كشفت الصدامات العنيفة التي جرت في موسكو في 3 و4 تشرين الاول اكتوبر الماضي عندما قمعت القوات الموالية لبوريس يلتسن المتمردين المسلحين الذين تحصنوا في مبنى البرلمان، ان قوة جديدة ظهرت في الحياة السياسية الروسية لا يمكن تجاهلها من الآن فصاعداً، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ألم يأسر الجيش، باستيلائه على مبنى البرلمان، بوريس يلتسن ايضاً، وما هو الثمن الذي يجب ان يدفعه الرئيس الآن بدل تأييد القوات المسلحة له؟ وهل سيدفع بالفعل هذا الثمن؟ عندما اصدر يلتسن مرسومه الشهير في 21 ايلول سبتمبر الماضي بحل البرلمان كان رد فعل العسكريين هادئاً. وقال وزير الدفاع بافيل غراتشوف: "ان الجيش لن يتدخل في المشاحنات السياسية". وعندما راحت المواجهة السياسية بين جناحي السلطة تقترب من الحل الدامي كان العسكريون في موقع موسكو منهمكين في التمون للشتاء. صحيح ان بعض المعطيات السرية يقول ان اكثر العسكريين كان يميل الى ما يسمى ب "خيار الصفر" لحل النزاع، اي اجراء انتخابات متوازنة للبرلمان والرئيس، الا ان الضباط لم يعبروا عن مشاعرهم الشخصية. ولم تلاحظ اية اضطرابات في صفوف القوات المسلحة، فلا في روسيا القيصرية ولا في زمن النظام الشيوعي كان للعسكريين تقاليد بالتدخل في الحياة السياسية. وفي الصراع الاخير بين الرئيس والبرلمان وقفوا على الحياد. ويسود اعتقاد بأن العسكريين كانت لديهم كل الاسباب اللازمة لتأييد البرلمان الذي جُعل خارج القانون لأنهم يعانون بشدة لا تقل عما يعانيه سائر مستخدمي الدولة من آثار اصلاحات السوق في روسيا. فأجورهم لم تلحق منذ زمان بعيد بالاسعار، بل هي لا تدفع منذ شهور، ويضطر الكثيرون منهم الى السكن مع عائلاتهم في غرف حقيرة من دون اي امل بالحصول في المستقبل على مساكن لائقة. زد على ذلك ان الكسندر روتسكوي بطل الحرب الافغانية الذي عينه البرلمان، اثناء "الاحداث الاخيرة" رئيساً جديداً للبلاد كان يتمتع بشعبية معينة في الجيش وكانت تصريحاته بأن روسيا يجب ان تستعيد مكانتها كدولة عظمى واهتمامه بأوضاع الجيش المزرية تلقى صداها في قلوب العسكريين. لكن المعارضين ارتكبوا اخطاء سلبتهم فرصة تأييد الجيش لهم. فالكثيرون من كبار الضباط اعتبروا تعيين البرلمان الجنرال المحافظ آتشالوف وزيراً جديداً للدفاع محاولة لتقسيم الجيش. واثارت دعوات روتسكوي الى العصيان المدني احساساً عند الجنرالات بأنهم، اذا وقفوا الى جانب يلتسن، فسيدافعون بذلك عن الهدوء والنظام. ولولا اعمال العنف التي قامت بها المعارضة لكان من المحتمل ان يبقى الجيش بعيداً عن النزاع السياسي. لكن حتى بعد ان اقدم المعارضون المسلحون على اقتحام مبنى التلفزيون المركزي كان موقف الجيش مبهماً جداً. فوفقاً للتشريعات الروسية لا يمكن استخدام قوات الجيش النظامية الا لرد العدوان الخارجي ولا يمكن استخدامها لاغراض اخرى الا بموافقة البرلمان. ولهذا كان كثيرون من القادة العسكريين غير واثقين بأن لهم الحق في مهاجمة المعارضين القابعين في مبنى البرلمان. ولم يستطع يلتسن اقناع الجيش بمهاجمة مبنى البرلمان الا بعد ساعات عدة من المفاوضات الليلية المتوترة، استيقظ بعدها سكان موسكو على اصوات مدافع الدبابات. التطهير من جهة اخرى كان بين العسكريين من وقف مع ذلك الى جانب البرلمان. ففي ليلة 3 - 4 تشرين الاول اكتوبر استطاع نقيب بحري من قطعات الاسطول الحربي المرابطة على مسافة غير بعيدة من موسكو اقناع 17 بحاراً بالتحرك نحو موسكو لتأييد