كان العراق يضم أكبر تجمع لليهود في المشرق العربي، إذ كان عددهم حوالي 150 ألف نسمة في العشرينات. ويعتبرهم المؤرخون من أقدم الطوائف اليهودية في العالم، فقد "جاء بهم نبوخذ نصر الى العراق في العام 586 ق.م. وأسكنهم في جوار المدن بعدما دمر مملكتهم في القدس". واختلفت أوضاع اليهود العراقيين باختلاف الأنظمة السياسية ومدى انخراطها في النزاع مع اسرائيل. ففي العام 1935 كانوا ممثلين في مجلس النواب بأربعة نواب من أصل 88 نائباً وارتفع عددهم الى ستة نواب في العام 1946. وشغل أحد أعيانهم، ساسون حسقيل، منصب أول وزير للمال في العراق واحتلوا مواقع اقتصادية مهمة، إذ ضمت غرفة تجارة بغداد 10 أعضاء يهود من أصل 19 عضواً في الفترة بين 1936 و1947. ولم يقتصر وجودهم على الانخراط في السلطة، فقد أحصي في الأربعينات 250 عضواً في الحزب الشيوعي العراقي، بينهم ساسون شلومو دلال سكرتير الحزب 1949. وكان المؤتمر الأول للحزب عقد في منزل يهودا افرايم صديق في العام 1945. وعلى أثر انهيار ثورة رشيد عالي الكيلاني في العام 1941 تعرضوا كغيرهم لهجمات وردود فعل أدت الى مقتل وجرح عدد منهم، فتدخلت المنظمات الصهيونية لدى السلطات البريطانية وطالبت بتهجيرهم. لكن الهجرة الجدية لم تبدأ الا مع عملية "علي بابا" التي نظمتها اسرائيل في مطلع الخمسينات بعد انتشار موجة انفجارات استهدفت اليهود ونسبها العراقيون الى "عملاء صهاينة".. ولم يبق منهم في العراق أكثر من 12 - 15 ألف نسمة وفق المصادر البريطانية في حينه. ويفيد تقرير أميركي وُضع في العام 1959 وكُشف مع وثائق وزارة الخارجية البريطانية أن ثورة تموز يوليو 1958 وانتشار المد القومي العربي واشتداد الصراع مع اسرائيل قلصت أفراد هذه الجالية الى 3 - 4 آلاف نسمة، بمن في ذلك الأطفال والنساء. واتخذت الثورة العراقية اجراءات احتياطية بعد اكتشاف مؤيدين للدولة العبرية في صفوفهم، فطردت الموظفين من الدولة واحالتهم على التقاعد وهم كانوا ممنوعين من الانخراط في الجيش والشرطة قبل العام 1958. وعلى رغم الرقابة الشديدة التي فُرضت على من تبقى منهم فإن سيطرة حزب البعث على السلطة لاحقاً أدت الى المزيد من التشدد حيالهم، خصوصاً انهم تعرضوا لاتهامات مختلفة خلال حرب حزيران يونيو 1967. ومرة أخرى كشفت السلطات العراقية شبكة تجسس يهودية، ما أدى الى قيام ردود فعل جديدة طالت من تبقى منهم، فراح عددهم ينحسر بشكل كبير حتى وصل الى أقل من 500 نسمة خلال حرب الخليج. وتقول المصادر العراقية انهم يرفضون الهجرة الى اسرائيل في حين تؤكد المصادر الاسرائيلية والغربية أن السلطات العراقية تحتجزهم وتمنعهم من السفر. مصر: صهاينة وتقدميون لا يعرف أحد بالدقة كم عدد اليهود في مصر حالياً، لكنهم لا يقلون عن 100 ولا يتجاوزون 300، بعد أن هاجر قسم كبير منهم الى اسرائيل وهُجّر قسم آخر فيما القسم الثالث اندفع الى الخارج لأسباب متنوعة. وحسب احصاء ذكره كاتب يهودي في فرنسا فإن يهود مصر كانوا في العام 1946 حوالي 90 ألف نسمة. وهم عاشوا في القاهرة أساساً ثم الاسكندرية وطنطا والمنصورة، وتوزع أفراد في مناطق أخرى. ويعتبر يهود