مرة واحدة قُدّر لي فيها أن أكون طرفاً في مناقشة مستفيضة مع يفغيني بريماكوف، الذي أصبح اخيراً رئيس الوزراء الجديد في روسيا الاتحادية. كان هذا في القاهرة في خريف 1990، والحدث الجلل المسيطر علينا جميعاً كان الغزو العراقي للكويت. وبصفته ممثلاً خاصاً لميخائيل غورباتشوف رئيس الاتحاد السوفياتي قام بريماكوف بجولة اقليمية ودولية طرفاها الأساسيان بغدادوواشنطن، وفي ما بينهما محطات توقف فيها أبرزها القاهرة. في القاهرة دعاه أسامه الباز، المستشار الرئاسي والقطب السياسي البارز، الى عشاء محدود خارج نطاق الترتيبات الرسمية. عشاء كان المدعوون لحضوره أقل من عشرة أشخاص لا يجمع بينهم أكثر من التحرر من قيود الرسميين وكلماتهم المبرمجة سلفا. حينما قال الباز مداعباً إن بريماكوف جاء ليستمتع بنيل القاهرة في المساء بعيداً عن السياسة... أصبح كمن يعد وليمة فاخرة لضيوف جائعين ثم يقول لهم: استمتعوا بهذا العشاء شرط ألا تمتد أيديكم الى أي جزء فيه! "نعم هو غزو صريح للكويت ومفاجأة قاسية لنا جميعاً. نعم. لا بد من انسحاب عراقي كامل وواضح وصريح. نعم هي الحرب اذا لم يفهم صدام حسين الموقف على حقيقته. و"بعكس ايحاءات غير صحيحة في الإعلام الأميركي والبريطاني - هذا بريماكوف مستمر في الحديث - فإنني لست وسيطاً بين طرفين. مهمتي فقط التعامل مع حقائق بعقل بارد وشرحها لصدام حسين. في الواقع إذا كانت هناك حرب واحدة تتمناها الولاياتالمتحدة فهي هذه الحرب. لكن تحرير الكويت بالحرب لن يدفع ثمنه العراق وحده، بل المنطقة وكل الخريطة الدولية التي نحن - في موسكو - جزء منها". مع منتصف الليل وانتهاء العشاء كان انطباعي عن بريماكوف محدداً تماما. هذا رجل ذكي سريع البديهة دقيق الكلمات، يقول رأيه بين وقت وآخر من خلال روح الفكاهة والسخرية. أحيانا السخرية من نفسه. تحت هذا الغشاء الرقيق يوجد رجل واقعي تماماً. هو واقعي بمعنى سعيه الى التعامل مع حقائق مجردة، سواء أحبها أو كرهها. من الحقائق المجردة يولد التشخيص السليم، ومن التشخيص السليم يمكن أن يبدأ العلاج. الآن مضت ثماني سنوات تقريبا على ذلك اللقاء وبريماكوف يعود الى بؤرة الأحداث في موسكو، أو الطبعة الثالثة من موسكو. حتى سنة 1991 كانت موسكو عاصمة للقوة العظمى الثانية على مستوى العالم، ومواقفها تشق طريقها الى الصفحات الأولى من كل الصحف العالمية. الآن لم يعد لتلك المواقف من مكان سوى صفحات المواساة والحوادث. لم يكن سقوط الماركسية هو صميم المسألة. فالماركسية تجاوزت عصرها تماما. وفي كل الأحوال فإن انسحاب الاتحاد السوفياتي من كل أوروبا الشرقية - بقرار من ميخائيل غورباتشوف - كان في حد ذاته بداية الرحلة العكسية. وحينما أغرق الإعلام الغربي غورباتشوف وزوجته بالمديح وصفحات الأغلفة الملونة .. اندمج غورباتشوف في اللعبة بكاملها بحيث أصبح هو أكبر أدواتها وسماسرتها. مع ذلك فإن الطريقة التي تسلسلت بها الأحداث بعد ذلك لا تزال بعض جوانبها الأساسية تستعصي على الفهم حتى الآن. هناك حرب باردة كان سؤالها المحوري: من يحكم أوروبا؟ وبانسحاب السوفيات من النصف الشرقي لأوروبا فازت الولاياتالمتحدة بالجائزة المنتظرة. بعد قليل أصبح مصير الاتحاد السوفياتي ذاته على المحك. وبذرة الانهيار التي زرعها غورباتشوف، رعاها خلفه بوريس يلتسين بالهمة والنشاط نفسيهما. وبانتصار الغرب في أوروبا الشرقية أعيد الاتحاد السوفياتي الى عام 1939. ومع سقوط احتكار الحزب الشيوعي للسلطة في موسكو أعيد الاتحاد السوفياتي الى عام 1917. أما بتفكيك الاتحاد السوفياتي ذاته فقد أعيدت موسكو الى القرن السابع عشر. ولم يعد الهدف هنا هو ستالين أو لينين، بل بطرس الأكبر. وروسيا، قبل الماركسية، كانت دولة كبرى فاعلة في المسرح الدولي. فقيرة ومتخلفة، وبين وقت وآخر جائعة... لكنها قوة دولية معترف بها، إن لم يكن بحكم مواردها الطبيعية الهائلة، فعلى الأقل اتقاء لغضبها. والاتحاد السوفياتي في لحظة تفكيكه عام 1991 كان نداً لأميركا على الأقل في المستويين العسكري والعلمي. ومع كل متاعبه الاقتصادية كانت ديون الاتحاد السوفياتي الخارجية حتى كانون الاول ديسمبر 1991 لا تتجاوز ثلاثين بليون دولار. مقابل ذلك كان الاتحاد السوفياتي يمتلك ثلث احتياطي الذهب في العالم زائد مئة بليون دولار ديوناً مستحقة من بينها ثمانية بلايين دولار لدى العراق لحسابه. أكرر: لحسابه. أما قرار غورباتشوف بالموافقة على إعادة توحيد ألمانيا فدفعت بون في مقابله 33 بليون دولار. مع ذلك فقد استعذب غورباتشوف مهنة التسول التي أبدع فيها هو وزوجته. في السنة الأخيرة من عمر الاتحاد السوفياتي بلغ محصول القمح، مثلا، 235 مليون طن. لكن الذي جرى حصده فعلا هو مئة وعشرة ملايين طن. أما المئة والخمسة والعشرون مليون طن الأخرى فقد بقيت في الحقول الى أن فسدت بسبب الفساد إلاداري. وبدلا من أن يعبئ غورباتشوف حكومته كلها لتدارك الموقف وانقاذ محصول القمح، فضّل الإلحاح على الولاياتالمتحدة لكي تقرضه بسرعة بليوناً ونصف بليون دولار لشراء مجرد أربعة ملايين ومئتي ألف طن قمح أميركي. بعدها قام غورباتشوف بإيفاد بريماكوف الى واشنطن. وهنا ردَّ عليه دنيس روس بسؤال: كم يلزمكم بالضبط؟ والاجابة التي تلقاها هي: عشرون بليون دولار. بعدها بشهرين فقط أصبح الذي طلبه غورباتشوف ستين بليون دولار. كيف حسبها؟ ولأي غرض بالضبط؟ لم يرد غورباتشوف بأي شيء أكثر من أن أول بند في القروض المطلوبة هو السجائر. هو يريد من الغرب سجائر على وجه السرعة ببليون دولار، حتى لا يتعكر مزاج المواطن السوفياتي ضده. والآن بعد سبع سنوات من تحول الاتحاد السوفياتي الى "فتافيت"، أكبرها روسيا الاتحادية، تجاوزت الديون الخارجية لروسيا الاتحادية وحدها وبنصف سكان الاتحاد السوفياتي السابق في كانون الأول ديسمبر الماضي مئة وعشرين بليون دولار. في الفترة نفسها تراوحت الثروات المهربة من روسيا الى البنوك الغربية، بطرق غامضة وغير مشروعة، ما بين مئتين وثلاثمئة بليون دولار. وبعد أن كانت موسكو تصدّر الى العالم بترولاً ومصانع وطائرات ودبابات وجرارات زراعية، أصبحت تصدر إلى العالم عاهرات وعصابات مافيا. وبعدما كان الساسة الروس يجلسون مع الأميركان والأوروبيين في هلسنكي لمناقشة أمن أوروبا، أصبح الساسة الروس عاجزين عن توفير الأمن للمواطن الروسي نفسه داخل العاصمة موسكو. وبعدما سبقت موسكو أميركا الى اقتحام عصر الفضاء، بل وحتى بمحطة دائمة اسمها "مير" لا تزال عاملة في الفضاء منذ عشر سنوات، أصبح العلماء الروس أنفسهم يتظاهرون دورياً تسولاً لمرتباتهم من الدولة الروسية. فقط مرتباتهم. ماذا جرى؟ بعض الإجابة يصلح له كُتّاب الدراما. بعضها يصلح له شكسبير. بعضها يصلح له مارك توين. لكن أهمها موجود عند صندوق النقد الدولي والرأسمالية المتوحشة التي يروج لها ويدافع عنها باستبسال منقطع النظير. مع ذلك هناك ثلاث شهادات على وجه الخصوص يفيدنا تذكرها الآن، واثنتان منها من غلاة اليمين الأميركي. هناك أولا جورج كينان، الديبلوماسي الأميركي المخضرم الذي ابتكر في سنة 1947 صيغة "الاحتواء" ضد الاتحاد السوفياتي. لقد سئل كينان عن رأيه في هذا الزلزال الذي انتهى بتفكك الاتحاد السوفياتي، وكان رده: إن انسحاب الاتحاد السوفياتي من أوروبا الشرقية وسقوط الماركسية هو جائزة نستحقها، لأنها بالضبط ما عملنا من أجله، ونستحق أن نهنئ أنفسنا عليه. أما تفكك الاتحاد السوفياتي، فنحن هنا كمن اشترى ورقة يانصيب بدولار واحد، ففوجئ ذات صباح بأن الجائزة الأولى، مليون دولار، هبطت على رأسه في خبطة حظ مدهشة. هناك ثانياً ريتشارد نيكسون الرئيس الأميركي الراحل. لقد سُئل: ما رؤيتك لهذا الانتصار الساحق الذي سجلته الولاياتالمتحدة ضد الاتحاد السوفياتي؟ فأجاب: الذي حدث هو هزيمة الماركسية والاتحاد السوفياتي. لكن انتصار الولاياتالمتحدة والليبرالية لا يزال بعيداً. هناك ثالثاً فاكلاف هافيل رئيس تشيخيا. فباعتباره مسرحياً من الأصل، فقد صارح مرة صحافيا أميركيا بقوله: "لقد أخذ شعبنا علماً بوصول الرأسمالية واقتصاد السوق إلينا حينما رأى أمامه تطورين: أولا ارتفاع أسعار الفنادق، وثانياً انتشار البغاء". والذي حصلت عليه روسيا في طبعتها الثالثة هو رأسمالية متوحشة لا تجرؤ في بلادها أصلا على نصف أو ربع هذا التوحش. وبتواطؤ شريحة سياسية فاسدة في روسيا مارست تلك الرأسمالية المتوحشة أكبر عملية نهب في القرن العشرين. والشركات الكبرى في الاقتصاد الروسي جرى بيعها بسعر التراب. لم يكن العيب في الخصخصة بحد ذاتها، ولكن في مدى النهب الذي جرى تحت عيونها. عملية أطلقت عليها صحيفة غربية كبرى عنوان "الأسرع والأقذر" بمعنى الاستيلاء على ثروات البلد بأسرع وأقذر ما يمكن. هذا يعيدني الى بريماكوف. لكن قبل ذلك هناك واقعة ملفتة في الأسبوع الماضي. فنتيجة للفقر المدقع الذي انحدر اليه عشرات الملايين من المواطنين الروس حققت روسيا معدلاً قياسياً عالمياً في نسبة المنتحرين. من بين هؤلاء فتاة في العشرين من عمرها ألقت بنفسها في النهر الذي يشق مدينتها سعياً الى الانتحار. لكن الصدفة البحتة جعلت أحد الغرباء العابرين يقفز الى النهر وينقذها من الموت غرقاً. في البيت جلست أمها العجوز الى جوارها تواسيها: "اسمعي يا ناتاشا... أعرف أنك سعيت الى الانتحار هرباً من الجوع والفقر الذي انحدرنا اليه. فكان عزرائيل، فوق في السماء، يختارنا للموت في اللحظة التي تناسبه. أنت عيبك الاستعجال. أنت سعيت الى عزرائيل بقدميك فرفض موتك وأعادك الينا على قيد الحياة. من الآن فصاعداً لا أريدك أن تفرضي نفسك على عزرائيل أبداً. هو أدرى بظروفه .. وعلينا أن نلاطم ظروفنا". والآن: تفضل يا سيد بريماكوف. أمامك شعب جائع ومن خلفك جيش غاضب، وإلى يمينك أفيال تضخمت من نهب روسيا، وإلى يسارك عصابات مافيا تحمي أفيال روسيا، وفوق رأسك صندوق النقد الدولي باعتباره قائد الأوركسترا وكاتب النوتة الموسيقية. تفضل في مواجهة مهمة لا يتمناها لنفسه شخص في الثامنة والستين. فلو لم تنجز، لن تجد حتى نهراً تقفز إليه كما فعلت ناتاشا. * نائب رئىس تحرير صحيفة "اخبار اليوم" القاهرية.