هل هناك "لوبي عراقي"، اي بالتحديد مجموعات ضغط مؤيدة للرئيس العراقي صدام حسين، في موسكو؟ وممن تتألف هذه المجموعات؟ وهل هي قادرة على ابعاد روسيا عن دول التحالف الثلاث، الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا، في المواجهة السياسية - العسكرية مع العراق؟ هذه التساؤلات مطروحة في عدد من العواصم العربية والاجنبية منذ ان اصدرت وزارة الخارجية الروسية بياناً انتقد ضمناً إقدام الاميركيين على قصف منشأة نووية على مسافة 20 كيلومتراً من بغداد بصواريخ "كروز" من نوع توماهوك يوم 17 كانون الثاني يناير الماضي، كما اعرب عن قلقه ازاء بعض الغارات الجوية التي شنتها دول التحالف ضد أهداف عسكرية في العراق في الايام القليلة الماضية، اذ قال بيان الخارجية الروسية ان اي اجراء عسكري ضد العراق يجب ان يكون "متناسباً وان يكون فقط بموجب قرارات الاممالمتحدة المتفق عليها". لكن وزير الخارجية الروسي اندريه كوزيريف حرص في الوقت نفسه على مطالبة العراق بالالتزام بتنفيذ قرارات مجلس الامن وقال: "ليست هناك اية شكوك عندنا من انه يجب ان توضع هذه القرارات موضع التنفيذ وان الطريق الوحيد للخروج من هذا الموقف هو ان تذعن الحكومة العراقية لهذه القرارات". وفي الوقت نفسه ذكرت "وكالة الصحافة الفرنسية" في رسالة لها من نيويورك بتاريخ 20 كانون الثاني يناير الماضي ان مندوب روسيا لدى مجلس الامن يولي فوزتسوف اكد في الاجتماع المغلق لمجلس الامن الذي ناقش الوضع في العراق "ان العراق هو وحده المسؤول عن عدم احترام قرارات الأممالمتحدة". هذه المواقف والتصريحات تدفع الى التساؤل: ماذا يجري في موسكو؟ وهل هناك صراع في روسيا حول السياسة التي ينبغي اتباعها تجاه العراق وصدام حسين؟ المعلومات التي حصلت عليها "الوسط" من مصادر روسية وثيقة الاطلاع في موسكو تؤكد ان هناك عاملين اساسيين وراء صدور بيان وزارة الخارجية الروسية: 1- العامل الاول هو ان هناك قوى روسية معارضة للرئيس الروسي برويس يلتسين تؤيد صدام حسين وتدعو الى تغيير سياسة موسكو ازاءه. 2- العامل الثاني ان الحكومة الروسية انزعجت من عدم اجراء الادارة الاميركية مشاورات مسبقة مع الحكومة الروسية بشأن الضربات العسكرية الاخيرة التي وجهتها الى العراق، بل ان واشنطن ابلغت موسكو بالأمر قبل نصف ساعة فقط من قصف الاهداف العراقية. مبعوث روسي الى بغداد وقال ديبلوماسي روسي ل "الوسط": "ان ما نشره بعض الصحف من ان هناك صراعاً عنيفاً حول الموقف من العراق داخل وزارة الخارجية يعتبر مبالغة. لقد كان علينا بالطبع ان نأخذ رد فعل المعارضة الروسية في الحسبان، لأنها تعتبر احد مقومات الواقع السياسي للبلاد. لكن ليس من الممكن ان يدور الحديث عن تغيير جذري ما لموقفنا، ناهيك عن تغييره ب180 درجة، كما يطالب المعارضون عندنا. فروسيا الشاسعة الرحاب ما زالت دولة عظمى، ويمكن مقارنتها مع فيل في محل التحف، حيث تنطوي كل حركة تبدر من هذا الفيل على عواقب لا يمكن التكهن بها بالنسبة الى العالم أجمع". وفي بيان وزارة الخارجية اشارت موسكو الى عدم التناسب بين ردود الافعال الاميركية وممارسات بغداد، ولامت واشنطن كذلك على اتخاذ قرارات غير منسقة مسبقاً، ودعت الى معالجة الوضع في مجلس الامن الدولي. الا ان النار الكامنة تحت الرماد تأججت بقوة يوم الاربعاء 20 كانون الثاني يناير عندما أعلن سيرجي جلازييف وزير العلاقات الاقتصادية الخارجية الروسية في حديثه لوكالة "انترفاكس" ان المجتمع الدولي "يجب ان يعوض روسيا عن الخسائر التي تكبدتها نتيجة تأييدها العقوبات الدولية المفروضة على العراق وليبيا ويوغوسلافيا". وبعد ان قدر الوزير مجموع الخسارة ب160 مليار بليون دولار، اقترح بحث هذه القضية في مجلس الامن الدولي. ومما لا شك فيه ان تصريح