعرض كموضة العام مثلاً. يعمل المصمم ضمن تلال من المطرزات والشرائط والأكسسوارات من كل نوع. فهو كالفنان الرسام الذي يضع لمسات ريشته ألواناً مختارة فوق اللوحة، يرش زينة الموديل عليه قطعة قطعة. عقود وزنانير وأقراط وأزهار وحقائب وأحذية تكون جميعها معدة لاختيار المناسب من بينها. بعد تقرير التصميم يأتي دور التنفيذ خياطة. ويحتاج المصمم الى من ينفذ أفكاره بحرفيتها. لذا كانت أجور هؤلاء المنفذين عالية جداً. في ذلك الحين كان الأجر يصل الى ستة آلاف فرنك سنوياً، بينما كان أجر العامل شهرياً لا يتجاوز المئة فرنك. ويشرح "بواريه"، وهو أول مصمم باريسي فجّر في أوائل القرن ثورة في عالم تغيير الموضة، سبب ارتفاع الأجر هذا بقوله "اذا كانت الموارد غير كافية فمن الصعب فهم رهافة المصمم الذي هو فنان الفخامة والأبهة بكل تأكيد". في سنة 1903، طرأت تغييرات على موضة المجوهرات، كانت الأنيقات الممشوقات الطويلات الشعر يتزين بزخرفات معقدة. أزهار وثمار ترتاح على الأساور والأقراط بطريقة فنية. أمشاط مرصعة بالحجارة الكريمة اللامعة تسقط في التسريحة. وريش ملون يتراكم في وسط القبعة. كان الأكسسوار هذا يطغى على الجمالية الطبيعية ويثقل من المظهر العام للأنيقة. وبدأ التحول عن هذا الاكسسوار شيئاً فشيئاً تبعاً لمتغيرات العصر. في سنة 1925 صار الشعر قصيراً، واحتل "الماكياج" أهمية خاصة في التجميل. حمرة كثيفة على الشفاه. الاهداب إسودت بالكحل وكذلك الحواجب. وبرزت موضة الأحذية كمكملة للإكسسوار. صارت هذه تكشف عن القدم. علت الكعوب وتروّست مقدمة الحذاء المصنوع من الجلد الطري بألوانه السوداء والرملية والكستنائية للنهار واللامعة للسهرات. في شتاء سنة 1924 - 1925 بالذات ظهرت موضة الجزمة الجلدية القادمة من روسيا. في تلك السنة بالذات، افتتح معرض للفنون التزينية بصرعة خطوطها الهندسية. وكان هذا المعرض آخر انتصار للخياط الكبير بواريه. في سنة 1929 ظهر تأثير "الرياضة" على الموضة. ساير المصممون التيار، ومزجوا بين التبسيط في الخطوط وبين إدخال اللآلئ الملونة والحرشفيات اللامعة عليها. وجاءت أزمة الثلاثينات الاقتصادية لتلقي بثقل ظلالها على دور الأزياء بكل فخامتها وخلفياتها البورجوازية. وحدث تغيير في الموضة وأكسسوارها. ودخل البنطلون الرجالي في 1937 ميدان الأناقة النسائية خلال أيام العطل وتمدد على القامات. كانت السيدة سمبسون، زوجة دوق وندسور الشهيرة في عصرها، وراء فرض موضة البنطلون في أوروبا. غير ان هذه السنة تميزت بوصول كريستوبال بالانسياغا الى باريس قادماً من إسبانيا. افتتح صالوناً له، وكان تأثيره كبيراً على الموضة الفرنسية. قيل عنه إنه مهندس الثياب. فرض ما فرضه من تغيير، غير ان أحداث سنة 1939 قلبت كل التطلعات الفنية رأساً على عقب. ومع هذا، فقد استمر المصممون حتى ربيع سنة 1940 في تقديم موضتهم المفذلكة، وكأن أحداً في باريس وانكلترا وحتى في أميركا، لم يعلم بعد بأن الحرب العالمية الثانية قد بدأت. ومع انتهاء الحرب بعد أربع سنوات جاء عهد الخمسينات وموضة هوليوود وعودة المصممين الى ساحة الابتكار وعروض الأزياء. وتنوعت الموضة حسب الزمان والمكان والمناسبة والعصر. وجاء الى باريس، التي حافظت على كونها عاصمة الموضة العالمية غير المنازع عليها، جيل من المصممين المغامرين والمعتدين بأنفسهم، من إسبانيا وإيطاليا والنمسا واليابان بصورة خاصة. حدث مزيج من التبادل الثقافي والفني والاقتصادي ترك بصماته على الابتكار. وصارت هناك موضة متداولة وموضة الابتكار للابتكار، أي موضة "البوديوم"، أو موضة "منصة العرض". متعة للنظر هذه الموضة الابتكارية الفنية حتى الصرعة هي موضة "متعة النظر" لا غير. لكن لا بد من الانحناء أمام مبتكريها، لأنهم يقدمون من خلالها موضة