القاهرة أن طائفتهم عريقة أكثر من غيرها من الطوائف الأخرى اليهودية في مصر التي جاءت الى البلاد في تواريخ حديثة نسبياً. وقبل أن يهاجروا الى اسرائيل وأوروبا وأميركا وكندا واستراليا كان يهود مصر يديرون شؤونهم بأنفسهم من دون تدخل السلطات الرسمية، ويمارسون شعائرهم الدينية، خصوصاً يهود القاهرة، باللغة العربية، وترجموا كتبهم المقدسة الى العربية في وقت مبكر، وكانوا يكتبون نصوصهم أيضاً بالعربية ما يدل الى اندماجهم الى حد كبير في المجتمع المصري العربي. واللغة العربية ليست الدليل الوحيد على اندماجهم، فقد ناضل قسم منهم الى جانب مواطنيهم المصريين للحصول على الاستقلال وطرد الاحتلال البريطاني، وهذه حالة نادرة بالنسبة الى اليهود في العالم العربي. ويذهب البعض الى أكثر من ذلك، إذ يؤكد ان عدداً من يهود القاهرة كان يرفض الحركة الصهيونية وأن تضامنهم مع مواطنيهم قبل انشاء دولة اسرائيل وربما بعده بقليل، كان أمراً ثابتاً. في المقابل كانت بعض الفئات اليهودية المصرية، خصوصاً التي استقرت حديثاً في البلاد، تعبّر عن تأييدها الصريح للصهيونية وانشاء دولة اسرائيل، وتتظاهر علناً في الاسكندرية وتقوم بنشاطات لدعم هذا المشروع، الى درجة القيام بأعمال ارهابية والتنسيق مع المنظمات الارهابية الصهيونية المعروفة. كانت هزيمة حزيران يونيو 1967، هزيمة مصرية بالدرجة الأولى ترتبت عليها ردود فعل. وتذرعت المخابرات المصرية في حينه ببعض حالات التعامل بين اليهود المصريين ومنظمات اسرائيلية، وأجبرت حتى اولئك الذين لا يرغبون في الهجرة على مغادرة البلاد. وإذا أضيفت التطورات اللاحقة التي تميزت بحروب ونزاعات مصرية - اسرائيلية يمكن فهم سبب انخفاض عدد اليهود في مصر الى 300 نسمة أو أقل من ذلك بقليل. ولم يدفع السلام المصري - الاسرائيلي اليهود المصريين الى العودة الى بلادهم الأصلية. البعض صار بوسعه زيارتها بسهولة، لكن "يهود النيل" عموماً هاجروا الى الأبد، بعد قرون من استيطان أرض الكنانة، على حد تعبير الكاتب اليهودي من أصل مصري جاك حسون. دمشق: "الطريق الى جنة عدن" كانت سورية تحتل موقعاً مركزياً في ذاكرة اليهود الشرقيين الذين يعتبرون دمشق المدخل الطبيعي الى "جنات عدن". وليست الصدفة وحدها هي التي استدعت استيطان اليهود هذا البلد. كان عدد اليهود السوريين في مطلع هذا القرن يصل، حسب بعض المصادر، الى 50 ألف نسمة في حين تؤكد مصادر أخرى أن عددهم لم يكن يتجاوز 30 ألفاً عشية تأسيس الدولة العبرية. وألقى حدثان بظلهما الثقيل على الطائفة اليهودية السورية. الأول قضية الجاسوس الاسرائيلي إيلي كوهين، والثاني حرب حزيران 1967. أما قضية كوهين فاختصارها ان السلطات السورية اكتشفت أمر هذا العميل الاسرائيلي الذي عاش في دمشق واتصل بالقيادات العليا في السلطة وحصل على معلومات وخرائط عسكرية وزود بها المخابرات الاسرائيلية، وقد استخدم بعض هذه الخرائط في احتلال الجولان فيما بعد. واعتقل كوهين واعدم في العام 1965، بعدما أدلى باعترافات صريحة وعلنية كان لها أثر كبير في نشوء ردود فعل سلبية ضد اليهود السوريين وربما اليهود العرب عموماً، وكان لا بد