البرلمان. ولكنهم اوقفوا في الطريق واطلق النقيب البحري النار على نفسه. وحتى في مبنى البرلمان نفسه كان المدافعون من العسكريين قليلين جداً، وعندما وجه الكسندر روتسكوي آخر دعوة الى قيادة سلاح الجو، لكي تتدخل الطائرات لم يرد عليه احد. وهكذا انقذ الجيش يلتسن ونال حصته من الاوسمة والمكافآت. لكن المعلومات التي توافرت ل "الوسط" من مصادر وزارة الدفاع الروسية تقول ان الخوف كبير جداً من اجراء تطهير جذري في قيادة وزارة الدفاع في اقرب وقت. ويفترضون ان التطهير هو بسبب عدم رضا الرئيس وبعض السياسيين النافذين في حاشيته من موقف بعض القادة العسكريين اثناء محاولة الانقلاب. ذلك ان بعض اعضاء القيادة استنكر بشدة تصرفات قطعات الجيش في الهجوم على مبنى البرلمان حيث قالت الاشاعات في موسكو ان عدد الضحايا ناهز 1500 شخص. ويعتبر ضباط كبار ان الجيش أسيىء الى سمعته عن قصد بجره الى حل النزاع بين الرئيس والبرلمان بالقوة. وتدل معطيات حصلت عليها "الوسط"، الى ان بعض نواب وزير الدفاع تخلصوا من ضباط من اقرب المقربين اظهروا في تلك الايام المأسوية شكوكاً وتردداً. وكاد وزير الدفاع بافيل غراتشوف نفسه يقع في مرمى النار، ورأى كثيرون من المعلقين السياسيين ان "ايامه" اصبحت معدودة. وقد يكون سبب انتشار شائعات استقالة غراتشوف المقبلة، ما قاله في احد الاجتماعات الانتخابية للحزب الشعبي الوطني، الذي ينتسب اليه العسكريون ممن شاركوا في الحملة الافغانية، اذ قال انه يؤيد خط هذا الحزب، ناسياً، على ما يبدو، ان هذا الحزب يدعو الى استقالة كل من أوصل روسيا، حسب رأيه، الى حال الازمة. واضطر وزير الدفاع فيما بعد الى تفسير موقفه في هذا الصدد لكبار موظفي ادارة الرئيس. اضافة الى ذلك تشهد العلاقات بين الرئيس ووزارة الدفاع مشكلة اخرى فالعسكريون لا يريدون الاشتراك في اي عمل خارج حدود البلاد، كحماية طرق المواصلات في جورجيا الغربية، مثلاً. ولا يريد الجيش الانجرار الى حرب اهلية غريبة، والنتيجة ان مصالح العسكريين تتناقض تناقضاً شديداً مع مخططات وزارة الخارجية التي تؤثر على يلتسن. ولكن يلتسن كذّب في الفترة الاخيرة بشكل قاطع كل ما يشاع عن احتمال استقالة وزير الدفاع. كما ان غراتشوف نفسه انتقد بشدة ايضاً الصحافيين الذين ينشرون مثل هذه الاخبار. والمعروف ان غراتشوف ليس شعبياً جداً عند العسكريين، فقد عُين وزيراً للدفاع وهو قائد قوات المظلات، وهذا غير كاف في نظر الضباط لتسلم هذا المنصب. واصبح غراتشوف وزيراً بعد ان ايد يلتسن في آب اغسطس 1991، في اثناء محاولة الانقلاب الشيوعية. ويبدو انه بعد ان ايد الرئيس في ازمة اخرى، اصبح اقوى مركزاً وليس عليه ان يخاف على مستقبله. العقيدة العسكرية الجديدة بعد ان نال الرئيس يلتسن تأييد العسكريين في أيام المواجهة مع البرلمان سرّع العمل لاعداد العقيدة العسكرية الجديدة لروسيا. التي كان مجلس الامن اقرها في 2 تشرين الثاني نوفمبر. فحتى الآن لم يكن الخط الاستراتيجي للدولة الروسية في قضايا البناء العسكري مثبتاً في اي صك، وكانت كل القرارات في هذا المجال تستند الى تصريحات شفوية صادرة عن هذا السياسي او ذاك. لكن البحث في هذه الوثيقة اظهر ان العلاقات بين رئيس روسيا وكبار ضباطه لن تكون دائماً صافية. ويتبين من معلومات حصلت عليها "الوسط" من مصادر لا تكشف عادة عن هويتها، ان التناقض الاساسي بين الطرفين اصبح في عدم رغبة العسكريين في استخدامهم لتسوية النزاعات الداخلية بالقوة. كانت المسودة الاولى للعقيدة العسكرية