منذ اذاعة البيان الرقم واحد لثورة الانقاذ الوطني في الخرطوم، صباح 30 حزيران يونيو 1989، موقعاً باسم رئيس مجلس قيادة الثورة العميد عمر حسن البشير، وأصابع الاتهام تشير الى الجبهة الاسلامية القومية والى زعيمها الدكتور حسن عبدالله الترابي بأنهما وراء الاحداث التي أدت الى قيام ثورة الانقاذ واطاحة حكومة الصادق المهدي المنتخبة ديموقراطياً. ولهذا عمد الانقلابيون الى الاعلان في كل مناسبة بأن لا علاقة لهم بالجبهة، بل وضع قادة الانقلاب زعيم الجبهة الترابي، ومعه ابرز قياداتها، في السجن مع زعماء الاحزاب السياسية السودانية مثل الصادق المهدي ومحمد عثمان الميرغني ومحمد ابراهيم نقد وسيد احمد الحسين. ثم سارع مجلس قيادة ثورة الانقاذ الى الاعلان عن حل الاحزاب السياسية والنقابات السودانية، وأعلن العقيد سليمان محمد سليمان، المتحدث الرسمي باسم قيادة الثورة "ان الجبهة أفسدت الحياة السياسية كغيرها من الاحزاب". غير ان عدداً كبيراً من قيادات الجبهة الاسلامية ظهروا لاحقاً في مناصب وزارية مهمة، بل انهم تسلموا جميع مناصب نواب الولاة في الاقاليم السودانية، التي يتولى قيادتها والٍ عسكري، وهم ترشحوا في آخر انتخابات نيابية في السودان عام 1986، بعد عام على سقوط نظام نميري، وأبرز هؤلاء: - الولاية الوسطى: الشريف احمد بدر، عضو المجلس النيابي عن الجبهة الاسلامية في دائرة المسيد. - الولاية الشمالية: محمد الحسن الامين، عضو المجلس النيابي عن الجبهة الاسلامية في دائرة أم درمان. - ولاية كردفان: محمد احمد الفضل، عضو المجلس السوداني عن الجبهة في دوائر الخريجين. - ولاية دارفور: احمد ابراهيم الطاهر، مرشح لعضوية المجلس عن الجبهة في دائرة الابيض. - الولاية الشرقية: حبيب مختوم مرشح الجبهة لعضوية المجلس في انتخابات 1986. - اعالي النيل: منقو اجاك مرشح الجبهة لانتخابات عام 1986. - الولاية الاستوائية: محمد احمد سوميت مرشح الجبهة لانتخابات عام 1986 ايضاً. - ولاية بحر الغزال: تميم فرداك، عضو المجلس النيابي عام 1986 عن الجبهة في دوائر الخريجين. على صعيد الواقع، فان العلاقة وطيدة للغاية اليوم بين حكومة ثورة الانقاذ وجبهة الترابي. فمجلس الوزراء الحالي يضم عدداً من رموز جبهة الترابي، كما ان عدداً كبيراً من انصار الجبهة القومية الاسلامية يتبوأون مناصب رفيعة في الدولة وفي سفارات السودان في الخارج. العلاقة، اذن، وطيدة بين جبهة الترابي وحكومة البشير على رغم ان كل طرف منهما ينفي ويتملص من هذه العلاقة احياناً. وقد اعلن الفريق عمر حسن البشير في تصريحات صحافية خص بها "الوسط"، قبل حوالي العام، "نحن لا ننكر ان الجبهة الاسلامية وجهت عناصرها لتأييدنا والانخراط في صفوفنا. ولكن الجبهة، رسمياً وقانونياً، يسري عليها قرار حل كل الاحزاب السياسية. وبالنسبة لتأييد قاعدة الجبهة الاسلامية وقيادتها لثورة الانقاذ فاننا سنتمسك بهم كأفراد ونحاول استمالة العناصر السياسية الاخرى للالتحام معنا لنكسب في كل يوم جديد عناصر جديدة، دون ان نفرط في العناصر الموجودة معنا. ونحن نعلم بوجود ثلاث فئات: فئة معنا وفئة محايدة وفئة معارضة، ونحاول ان نحول الفئة المحايدة لتكون معنا. وان نجعل الفئة المعارضة محايدة". وتتحدث اوساط مراقبة