لردود الفعل هذه من أن تتعاظم بعد حرب حزيران وانهيار الدفاعات السورية في الجولان... الخ. بعد ذلك خضعت الطائفة اليهودية في سورية الى سلسلة من الاجراءات المتشددة، من بينها عدم السماح بالسفر وعدم جواز حصول اليهودي على رخصة قيادة سيارة، وبطبيعة الحال عدم جواز دخوله الجيش وادارات الدولة، وعدم السماح لليهود بالذهاب الى أبعد من مسافة خمسة كيلومترات عن دمشق والمدن الأخرى التي يسكنون فيها كحلب والقامشلي وغيرها، ما أدى الى انخفاض عدد اليهود الذين يقدرون اليوم بحوالي 3000 نسمة أو أقل من ذلك بقليل. ومن الطبيعي والحالة هذه أن لا تعود دمشق مدخلاً الى "جنة عدن"، وأن يصبح الطريق الى الجنة في مكان آخر ربما في بروكلين في الولاياتالمتحدة حيث أكثر من 30 ألف يهودي من أصل سوري. التبدل الأساسي في وضع اليهود السوريين بدأ قبل سنوات قليلة. واعتباراً من العام 1992 أصبح بوسعهم السفر الى الخارج، وقد دُهش كثيرون عندما سارت في شوارع دمشق تظاهرة يتصدرها حاخام الطائفة ابراهيم حمرا الذي كان يهتف بحياة "الرئيس القائد حافظ الأسد" ويدلي بتصريحات مؤيدة للحكومة السورية شبيهة بتلك التي يطلقها بعض أعضاء حزب البعث. وكان من الطبيعي ان يلتقي حمرا الرئيس السوري ويكرر له شكره للسماح لأفراد الطائفة اليهودية السورية بالسفر الى الخارج بحرية. وباستثناء الاجراءات المتشددة التي اتخذتها السلطات السورية لأسباب وقائية، على حد تعبير المسؤولين، فإن شيئاً لم يتغير في النشاط العادي ليهود سورية، فعدد منهم من كبار الأغنياء، وما زال مالكو الأراضي والصاغة وأصحاب المتاجر الضخمة على حالهم، ولعل هؤلاء لم يتأثروا أساساً بالاجراءات الوقائية. ويعيش أكثر من نصف اليهود السوريين في دمشق ويتوزع النصف الآخر على حلب والقامشلي. ويمارس اليهود الدمشقيون وغيرهم طقوسهم الدينية في 25 كنيساً موزعة على احياء العاصمة. وتتلقى المدارس اليهودية الخاصة مساعدات من الدولة. وعلى رغم الانفراج الكبير الذي شهدته أوضاع الطائفة اليهودية في سورية فإن الحاخام ابراهيم حمرا ظل يعتقد بأن على اليهود السوريين أن يستفيدوا من فرص السفر التي أتيحت لهم إذ "لا أحد يدري ما الذي يمكن أن يحصل فيما بعد". وتقول مصادرهم في دمشق ان حوالي 2450 يهودياً هاجروا الى الولاياتالمتحدة منذ نيسان ابريل 1992، وان 160 عادوا ليصبح عددهم حالياً 1600 شخص. لبنان: هجرة عكسية على خلاف غيرهم من الطوائف اليهودية العربية، ازداد عدد اليهود اللبنانيين بعد تأسيس اسرائيل في العام 1948، لأسباب كثيرة، منها اعتراف الدستور اللبناني بالطائفة اليهودية باعتبارها إحدى الطوائف ال 18 المعترف بها رسمياً. ولم يتعرض اليهود في لبنان الى أي شكل من أشكال التمييز، ولم يتم استثناؤهم من الوظائف العامة والادارية، وإن كان من الصعب التأكد من انتساب أفراد منهم الى السلك العسكري. وهكذا ارتفع عدد اليهود اللبنانيين من حوالي 6 آلاف نسمة، وفقاً لاحصاء فرنسي في العام 1944، الى أكثر من عشرة آلاف نسمة بعد تأسيس الدولة العبرية، إذ هاجر الى لبنان أفراد من طوائف يهودية عربية، لا سيما من حلب في سورية. وعلى رغم