تنص على ان القوات المسلحة لا يمكن استخدامها الا في حال هجوم خارجي على روسيا او اذا اقتضت الضرورة استخدام الحق في الدفاع الجماعي او للاشتراك في الجهود السلمية للامم المتحدة، اذا كان ذلك لا يتناقض مع المصالح الوطنية لروسيا. لكن الرئيس وانصاره اقترحوا تعديلاً سيزيد كثيراً، اذا أقر، من دور الجيش في الحياة السياسية. وتقدم رئيس الوزراء فيكتور تشيرنوميردين، في اجتماع مغلق عقد في وزارة الدفاع، باقتراح يجعل العقيدة العسكرية تتضمن ما يسمى بوظائف الجيش الداخلية، اي البوليسية. وفي رأيه ان القوات المسلحة يمكن استخدامها ايضاً لتعزيز امن الدولة، وعند الاقتضاء لحل النزاعات الداخلية ايضاً. لكن كبار الضباط رفضوا قطعاً الاشتراك، في المستقبل، في احداث كتلك التي جرت في 3 - 4 تشرين الاول اكتوبر في موسكو. مع ذلك انتصر الطرف الرئاسي، والآن يمكن استخدام القوات المسلحة، وفقاً للعقيدة العسكرية الروسية، لحصر نطاق النزاعات المسلحة المحتملة فوراً في داخل الدولة، او لقطع دابر اعمال الشغب الواسعة. لكن ليس واضحاً حتى الآن من الذي سيتخذ القرار باستخدام الجيش لحل الازمات السياسية الداخلية. وقد اعلن غراتشوف انه ليس من بين هؤلاء الاشخاص. وهناك مشكلة اخرى تعقّد العلاقات بين الحكومة والعسكريين، وهي الحماية الاجتماعية لهم. فقد اصر هؤلاء على ادراج بند في نص الوثيقة يتعلق بالضمانات الاجتماعية، ما يعطي وزارة الدفاع مفاتيح اضافية للتأثير على الحكومة التي سيكون عليها ان تهتم اكثر بالقضايا الاجتماعية للجيش. لكن احتمالات الانفاق المالي الضخم على حاجات الجيش لا تفرح اطلاقاً مجلس الوزراء، خصوصاً ان الممسكين بمفاتيح القيادة فيه الآن هم الذين يريدون تخفيض نفقات الدولة. وعلمت "الوسط" قبل ايام من موظف كبير في وزارة الدفاع ان مرسوماً رئاسياً يجري اعداده لوقف مفعول عدد من مواد قانون الحماية الاجتماعية للعسكريين. وينسحب هذا، في ما ينسحب، على دفع تعويضات تعادل اجور 20 شهراً عند الاحالة الى التقاعد واستخدام وسائل النقل الداخلي مجاناً وتسهيلات ايجارات السكن... الخ. ويرى العسكريون ان مضاعفة اجورهم التي تخطط لها الحكومة لا تعوض اطلاقاً فقدان هذه الامتيازات. لقد ادخلت مفاجآت عدة على العقيدة العسكرية التي لا يمكن نشرها في الصحف، ولكن بنودها الرئيسية اذاعها غراتشوف في مؤتمر صحافي في موسكو. وخلافاً للاتحاد السوفياتي السابق الذي تعهد بالا يكون البادئ في استخدام السلاح النووي، لا تأخذ روسيا على نفسها مثل هذا الالتزام، وان كان في العقيدة العسكرية تحفظ بأن روسيا لا تنظر الى اية دولة نظرتها الى عدو ولم تستخدم القوة العسكرية ضد أية دولة الا لاغراض الدفاع الفردي والجماعي، ولن تستخدم، الى ذلك، السلاح النووي ضد البلدان المشاركة في معاهدة حظر انتشاره. ويأتي خطر الحرب النووية في العقيدة في ادنى درجة، اما الخطر الرئيسي فيأتي من النزاعات المحلية الناتجة عن خلافات على الاراضي وتناقضات اقتصادية واثنية ودينية في اراضي الاتحاد السوفياتي السابق. واعتبر المعلقون في موسكو عدم وجود اية اشارات في العقيدة العسكرية الى تعداد القوات المسلحة لروسيا نبأ مثيراً. وكانت الخطط السابقة تهدف الى ايصال عدد العسكريين الى واحد في المئة من عدد السكان. وفضلاً عن هذا ستنال القوات المسلحة الروسية من الآن فصاعداً حقاً قانونياً بالتواجد خارج حدود روسيا اذا ما تطلبت ذلك مصالح روسيا الفيديرالية نفسها او مصالح غيرها من بلدان رابطة الدول