في الداخل والخارج عن وجود اكبر وأكثر فاعلية للجبهة داخل النظام. بل يذهب بعض المراقبين الى القول ان الجبهة الاسلامية تعد كل الخطوط الرئيسية للسياسة السودانية حالياً، وتسعى لاحقاً الى تنفيذها بواسطة عناصرها الموجودة داخل مجلس قيادة الثورة، والوزراء وفي المواقع الاستراتيجية الاخرى. إنذار من الترابي! في اكثر من مرة نشبت الازمات بين الحكومة السودانية الحالية، والجبهة الاسلامية، او مع زعيم الجبهة الترابي. الازمة الاولى حدثت عندما وضع الترابي في السجن الانفرادي، بعد ايام قليلة من ثورة الانقاذ في 30 حزيران يونيو 1989. والمرة الثانية حين سحبت الحكومة السودانية جواز السفر الديبلوماسي الذي منحته لراشد الغنوشي، زعيم حركة "النهضة" المحظورة في تونس، وتردد ان الترابي احتجّ على ذلك. والازمة الثالثة كانت بسبب تصريحات ادلى بها الترابي ونشرت في لندن، العام الماضي، تحدث فيها عن تدبير انقلاب قامت به جهة معينة ضد الحكم السوداني. ثم عاد الترابي ونفى تلك التصريحات. والرابعة والاخيرة كانت بسبب تصريحه الى "رويتر" حول مستقبل مجلس قيادة الثورة، وضرورة تنازله عن السلطة لصالح المدنيين خلال فترة زمنية محددة. وقد كان لهذه التصريحات ردود فعل عنيفة داخل وخارج السودان قبل ان ينفيها الترابي. أبرز ردود الفعل كانت التصريحات التي أدلى بها الى "الوسط" احمد عبدالرحمن، الرجل الثاني في الجبهة الاسلامية، حيث قال: "ان تصريحات الترابي هي بمثابة انذار واعلان للعسكريين كي يعمدوا الى تسليم السلطة". ولوحظ ان الدكتور غازي صلاح الدين، وزير الدولة لشؤون الرئاسة، حاول التقليل من اهمية تصريحات الترابي حين وصفها بأنها "عادية ولا تستحق كل هذه الضجة". وان "مستقبل مجلس قيادة الثورة اعلنه الرئيس البشير نفسه اكثر من مرة، وسيُحل بعد قيام المؤسسات الدستورية". وتتهامس مجالس الخرطوم بردود فعل اخرى اكثر اهمية اثارتها تصريحات الترابي وردود فعل الحكومة السودانية عليها. وعلمت "الوسط" من مصادر خاصة في الخرطوم ان كبار الضباط في القوات المسلحة طلبوا عقد اجتماعٍ مع البشير وان الاجتماع تم واستمر حتى ساعة متأخرة من مساء 13 كانون الثاني يناير الحالي. غير ان الاوضاع في الخرطوم هدأت بعض الشيء بعد النفي الصريح الذي اعلنه الدكتور الترابي، مساء اليوم التالي وقال فيه ان "الجهة الصحافية التي نقلت تصريحاته حرفتها". واتهم الترابي هذه الجهة بپ"الاثارة وتشويه الحقائق". معلناً انه لن يتحدث، مستقبلاً، مع اشخاص لهم عداء تقليدي مع السودان وتوجهه الاسلامي، على حد تعبيره. ربما يكون الستار أُسدل على آخر ازمة بين الحكومة وجبهة الترابي، ولكن لا يزال الشارع السوداني يتحدث عن النظام الحاكم بأنه يضم فريقين اساسيين. الأول يطلقون عليه تسمية "الانقاذيون"، وهم الذين أتوا مع ثورة الانقاذ، أو آمنوا ببرامجها. والثاني هو عناصر الجبهة الاسلامية. وسيظل الحذر موجوداً بين الفريقين حتى قيام المؤسسات الشعبية والدستورية واجهزة النظام السياسي والتنفيذي الجديد. ويبدو ان كل فريق يحاول ان يكون اكثر حرصاً من الآخر على استمرار المعادلة الحالية في السودان، ممثلة بنظام ثورة الانقاذ، خصوصاً بعد الهجمة الدولية على السودان. الجبهة القومية الاسلامية