تمركزهم في قلب العاصمة اللبنانية، في وادي أبو جميل أساساً، فإن قسماً مهماً منهم سكن في صيدا حيث من الصعب تمييز عائلات يهودية من آل بوليتي وزيتوني وياهو والتغري وديوان وجاموس عن غيرهم من السكان. أما مركز العبادة الرئيسي لهم في وادي أبو جميل فهو حديث العهد اذ انشأه في العام 1926 موسى ابراهام ساسون. بعد العام 1967 هاجر قسم من يهود لبنان الى اسرائيل وغيرها. ومع تمركز المنظمات الفلسطينية في بيروت تزايدت الهجرة بوتيرة قوية. وإذا كان أفراد من الشبان اليهود التحقوا بالمقاومة الفلسطينية والأحزاب اليسارية اللبنانية فلم تسجل أية حالات معروفة عن التحاق شبان يهود بالميليشيات اليمينية. وكان من الصعب على يهود لبنان البقاء في بيروت خلال الحرب، فهاجروا الى الخارج، بما في ذلك اسرائيل، لكن السبب الأبرز لهجرتهم هو الخطف الذي تعرض له عدد منهم، وأبرزهم سليم جاموس سكرتير المجلس الأعلى للطائفة في بيروت في العام 1984 وبعده كثيرون. وفي العام 1986 لم يعد في لبنان أكثر من 50 يهودي يقيمون في الشطر الشرقي من العاصمة، أو في مدينة جزين الحدودية، أما وضع الطائفة اليهودية اللبنانية فما زال على حاله من الناحية الدستورية، لكن من الصعب القول أن يهود لبنان سيعودون الى البلاد من جديد لاستئناف دورهم كطائفة لبنانية على حدة. اليمن: بساط الريح ينحصر وجود اليهود في شبه الجزيرة العربية في اليمن وحدها وفي الشطر الشمالي من البلاد. وفيما تقول مصادر يمنية رسمية ان عددهم بين 300 و400 شخص، تؤكد مصادر مستقلة ان عددهم حوالي 2000 نسمة، ربما سيتناقص بفعل تسهيلات السفر التي تمنحها الحكومة اليمنية لمواطنيها من كل الطوائف، ومن بينهم اليهود. وتعود جذور يهود اليمن الى ما قبل الاسلام بقرون، وتشير الأرقام التقديرية حولهم الى أن عددهم في أوائل القرن الحالي وصل الى حوالي 100 ألف نسمة. ويؤكد الرحالة اللبناني أمين الريحاني الذي زار اليمن في العشرينات ان عدد اليهود يصل الى أكثر من 70 ألف نسمة. وكان يهود اليمن يتوزعون قبل رحيلهم على المحافظات الشمالية في مناطق صعده وريدة وعمران، وفي المحافظات الجنوبية كانوا يتواجدون في حضرموت والعوالق وغيرها. لكن نقاط تمركزهم الأساسية كانت في صنعاء حيث أقاموا في حي يعرف ب "قاع اليهود" الذي أصبح اليوم "قاع العلفي". أما في عدن فتمركزوا في قلب العاصمة في حي كريتر والشيخ عثمان وكانوا يملكون فنادق شهيرة في العاصمة، شأن فندق فيكتوريا. ولم يبق من يهود المحافظات الجنوبيةوعدن أي فرد بعد زوال الاستعمار البريطاني. ويجزم قادة الحركة الوطنية اليمنية أن اليهود اليمنيين لعبوا الورقة البريطانية وان من تبقى منهم رحل مع الجنود البريطانيين. ويرى هؤلاء أن بريطانيا لعبت هي أيضاً الورقة اليهودية اليمنية وانها سهلت هجرة القسم الأكبر من اليهود في عملية "بساط الريح" المعروفة في العام 1949 وفي عمليات أخرى مشابهة. وأدى التداخل بين محاربة الاستعمار البريطاني ونشوء دولة اسرائيل الى الحاق أضرار كبيرة بالطائفة اليهودية اليمنية، ومما زاد في هذه الاضرار دخول الحركة الصهيونية على الخط وتمركزها في عدن إبان