المستقلة، وكذلك للاشتراك في عمليات حفظ السلام التي تقوم بها الاممالمتحدة. جنرالات من دون جيش وفي الوقت الذي يستجلي فيه كبار الضباط علاقاتهم بالحكومة، يواجه الجيش اجمالاً مشكلة خطيرة جداً هي ان الراغبين في الالتحاق بصفوفه يتضاءل عددهم باستمرار. وبنتيجة ذلك لم يكتمل الاسطول والجيش الآن بالجنود والعرفاء الا بنسبة 55 في المئة فقط. لقد ولت، منذ زمن بعيد، تلك الايام التي كانت فيها خدمة العلم محاطة بهالة من الرومنطيقية، وعندما كانت الاغاني توضع عن الجيش، وعندما كان الزواج من ضباط اكبر امنية للفتاة الروسية. فاستطلاعات الرأي الاجتماعية التي اجريت بين الشباب، تبين ان اكثر المهن المرغوبة الآن هي مهنة الابتزازي او رجل الاعمال، فيما تضاءل عدد الراغبين في ارتداء البزة العسكرية. ويلجأ الشبان، الذي بلغوا الثامنة عشرة واولئك الذين لم يستطيعوا الالتحاق بجامعة او معهد الى مختلف الوسائل والاساليب للتهرب من الخدمة العسكرية. وحسب الارقام الرسمية تهرّب في الربيع الماضي من موسكو 1847 شاباً. وحسب تقديرات العسكريين سيتضاعف هذا العدد في الخريف الحالي. ومنهم من يشتري تقارير طبية مزورة. فالحصول على شهادة بأن عندك قرحة في المعدة يكلفك مثلاً بين 60 و100 الف روبل اي بين 60 و100 دولار. والاقل انتشاراً عند المتمارضين ارتفاع الضغط والاختلال العقلي لأن اللجان الطبية العسكرية تكتشف بسهولة صحة او عدم صحة هذا التشخيص. وهناك طريقة اخرى منتشرة هي عدم الرد على رسالة شعبة التجنيد. وعندما تأتي الشرطة الى المتهرب يرد الوالدان بأن ابنهما سافر من اجل "الارتزاق" الى سيبيريا، مثلاً، لكن ثلاثة ضباط تتبعوا هارباً من هذا النوع اياماً عدة وامسكوا به عندما جاء ليزور والديه. لكن يحدث ان تكون الامراض التي يعاني منها المطلوبون للخدمة حقيقية. ويبين الاحصاء ان موسكو تسبق سائر المدن الاخرى في هذا المؤشر. فهناك فقط بين 10 و30 في المئة ممن هم في الثامنة والعشرين لا يعانون من أي مرض، ولكن عدد الاصحاء تماماً يقل من سنة الى اخرى. واكثر الامراض انتشاراً بين الشبان امراض المعدة والامعاء والعمود الفقري والاوعية الدموية والقلب. ويشكل الاختلال العقلي 20 في المئة من الحالات المرضية. وبنتيجة ذلك بدأ الجيش يعاني من نقص حاد في الكادرات. وفي رأي العسكريين انفسهم ان من اسباب هذه الحال ان قانون خدمة العلم لا يطبق عملياً في ظروف الفوضى الضاربة اطنابها الآن. ونادراً ما يعاقب المتهربون منها، وهناك الى ذلك مجموعة واسعة من مختلف دواعي التأجيل. وثمة صعوبات غير قليلة في التجنيد التعاقدي. والسبب الرئيسي لذلك عدم توافر المال اللازم. فالمجند بالعقد يتقاضى اجراً قليلاً نسبياً وطعاماً مجانياً وملابس عسكرية. ولكن هذه الشروط لا تستهوي الشبان، خصوصاً ان الجيش يعاني من نقص حاد جداً في المساكن ورياض الاطفال والمدارس. كان السوفيات ينشدون باعتزاز "الجيش الاحمر اقوى جيش" في الثلاثينات. ولكن الازمان تغيرت، ومن المستبعد ان يخطر ببال احد ان يصف الجيش الروسي الآن بأنه اقوى جيش في العالم. فهو الآن اسير اكثر المشاكل الاجتماعية حدة، ناهيك عن الرشوة التي لا سابق لها في الاوساط القيادية العليا. ومن المستبعد ان يتغير هذا الوضع نحو الاحسن في وقت قريب، فالاقتصاد الروسي في ازمة شديدة، وليس في خزينة الدولة مال لانهاض احد اكثر جيوش العالم مهابة. أفلن يحدث، اذا واجه يلتسن مقاومة جديدة من المعارضة السياسية، ان يقف العسكريون في الجانب الآخر من المتاريس؟