للتاريخ ولمماشاة العصر المجنون في اختراعاته التقنية والعلمية. وتشمل هذه الموضة الأكسسوارات بشكل خاص، نظراً لامكانية تحملها للهوس الفني الذي يفرض الانبهار والدهشة. ولا يحدث هذا إلا في عروض الأزياء التي حملت الاخيرة منها لموسم 1993 الكثير من الجاذبية والتأمل والإبداع. لم تعد دار الأزياء اليوم هي ذاتها في سنة 1900. طبعاً الصرح الفخم بقي ذاته، والدور الرائد فيها للمصمم حافظ على أهميته وصار أجر العارضة المستكملة للشروط الفنية في تأدية عملها يساوي ثروة. غير ان المشغل الملحق بالدار تحول الى مصنع بعيد عنها يعمل فيه المئات ولكل وظيفته. وأصبحت الأكسسوارات صناعة فنية قائمة بذاتها، تقام معارضها على المستوى المحلي والعالمي أكثر من مرة في السنة. وقد حملت عروض التسعينات الكثير من الابتكارات، حتى أن بعضها اتسم بالفن الاستعراضي لشدة هيمنة الصرعات عليها. وكان أن أفردت مجلات ازياء عدة صفحات كبيرة لظاهرة التفنن في الاكسسوارات واعتبارها اللمسات الفنية التي لا بد منها لكل أناقة عصرية. للزينة هي، نعم، يقول المصممون، لكن أن تكون هذه الموضة مفذلكة لحد الازعاج، فلا. موضتان في واحدة: الأولى عملية ولو كانت مبتكرة جداً، والثانية للمنصة فقط وقد تثير الضحك. الابتكارات عاقلة لموسم 1993. التفكير تجارياً لا بد منه. نعول الاحذية سميكة وثقيلة. الكعوب عالية وغليظة الاستدارة. انها موضة الأربعينات. غير ان الكعب بعلو سنتيمترين فقط أثبت مهارته الجمالية في حذاء رشيق فكان حدث الموضة الجديدة. الحقائب اليدوية تخلّت عن الألوان وبشرت بمستقبل غامق الألوان وغامض، مع اتجاه لسيطرة اللون الأسود. الزنّار عاد موضة مستقبلية بعودة البنطلون الى ساحة الأناقة. فهو عريض ومزركش، ومزين بحجارة كريمة أو رأس حيوان عند كاستلباجاك مثلاً. الرأس حمل اكسسوارات هندسية أو فضائية. شكل مثلثي عند كوشينو اليابانية. قناع أسود من ابتكار إيسي ميكايي الياباني أيضاً. خرز وخمار من غي لاروش وميكايي، لآلئ من البورسلين، عقود جميلة كبيرة الحبات، ملونة وكثيفة وتهبط حتى الخصر تدلياً. التأثر بالشرق تأكد في تصميم المجوهرات، وكذلك الالحاح على فطرية زينة كل فصيلة عرقية في العالم. السوق تبحث عن انتاج جديد يغري بالاقبال عليه في حقل الموضة. الا ان الحذر من الشراء لا يزال سائداً. المرأة تبقى بحاجة الى زينة تقليدية وإلى اكسسوار يطول استعماله. لذا فان الحقيبة اليدوية السوداء نالت حصة الأسد في المبيع. حقيبة كوشينو المثلثة كالقنديل الهندسي لاقت اعجاباً في عرض أزيائها فقط. وأقداح تارلازي فوق صينية معلقة الى رأس العارضة أدهشت وأضحكت. فقد كانت قبعة الفن للفن. بالانسياغا الهندسي الخطوط حيّر المشاهدين وهم يركزون عيونهم على قبعات بيضاء على رؤوس العارضات لا تشبه غير ذاتها في الابتكار. كأن بالانسياغا كان يتهكم. باكو رابان جاء برأس معدني تتجمد خصيلات الشعر عليه وتتبعثر. مجوهرات شاعرية على شكل حبّات الثلج من كريستال بوهيم والمعدن الفضي. البيئة كان لها حصة في الاكسسوار. عقود من أوراق صغيرة ذهبية كثيفة العدد. تقشف للبيع، وإبداع على منصة العرض للفرجة والمتعة بابتكار ما يدهش النظر. من دور الأزياء الأولى سنة 1900 حتى دور الأزياء المعاصرة اليوم التي تتنافس على أجمل الابتكارات الموسمية، كان الهم واحداً. وهو أن أناقة المرأة كانت محوراً لأرقى الابداعات الفنية. المصمم بقي على مرّ الزمن مبدعاً كبيراً. وإبداعه يظهر مجرداً في اثناء عروض الأزياء. فعلى المنصة، حين تبدأ العارضات بالتهادي في أجمل الابتكارات، يكون الاقتصاد حاضراً طبعاً. غير ان نشوة المصمم لا تبلغ ذروتها إلا حين تظهر ابتكاراته "غير الاقتصادية". وهي الفنية فعلاً والتي تكون للفرجة فقط. انها موضة "البوديوم".