منذ تأسيسها يسيطر عليها تياران اساسيان: الأول معتدل والثاني متطرف، التيار الأول يطالب بالابتعاد عن دائرة الضوء واتاحة الفرصة للعناصر الانقاذية المستقلة لتقليل الهجمة على النظام في الداخل والخارج. اما التيار الثاني الذي يمثله الشبان فيطلب بأن تتولى الجبهة مسؤولياتها كافة وتدافع عن توجهاتها "لتعيش او تموت واقفة" على حد قول احد المنتمين الى هذا التيار. أعضاء مجلس قيادة الثورة والسؤال الآخر المطروح في الخرطوم: ما هو حال مجلس قيادة الثورة السوداني اليوم؟ الواقع ان التعديل الوزاري الاخير الذي اجراه الرئيس البشير في نهاية الشهر الماضي اسفر عن اعفاء عضو آخر من مجلس قيادة الثورة من منصبه. فحين قامت "ثورة الانقاذ" كان عدد اعضاء مجلس الثورة 15 عضواً اما اليوم فأصبحوا تسعة فقط. والعضو الذي اعفاه البشير من منصبه في التعديل الوزاري الاخير هو العميد طيار فيصل مدني مختار، وكان يتولى حقيبة وزارة الصحة، وقبلها تولى مسؤولية حاكم اقليم كردفان، والمعروف عنه عدم ارتياحه للتعامل مع الجبهة القومية الاسلامية كما اعلن ذلك في تصريحات صحافية في شهر تشرين الأول اكتوبر الماضي. وقد تم اعفاؤه من كل مسؤولياته في عضوية مجلس الثورة ووزارة الصحة. ماذا عن اعضاء مجلس قيادة الثورة الخمسة الآخرين الذين فقدوا مناصبهم خلال السنوات الثلاث الماضية؟ كان اللواء عثمان احمد حسن واللواء فيصل علي أبو صالح أول من فقدا منصبيهما في مجلس الثورة بسبب الخلاف الحاد حول السياسة الخارجية وموقف السودان من ازمة الخليج. وكان القرار المعلن هو "اعفاؤهما"، لكن الشارع السوداني يعرف الاسباب الحقيقية، فالأول وهو عثمان احمد حسن كان رئيسا للجنة السياسية ولكنه كان متعاطفاً مع الكويت، كما ظهر من تصريحاته التي نقلناها في حينه، اما الثاني وهو فيصل ابو صالح فكان مقرباً جداً من مصر التي عمل فيها في الملحقية العسكرية بالاضافة لارتباطه روحانياً مع احدى الطرق الصوفية التي تتخذ مركزها الديني في مصر. احد اعضاء مجلس الثورة توفي وهو العميد بيو يوكوان وهو جنوبي من قبيلة الشلك وقد بكاه كل السودانيين لأنه اشتهر بحماسه من اجل السلام ووقف الحرب في الجنوب، وكان فقده ضربة قاسية لجهود الحكومة في هذا المجال نظراً الى الاحترام الذي كان يلقاه من كافة القبائل والفصائل والمجموعات الجنوبية. عضو آخر في مجلس الثورة صدر قرار باعفائه مع التشكيك في ذمته المالية واتصاله بجهات اجنبية، وهو العقيد مارتن ملوال أروب، وصدر القرار في العام الماضي بعد عودته مباشرة من رحلة طويلة قضاها في الولاياتالمتحدة ومصر، وهو من قبيلة الدينكا التي ينتمي اليها العقيد جون قرنق وتربطهما صلة قرابة، ومما يجدر ذكره انه حتى الآن لم تتخذ أية اجراءات قضائية بحق العقيد مارتن رغم بشاعة التهم التي اطاحت به من مجلس الثورة. العضو الاخير من مجلس الثورة الذي فقد مركزه هو العقيد محمد الامين خليفة الرجل القوي في النظام، وكان سبب الاعفاء بمناسبة اختياره رئيساً للمجلس الوطني الانتقالي البرلمان. والرجل من الذين يجدون الاحترام في الاوساط السياسية والعسكرية. وقد قاد جميع جولات مفاوضات السلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان في اديس ابابا ونيروبي عام 1989 