الاحتلال البريطاني وانشاء خط تجاري بين اسرائيل وعدن، حسب ما يؤكد المؤرخون اليمنيون، ما حدا السكان الى التعبير عن غضبهم مراراً وبالتالي تحطيم محلات اليهود والقاء المتفجرات على أحيائهم. ويؤكد الباحث جوزف شلحد المتخصص في الشؤون اليمنية أن اليهود لم يتعرضوا للاضطهاد في العصور السالفة في هذا البلد، وأن كثيرين منهم تولوا مناصب رفيعة في بلاط الائمة اليمنيين، وان أحد أعيانهم ويدعى شالوم عراقي شغل منصب المفتش الأول للجمارك والأبنية والبساتين لمدة 28 سنة في القرن الثامن عشر. أما اليوم فإن اليهود اليمنيين يعيشون مع السكان المسلمين في مناطق واحدة ويمارسون طقوسهم الدينية على يد حاخام محلي يدعى يعيش ابراهيم وهو يتولى عمليات الزواج وتمليك الأفراد وحل الخلافات. وتتولى مخافر للدولة ردع التعديات التي قد يتعرضون لها كما يهتم شيوخ القبائل التي يعيش اليهود في كنفها بالدفاع عنهم. مع يهود اليمن نصل الى حصيلة مفادها أن يهود المشرق العربي باتوا أقلية ضئيلة إذ لا يتجاوز عددهم 6 آلاف نسمة بعدما كان حوالي نصف مليون قبل تأسيس دولة اسرائيل. وهنا تجدر الاشارة الى أن دولاً عربية مشرقية كثيرة لم تتكون فيها طوائف يهودية شأن السودان أو دول الخليج العربي أو الأردن. وبالنظر الى قلة عددهم يصعب أن يشكل يهود المشرق قضية مؤثرة في مفاوضات السلام بين العرب واسرائيل، كما يصعب على الدولة العبرية ان تراهن عليهم في المستقبل خصوصاً ان من تبقى منهم راهن على الدول التي يقيم فيها أكثر من رهانه على اسرائيل. ليبيا والجزائر: الرحيل الكلي على عكس يهود المشرق الذين يتجهون نحو الانقراض، ما زال لليهود في شمال افريقيا العربية جاليات مهمة، لا سيما في المغرب وتونس. وإذا كانت دول مغاربية، مثل موريتانيا، لم تشهد حضور أكثر من أفراد قلائل من اليهود الذين جاؤوا برفقة الاستعمار الفرنسي وذهبوا معه، فإن ليبيا كانت تضم حوالي 38 ألف يهودي، حسب تصريحات أدلى بها رئيس الطائفة اليهودية الليبية في العالم رافاييلو فلاح في شهر حزيران يونيو الماضي، وأن ثلاثة فقط من اليهود ما زالوا يقيمون حتى الآن في طرابلس الغرب. وهاجر معظم يهود ليبيا الى اسرائيل، ويقدر عددهم هناك بحوالي 100 ألف نسمة. وقال فلاح إن "مجلس قيادة الثورة" الليبي اتخذ قراراً في 21 تموز يوليو 1970 بمصادرة أملاك اليهود الليبيين، وهي عبارة عن أبنية ومساكن وأراض وأموال وأماكن عبادة وغيرها. واتبعت السلطات الليبية في عهد العقيد معمر القذافي سياسة مناهضة لليهود. فبعد اشتداد الصراع العربي - الاسرائيلي، ولأسباب أخرى، تم التخلص ممن تبقى من الجالية اليهودية الليبية، وانشأت القيادة الليبية اذاعة خاصة على مقربة من الحدود التونسية في العام 1985 سميت "صوت الثأر المقدس" كانت تدعو التونسيين الى التخلص من "العملاء الصهاينة" المقيمين بينهم، والى التخلص من "حكومة بورقيبة" التي تحميهم. تبقى حالة اليهود الجزائريين الذين كانوا يقدرون بعشرات الآلاف، وهم استوطنوا الجزائر وانخرطوا في سياق السياسة الاستعمارية الفرنسية ما أدى الى ترحيلهم عندما نالت الجزائر استقلالها في العام 1962، ويقيم