جلازييف وفر للمعارضة البرلمانية الروسية حجة قوية جديدة في حملتها ضد النهج الخارجي الراهن لروسيا وضد وزير الخارجية أندريه كوزيريف شخصياً، لا سيما ان مسألة "الفائدة الضائعة" يفترض بحثها في جلسة البرلمان المغلقة في مطلع الشهر الجاري. ورداً على تصريحات جلازييف المفاجئة وجهت وزارة الخارجية الروسية مذكرة مطولة الى البرلمان دحضت فيها، مبلغ الخسارة المعلن وامكان معالجة هذه المسألة في مجلس الامن الدولي. وبعد الاشارة الى ان مجموع مديونية الدول الثلاث المذكورة امام روسيا لا تساوي سوى ثمانية مليارات دولار ونيف، أشارت وزارة الخارجية بشكل خاص الى ان خسارة روسيا كان يمكن ان تكون اكبر بكثير في حال عدم تأييدها العقوبات ضد العراق وليبيا ويوغوسلافيا وذلك لأنها كانت ستفقد الدعم الاقراضي للغرب في العامين 1991 - 1992 الذي يقدر ب15 مليار بليون دولار، وكذلك تأجيل المدفوعات المترتبة على ديونها الخارجية الذي سيوفر للخزانة الروسية 18 مليار دولار في العام الجاري وحده. وعلى رغم تصعيد المعارضة الروسية ضغطها على الحكومة هذه الايام بهدف دق اسفين بين القيادة العليا للبلاد ووزارة الخارجية، الا ان جميع الدلائل تشير الى ان الاخيرة لا تنوي التراجع عن موقفها وسياستها الحالية تجاه العراق المؤيدة للتحالف الدولي. وعلمت "الوسط" ان مبعوثاً روسياً على مستوى رفيع قد يزور بغداد في المستقبل القريب لمناقشة الوضع الناشئ مع الجانب العراقي. وقال ل "الوسط" مصدر مطلع في موسكو: "لا نود ان يتولد لدى القيادة العراقية انطباع خاطئ عن موقفنا الرسمي. واذا فضلت بغداد ان تصغي الى صوت المعارضة الروسية فانها بذلك لن ترى حقيقة الامور". "اليوم العراق وغداً روسيا" ولكن ما هي حقيقة العلاقة بين المعارضة الروسية وصدام حسين؟ وجهت سفارة العراق في موسكو دعوة لحضور حفلة استقبال في السادس من كانون الثاني يناير الماضي لمناسبة يوم تأسيس الجيش العراقي، وكان ضمن المدعوين نواب البرلمان الروسي عن الكتلة المعارضة لقيادة يلتسين ونواب الشعب اعضاء البرلمان الملغى للاتحاد السوفياتي السابق وكذلك قادة الاحزاب والحركات القومية واليمينية وشخصيات الحزب الشيوعي "المحظور نشاطه" حالياً في روسيا. ومثّل العسكريين في حفل الاستقبال الجنرال ميخائيل مويسييف رئيس هيئة الاركان العامة للجيش السوفياتي سابقاً ايام التمرد الشيوعي في آب اغسطس سنة 1991 ضد ميخائيل غورباتشوف والجنرال فلاديسلاف اتشالوف الذي كان ابان تلك الحقبة آمر قوات الانزال، وكان أيد الانقلابيين المتمردين على غورباتشوف ولكنه تفادى اعتقاله بما يشبه المعجزة. ومن جهة اخرى جاء لتهنئة السفير العراقي غافل جاسم حسين بذكرى تأسيس الجيش قائد المنظمة العسكرية المعارضة "اتحاد الضباط" المقدم ستانيسلاف تريخوف الذي سرحه وزير الدفاع بافل غراتشوف اخيراً من صفوف الجيش. وكان بين الضيوف ايضاً فلاديمير جرينوفسكي زعيم الحزب الديموقراطي الليبرالي اليميني المتطرف. وسبق له ان نافس عام 1991 بوريس يلتسين على منصب رئيس جمهورية روسيا وجمع لصالحه ما يربو على 6 ملايين صوت من اصوات الناخبين، وهو يتهيأ حالياً لخوض المعركة الانتخابية المقبلة مرشحاً لمنصب رئيس بلدية موسكو. بيد ان الكوكب اللامع بين وجوه الحضور كان بلا شك سيرغي بابورين احد زعماء الكتلة البرلمانية المعارضة ذات النفوذ المسماة "الوحدة الروسية" التي تضع نصب عينيها مهمة "اجراء التغيير الدستوري للنهج السياسي الحالي". ويحمل بابورين البالغ من العمر الرابعة والثلاثين شهادة الدكتوراه في القانون وقد طرح اسمه ضمن المرشحين عام 1991 لمنصب رئيس البرلمان. وهو يعد اليوم احد ابرز زعماء المعارضة المحافظة في روسيا. هذه الشخصيات الروسية المعارضة ترى في صدام حسين "فيدل