وأبوجا عام 1992، كما ترأس مؤتمر الحوار الوطني حول قضايا السلام - أهم مؤتمرات ثورة الانقاذ - وهو المؤتمر الذي اصدر نهج الحكومة في السلام والفيدرالية ونظام الحكم. وتبعه مؤتمر النظام السياسي الذي ترأسه ايضا محمد الامين خليفة الذي على رغم انه لم يعد عضوا في مجلس الثورة الا انه لا زال من رجالات القرار في النظام، ويكفي انه، بروتوكولياً، يأتي بعد الفريق عمر البشير مباشرة، اي قبل نائبه اللواء الزبير محمد صالح. ويضم مجلس قيادة الثورة حالياً تسعة اعضاء فقط من مجموع اعضائه الپ15. والمجلس لم يجتمع منذ سنة ونصف السنة تقريباً، وأعلن الرئيس البشير ان صلاحياته تحولت الى المجلس الوطني الانتقالي ومجلس الوزراء، ومجلس الثورة بصورته الحالية التي عبر عنها العميد فيصل مدني مختار في تصريحات صحافية قبل ثلاثة شهور "ليست لديه صلاحيات وقرارات سوى اصدار القرار الاخير بحل نفسه". والاعضاء الحاليون في مجلس الثورة هم الفريق عمر حسن البشير - الرئيس، اللواء الزبير محمد صالح - نائب الرئيس، وقد اعفي في الاسبوع الماضي من منصبه كوزير للداخلية للتفرغ لعمله كرجل ثانٍ في النظام، اللواء التيجاني آدم الطاهر ليست لديه اعباء محددة، ومن اكثر المهتمين بالعلاقات السودانية - الليبية، اللواء ابراهيم نايل ايدام، يتولى وزارة الشباب والرياضة وهو على خلاف دائم مع الجبهة الاسلامية ولا يمارس اي دور نحو التنظيم الشبابي الوحيد منظمة شباب الوطن الذي ترعاه وتديره عناصر الجبهة الاسلامية، العميد دومنيك كاسيانو من جنوب السودان بل هو العضو الجنوبي الوحيد في مجلس الثورة بعد وفاة العميد بيويوكوان واعفاء العقيد مارتن ملوال أروب، كان وزيراً للعمل والتأمينات الاجتماعية والغيت وزارته في التعديل الجديد وأصبح وزيراً للاصلاح الاداري في الوزارة الجديدة، العميد مهندس صلاح الدين محمد احمد كرار من الشباب المثقف الذي التحق بالعسكرية وكان رئيساً للجنة الاقتصادية بمجلس الثورة وبعد حلها اصبح وزيراً للنقل والمواصلات، وبعد التعديل الاخير اصبح وزيراً للطاقة والتعدين. يتمتع بثقة كبيرة من عناصر الجبهة الاسلامية داخل الحكومة وخارجها، العميد سليمان محمد سليمان يتولى حالياً وزارة الثقافة والاعلام وهو من الاعضاء المشاكسين للجبهة الاسلامية ومشاركتها في الحكم، وكان على خلاف مع عناصر الجبهة حين كان حاكماً للاقليم الاوسط. يمثل التيار الشباب في المجلس وهو من فئة العسكريين غير السياسيين، العقيد بكري حسن صالح بعيد عن الاضواء دائماً، كان يشارك في الحوار مع السياسيين ويتولى حالياً قيادة جهاز الامن لم يدل في تاريخه بأي حديث صحافي وتربطه صداقة وعلاقة ثقة لا حدود لها بالرئيس عمر البشير، وكلاهما من "سلاح المظلات"، المقدم ابراهيم شمس الدين العضو الغامض في مجلس الثورة، من سلاح المدرعات وصاحب المهمات الصعبة في المجلس، ظهر خلال فترة الحكومة الحالية مرتين، الاولى حين قاد الهجوم على القوات التي تمردت عام 1990 وظهر انه يتولى حماية النظام، والثانية حين ظهر في مدينة جوبا التي يقيم فيها بصفة مستمرة في الشهور الاخيرة للمشاركة في قيادة العمليات العسكرية في جنوب السودان يشاع عنه انه اسلامي متطرف وهو اصغر اعضاء النظام سناً اذ انه من مواليد 1960.