القسم الأكبر منهم حالياً في فرنسا، ويعرفون مع فرنسيي الجزائر باسم "الاقدام السوداء". تونس: من البايات إلى بن علي في رواية تونسية شهيرة يقال ان الباي التونسي سيدي محرز فتح أبواب عاصمته لليهود الهاربين من اسبانيا في القرن الخامس عشر واعطاهم حياً في تونس يدعى الحارة. وكانت علاقاتهم جيدة باستمرار مع حكام تونس من البايات الذين عينوا من بينهم وزراء وموظفين رفيعي المستوى. وأعاد الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة العمل بهذه القاعدة فعين وزراء من الطائفة اليهودية في حكوماته الاستقلالية الأولى، ما يدل على حسن علاقاتهم بالدولة والمجتمع التونسي وعلى عراقة وجودهم في هذا البلد. وكان عددهم في العام 1948، تاريخ انشاء اسرائيل، حوالي 150 ألفاً من أصل حوالي 3.5 مليون تونسي، ومع اعلان الاستقلال في العام 1956 انخفض عددهم الى 120 ألفاً. وأدت أسباب كثيرة الى هجرة اليهود التوانسة على مراحل مختلفة، من بينها انشاء الدولة العبرية وحرب الجزائر ومعركة بنزرت 1961 وحرب حزيران 1967 واكتوبر 1973 واجتياح لبنان في العام 1982 والغارة الاسرائيلية على حمام الشط في العام 1985، اضافة الى تمركز منظمة التحرير الفلسطينية في تونس. وكانت آخر موجة هجرة لهم خلال حرب الخليج الأخيرة لينخفض عدد يهود تونس الى 2000 نسمة، يقيمون أساساً في العاصمة حيث يوجد 7 معابد من أصل 30 كنيساً في مختلف أنحاء البلاد ويقيم قسم منهم في جزيرة جربة حيث يوجد 14 كنيساً أحدها يدعى "غريبة" وله شهرة كبيرة تتعدى تونس ويقصده مصلون يهود من مختلف انحاء العالم. وتضم مدن صفاقس وسوسة ونابل أفراداً من اليهود المتقاعدين أو العاملين في التجارة. ويواظب عدد من يهود تونس الذين هاجروا على العودة سنوياً لقضاء اجازاتهم الصيفية في البلاد ويتجمعون في أحياء في العاصمة سبق لهم أن هاجروا منها في ظروف صعبة، فضلاً عن أن بعض العائدين احتفظ بجنسيته التونسية. وتحاول السلطات التونسية استمالة الجالية اليهودية التونسية في فرنسا واقامة صلات اقتصادية متواصلة معها والافادة من نفوذها في فرنسا وأوروبا، وهو نفوذ لا يستهان به. أما اتفاق المصالحة الفلسطيني - الاسرائيلي فينظر اليه في تونس بتفاؤل كبير إذ يعتقد رينيه شيش رئيس الطائفة اليهودية في تونس أن الاتفاق "سيؤثر إيجاباً علينا نحن الذين اخترنا البقاء في الأرض العربية حيث جذورنا". المغرب: علاقات تاريخية مستمرة وإذا كانت الجالية اليهودية في تونس تراهن على المصالحة العربية - الاسرائيلية في نظرتها الى مستقبلها في هذا البلد، فإن الجالية اليهودية في المغرب، وهي أكبر جالية ما زالت مقيمة في بلد عربي، انخرطت في وقت مبكر في اقامة اتصالات سرية والمساهمة في اقامة علاقات سياسية مباشرة بين مسؤولين عرب واسرائيليين. ولهذه الجالية قصة جديرة بأن تروى بالتفصيل نظراً الى حجمها وأهميتها والأدوار المستقبلية التي يمكن أن تضطلع بها. ويشير احصاء عن اليهود المغاربة الى أن عددهم كان في العام 1947 226 ألف نسمة، انخفض في العام 1951 الى حوالي 207 آلاف، وفي احصاء 1960 بلغ عددهم حوالي 160 ألفاً، أما الآن فانهم لا