كاسترو" آخر، وفي العراق "حليفاً ضد الامبريالية الاميركية". ويدعو نواب كتلة "الوحدة الروسية" المعارضة في البرلمان الروسي الى استقالة وزير الخارجية كوزيريف من منصبه "لأنه يلحق الضرر بمصالح روسيا". ومن مؤيدي صدام حسين ايضاً الكسندر بروخانوف رئيس تحرير صحيفة "اليوم" الروسية المعارضة. وهو توجه في الفترة الاخيرة الى بغداد للالتقاء بالمسؤولين العراقيين. ويعتبر "القوميون الروس" - وهم ايضاً من خصوم يلتسين وسياسته - ان سياسة البيرسترويكا التي سار عليها غورباتشوف ابتداء من 1985 ثم انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 كانا حصيلة مؤامرة دبرتها "الجماعات الامبريالية والصهيونية" بمساعدة "عملاء" في روسيا. وتدخل المعارضة المتطرفة في عداد هؤلاء "العملاء" على حد سواء المنشقين السابقين الذين كانوا عرضة للملاحقات في عهد نظام الحكم الشيوعي والذين هم حالياً على رأس مختلف الحركات الديموقراطية، وايضاً "المرتدين" من الشيوعيين السابقين افراد "النخبة" الذين "باعوا انفسهم"، في رأي المعارضة، فصاروا "أُجراء للبيت الابيض الاميركي" وكانت لهم يد واصبع في انهيار الامبراطورية السوفياتية. ويمكن العثور اليوم في صفوف المعارضة في روسيا سواء على غلاة اليمينيين الذين يمقتون الشيوعية كل المقت، او اليساريين الذين لم يتخلوا عن حلم "الانتقام الشيوعي" والاخذ بالثأر. ولكن ما يوحدهم جميعاً هو الحنين الى "مجد الامبراطورية السوفياتية" التي يعتقدون ان انهيارها جعل روسيا تلعب دور "دولة من الدرجة الثانية" ومصدر المواد الخام الى الولاياتالمتحدة. ويرفع بعض المعارضين الروس شعار "اليوم العراق وغداً روسياً". في اشارة الى الهجمات الاميركية على العراق. وفي هذا الاطار توجهت "مجموعة متطوعين" روس، تردد ان عددهم عشرة، يدينون بالولاء لسياسي متشدد هو فلاديمير جيرنيوفسكي الداعي الى احياء الامبراطورية الروسية، الى بغداد "لمقاتلة اميركا ومساعدة العراق" على حد قولهم. وعود عراقية ويبدو واضحاً من المعلومات التي حصلنا عليها ان القيادة العراقية تحاول تقديم "اغراءات ووعود" الى المسؤولين الروس او بعض القوى المعارضة في روسيا لمحاولة استمالة موسكو اليها ودفعها الى الابتعاد عن دول التحالف الاخرى. ففي تشرين الثاني نوفمبر الماضي زار بغداد وفد روسي ضم نواباً معارضين من كتلة "الوحدة الروسية" واثنين من المسؤولين الروس لهما علاقة مباشرة بمؤسسة النفط والغاز ومن ذوي الصلة بالتعاون الروسي - العراقي في مجال الطاقة، احدهما هو غيورغي تيخونوف نائب رئيس احد الاقسام في ادارة هذه المؤسسة، والآخر هو يوري كورسون وكيل وزير الوقود والطاقة في روسيا. وذكر مصدر مطلع انهما اجريا في بغداد مباحثات حول "آفاق استئناف التعاون بين البلدين" وقد اكد الجانب العراقي للوفد الروسي "ان بغداد على اتم الاستعداد في اول يوم يعقب رفع الحصار الاقتصادي عن العراق لبدء تسديد دينها الى روسيا البالغ زهاء سبعة مليارات دولار نقداً او بالبترول الخام". ويبدو واضحاً ان "الورقة العراقية" هي اليوم ورقة بارزة في ايدي المعارضة الروسية ليلتسين. فروسيا تمر حالياً بمرحلة من الصراع العنيف على السلطة تتجلى في التنافس بين الرئيس يلتسين وجهاز ادارته من جهة والبرلمان واغلبيته المحافظة من الجهة الاخرى. وبلغت هذه المجابهة اوجها اثناء مؤتمر نواب الشعب الذي انعقد في كانون الاول ديسمبر الماضي وهو الهيئة العليا للسلطة في روسيا، وبدت روسيا على حافة ازمة سياسية ودستورية كبرى. وقال ل "الوسط" مصدر روسي بارز ان معلومات تفيد ان الكثيرين من الديبلوماسيين العراقيين ممثلي نظام صدام حسين يميلون حالياً "الى المراهنة على تولي المعارضة في روسيا زمام الحكم والسلطة، خلفاً ليلتسين عاجلاً أو آجلاً".