العقيدة العسكرية الروسية التي اقرت أخيراً هي الثالثة من نوعها منذ انهيار الاتحاد السوفياتي الذي كان اعتمد نظرية التوازن الاستراتيجي بين حلف وارسو من جهة والحلف الاطلسي والولايات المتحدة من جهة اخرى، مع الحفاظ على تفوق الشرق على الغرب في مجال الأسلحة التقليدية على المحاور الأوروبية. وبعد انهيار الدولة الموحدة جرى صراع خفي بين بوريس يلتسن الخائف من "انقلاب الجنرالات"، المرتاب في المؤسسة العسكرية وقادة الجيش المتحالفين مع مدراء المصانع وقادة الجيش المتحالفين مع مدراء المصانع الحربية. وسعى هذا التحالف الى الحيلولة دون اجراء خفض كبير في تعداد القوات المسلحة التابعة لوزارة الدفاع او تعطيل مصانع الانتاج الحربي. ومن الناحية الشكلية بنى يلتسن سياسته على أساس ان روسيا "لا أعداء لها" في حين انه كان في الواقع منشغلاً في تعزيز الأمن الداخلي وزيادة عديد قوات وزارة الداخلية على حساب تقليص حاد في وزارة الدفاع. وفي ضوء ذلك صيغت العتيدة العسكرية لعام 1993 استناداً الى مبدأ "اصلاح" القوات المسلحة الذي عنى في واقع الحال تقليصها. وكانت هذه السياسة سبباً لصراعات أدت الى اقالة اثنين من وزراء الدفاع وعدد من كبار قادة القوات المسلحة وأحدث ذلك فوضى ادارية في المؤسسة العسكرية. وبسبب مشاكله الصحية وبعض العوامل الأخرى تراجع اهتمام يلتسن بأوضاع القوات المسلحة بعد اعادة انتخابه عام 1997 على رغم تبلور أفكار داخلية وخارجية جديدة على بلاده. ونظراً الى تعثر مشاريع الاصلاح العسكري المعلن في عقيدة عام 1993 اقر الكرملين "الاتجاهات الاساسية للتنمية العسكرية" في مطلع عام 1998 ولكنها لم تكن تقدر الاخطار الجديدة حق تقدير. هذا وخابت تدريجاً في أواخر التسعينات آمال موسكو في "الشراكة الاستراتيجية" مع الغرب لعوامل عدة منها انضمام دول وسط أوروبا الى الحلف الاطلسي رغم اعتراض روسيا، وسعي الحلف الى ضم الجمهوريات السوفياتية السابقة، وعملية "ثعلب الصحراء"، خصوصاً بعد الهجوم على يوغوسلافيا. أدى ذلك الى انعطاف واسع في الاستراتيجية الروسية تزامن مع تعيين فلاديمير بوتين سكرتيراً لمجلس الأمن القومي ثم رئيساً للحكومة، وعجل بوتين عملية صوغ المنطلقات الأمنية والدفاعية الجديدة وأقر بعد عشرة أيام فقط من تكليفه مهام الرئاسة صياغة معدلة لنظرية الأمن القومي الروسي جاءت، بشكل مبطن، مناهضة للتوسع الاميركي والاطلسي واتجاهها نحو حل المشاكل الدولية بوسائل عسكرية وتهميش دور الاممالمتحدة. واكدت "نظرية بوتين" الأمنية "عزم موسكو على الدفاع عن مكانتها الدولية، ومقاومة مشاريع تهدف الى مزيد من اضعافها وعزلها". وتقدم العقيدة العسكرية الجديدة رداً شاملاً على المخاطر التي تهدد روسيا، وفيها قائمة تقع في 12 بنداً خصصت للاخطار الخارجية تبدأ من التطاول على أراضي روسية وتجاهل مصالح موسكو الأمنية في العالم مروراً ب"خلق بؤر النزاعات المسلحة على مقربة من حدود روسيا وحلفائها" وتوسيع احلاف عسكرية بطريقة تمس أمنها وصولاً الى "حملات اعلامية معادية والاخلال بحقوق رعاياها في الخارج". وفي تطور جديد للفكر الاستراتيجي الروسي اشارت العقيدة العسكرية الى ستة من الأخطار الداخلية التي قد تتطلب زج القوات المسلحة لدرئها، ومنها محاولات قلب النظام الدستوري بالقوة والنزعات الانفصالية و"النشاط غير الشرعي للحركات القومية والدينية المتطرفة" والمتاجرة بالسلاح ومكافحة الإجرام المنظم. واللافت ان هناك تشابهاً بين هذه البنود وما طرحه آل غور نائب الرئيس الاميركي في برنامجه الأخير: "التعامل الاستباقي". وباختصار إن العقيدة الجديدة تجيز استخدام القوات المسلحة على اختلاف أنواعها ليس لمواجهة عدوان خارجي فحسب بل لايقاف "أعمال مناهضة للدستور" ما يعني ان الجيش الروسي بات يضطلع من الآن بمهمات بوليسية وأمنية وذلك في اقرار متأخر لما تمارسه القوات المسلحة في شمال القوقاز منذ اشهر. كيف سترد روسيا على العدوان أو الخطر الخارجي الذي يهددها؟ العقيدة العسكرية تضمنت "مفهوماً موسعاً" لوظيفة السلاح النووي أذنعت على ان "روسيا ترى ان من حقها استخدام السلاح النووي في حال تعرضها هي و/أو أي من حلفائها لهجوم بأسلحة الإبادة الشاملة، وكذلك رداً لعدوان بأسلحة تقليدية في حال وقوع روسيا في وضع حرج لأمنها القومي". معنى هذا ان موسكو تعتبر رؤوسها النووية "سيفاً" وليس "درعاً فحسب كما كان يفعل الاتحاد السوفياتي. وكانت الصيغة التي عرضتها سابقاً وزارة الدفاع على مجلس الأمن القومي الروسي تشمل عبارات اخطر تشير صراحة الى حق روسيا في ان تكون بادئة في استخدام السلاح النووي". الا ان ايغور ايفانوف وزير الخارجية واندريه نيكولايف رئيس لجنة الدفاع في مجلس الدوما النواب نجحا في "تليين النص". وتحمل بعض صيغ العقيدة آثار النقاشات التي جرت في مجلس الأمن القومي بين "صقور" في هيئة الأركان العامة من جهة و"حمائم" من الديبلوماسيين وبعض المسؤولين الأمنيين والفعاليات البرلمانية. وقال اندريه نيكولايف ل"الحياة" ان نصوص العقيدة العسكرية ما زالت في حاجة الى تعديل ومنها ما يتعلق بالسلاح النووي الذي يجب، على حد قوله، ان يكون "وسيلة لمنع وقوع الحرب وليس وسيلة لخوضها". واضاف ان تكليف العسكريين وليس السياسيين اعداد مشاريع نصوص العقيدة كان "خطأ". ومن تناقضات العقيدة ورود عبارات تهاجم "توسع الغرب" ومؤسساته العسكرية الى جانب صيغ تصف الحلف الاطلسي ب"شريكاً محتملاً".