يتجاوزون 10 آلاف نسمة. وهناك مئات الآلاف من اليهود من أصل مغربي يعيشون في فرنسا واسبانيا وبلجيكا وانكلترا وكندا والولاياتالمتحدة وأميركا اللاتينية، ويقدر عددهم في اسرائيل بين 500 و600 ألف نسمة. والاسلوب الذي تمت فيه عملية تهجير اليهود المغاربة لم يخل من التضليل، اذ استخدمت المنظمات اليهودية - الاميركية واسرائيل وسائل مختلفة، من التهديدات والوعود والاغراءات ونشر اشاعات كاذبة عن اضطهاد اليهود المغاربة لدفعهم الى الرحيل الى اسرائيل. ويقول باحث يهودي: "قبل رحيل اليهود المغاربة كاد ان يقع صدام بينهم وبين المسلمين، خصوصاً اهل فاس الذين - كما يزعم - استفزوا اليهود". وتتناقض هذه الرواية مع واقع المجتمع المغربي الذي لم يعرف مجتمع آخر ما عرفه من حالة انسجام نادرة بين المسلمين واليهود، بل ان المغرب يعتز بتراث عريق معروف بأنه كان ملجأ آمناً لليهود الفارين من الاضطهاد في أماكن أخرى، ففتح أبوابه لهم أيام محاكم التفتيش الاسبانية. وخلال الاضطهاد النازي لليهود في الحرب العالمية الثانية، رد الملك الراحل محمد الخامس على مطالب حكومة فيشي الفرنسية بخصوص تطبيق قوانين مناهضة لليهود بالقول: "انهم ابناؤنا ايضاً". وحدثت اكبر موجات الهجرة اثر اندلاع الحروب العربية - الاسرائيلية 1948، 1956، 1967، 1973 غير ان الهجرات الأولى بدأت مع ظهور مجموعات صهيونية في المغرب، قبل الاحتلال الفرنسي بذلت جهوداً كبيرة لتهجير حوالي مئة عائلة من فاس وصفرو في العام 1921. الا ان غالبية هذه العائلات عادت بعدما خاب املها. والواقع ان الحركة الصهيونية العالمية التي يحتكرها اليهود الغربيون الاشكيناز ركزت في البداية على هجرة يهود اوروبا الشرقية المهددين بتصاعد الحملة النازية، وفي اواخر الاربعينات عادت الحركة الصهيونية لتهتم بيهود الدول العربية، فأرسلت كوادر مدربة للعمل على تهجير اليهود العرب، ومن ضمنهم اليهود المغاربة، لتضمن اسرائيل من خلالهم الجنود واليد العاملة الرخيصة. وكان في المغرب آنذاك، اكبر احتياط من اليهود، كما كانت فرنسا التي تحتل المغرب مؤيدة لاسرائيل، ما ساعد على انجاز مهمة "فريق التهجير". على رغم الحقوق المدنية الكاملة التي حصل عليها اليهود بعد استقلال المغرب في العام 1956 ومساواتهم امام القانون، تزايدت اعداد المهاجرين منهم، اذ كانت الدعاية الصهيونية تركز على "المخاطر" التي تهدد اليهود بعد رحيل الفرنسيين، فقررت السلطات المغربية حل منظمة "كاديمحاح" المكلفة ترحيل المهاجرين وطرد عشرين من المبعوثين اليهود، وهكذا اصبحت الهجرة صعبة، ابتداء من ذلك العام الى 1961، حيث اوقفت الشرطة المغربية مرات عدة مجموعات كانت تتجه نحو طنجة وسبتة ومليلية المدينتين اللتين تحتلهما اسبانيا. وفي شباط فبراير 1961 غادرت سفينة تحمل 43 مهاجراً بطريقة غير شرعية وغرقت، وأثار الحادث الرأي العام خارج المغرب، وقد جرى في كانون الأول ديسمبر الماضي، وبموافقة الملك الحسن الثاني، نقل رفات 22 من هؤلاء الى اسرائيل، كان سام بن شتريت احد زعماء اليهود المغاربة في اسرائيل عثر عليها خلال زيارة قام بها في العام 1983 للمغرب وقرر ان يبذل ما في وسعه لاحضار رفاتهم، ووقتها اصدر رئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين بياناً شكر فيه العاهل المغربي على هذه "اللفتة" الانسانية معتبراً اياها "خطوة الى الامام على طريق المصالحة والسلام مع الدول العربية". لقد تمت عمليات تهجير اليهود المغاربة بشكل مكثف لضمان وصول اكبر عدد منهم الى اسرائيل، واتفقت الوكالة اليهودية مع الحكومة الفرنسية - بعد اشتداد التوتر اثناء الحرب العربية - الاسرائيلية عام 1947 - على اضفاء الشرعية على الهجرة، وانشئ لهذا الغرض مخيم قرب مدينة الجديدة الساحلية جنوب الدار البيضاء، وكانت منظمة "كاديمحاح" تجمع اليهود داخل هذا المخيم، ليتوجهوا بعد ذلك الى مخيم اريناس قرب مدينة مرسيليا الفرنسية، حيث ينتظرون في ظروف سيئة شهوراً للسفر الى فلسطين. لقد تمتع الوجود اليهودي في المغرب بحماية خاصة من الملوك المغاربة، وشهدت الحياة السياسية المغربية مشاركة اليهود واحتلالهم مناصب رفيعة وفي اول حكومة مغربية بعد الاستقلال تولى ليون بتراكين وزارتي البريد والصحة، ويتولى حالياً اندري ازولاي منصب مستشار العاهل المغربي، كما يشغل شقيقه عضوية المجلس الاعلى للقضاء، واذا كانت الانتخابات التشريعية الاخيرة لم تسفر عن فوز اي من المرشحين اليهود الاربعة، فان انتخابات 1984 ادخلت الى البرلمان اول يهودي مغربي هو حوحنا، او حنا، عن حزب "الاتحاد الدستوري". وكان شمعون ليفي عضو المكتب السياسي لحزب "التقدم والاشتراكية" فاز في انتخابات المجالس البلدية والقروية التي جرت في العام 1977 عن مدينة الدار البيضاء. ويعمل اليهود المغاربة في مختلف المجالات، سواء في التعليم او الادارة او الجيش، او في المهن الحرة كالمحاماة والطب، اضافة الى الشركات التي يديرونها، ولا زالت اماكن عبادتهم باقية، ويفوق عددها 32 كنيساً في العاصمة المغربية، وهو ما لا يتناسب والحجم القليل لليهود الذين اثروا البقاء، قياساً الى عددهم في الخارج، حيث يشكلون اكبر جالية يهودية عربية في اسرائيل، تحرص على عاداتها وتقاليدها المغربية، وقد اصبحت تحس بوجودها كجالية قائمة بذاتها، بعد نداء الملك الحسن الثاني الشهير في آذار مارس 1976 بدعوتها للعودة الى المغرب، وهو ما جعل ارتباطها بوطنها الاصلي واضحاً من خلال الزيارات وحضور الاحتفالات اليهودية التي تقام في بعض المدن المغربية. لقد اراد الكاتب اليهودي المغربي ادمون عمران المليح في روايته "الف عام بيوم واحد" الصادرة باللغة العربية في العام 1991 ان يسترجع، وهو الشاهد على اقتلاع ذويه ودفعهم الى التخلي عن وطنهم الحقيقي، ما عاشه ووعاه في فضاءات المدن المغربية، والبيئة المغربية التي شهدت التعايش الاسلامي - اليهودي قروناً طويلة، وحين عجزت الذاكرة عن فهم ما جرى من سرقة لهويته بخدعة "ارض الميعاد" لجأ الى الحلم، فتخيل انه يرحل الى تل ابيب ليواجه محتلي الدولة التي تحاكمه لأنه يهودي عربي لا يتكلم العبرية. لكن الخيال لم يجمح به الى حد تصور ممثلي تلك الدولة يحطون رحالهم في المغرب، كما حدث يوم 14 ايلول سبتمبر الماضي ليتصالحوا مع الضمير، بعد سنوات الدم والكراهية.