كان المشهد الثالث يوشك على الانتهاء، والجمهور المحتشد في المسرح القاهري لا يزال مستغرقاً في الاصغاء، حين بدأ التململ يظهر هنا وهناك، والهمس يعلو بين المشاهدين قبل أن يتحول الى تعليقات ساخرة بالصوت العالي. المفروض أننا ذهبنا تلك العشية من أيلول سبتمبر لمشاهدة مسرحية كوميدية، هي "مريض الوهم" لموليير، كما اقتبسها بعامية شديدة الخصوصية وتصورها على الخشبة المخرج اللبناني إيلي لحود. مسرحية كوميدية، أي مسرحية ضاحكة، فكر الجمهور المصري من دون شك حين زحف الى مدرج "المسرح العائم"، هو المشهور بحس النكتة والمدمن على الضحك الذي يسود بمختلف أشكاله الخشبة المصرية. لكننا هنا منذ نصف ساعة الآن، والدقائق تمر بطيئة، ثقيلة، متشابهة. لم ترتفع في الصالة ضحكة واحدة، والممثل بول سليمان ورفاقه يعملون جاهدين بمبالغاتهم وحركاتهم التهريجية وادائهم المضخم لاضفاء بعض الطرافة على مسرحيتهم. "لنضحك قليلاً ونساعدهم" صاح خلفي مشاهد بدأ ينفد صبره، فسرت حوله قهقهات مكتومة. هل سأل إيلي لحود نفسه عن معنى الضحك، وأشكاله، وهل بحث حقاً عن سبل الوصول اليه؟ لماذا يضحك الناس، وكيف ومتى وأي نوع من الضحك؟ ماذا يُضحِك اليوم المتفرج العربي المعتاد مختلف أشكال التهريج والكوميديا السطحية السهلة؟ وهل هناك فرق بين المتفرج المصري والمتفرج في بلدة عمشيت اللبنانية حيث أقام لحود محترفه وأسس فرقته المسرحية؟ هذه الاسئلة، وأسئلة كثيرة أخرى، فتحت "أيام قرطاج المسرحية" في تونس مجالاً لطرحها وتعميقها. في البدء اختارت ادارة المهرجان، أن تقام الدورة السادسة ل "الايام" تحت شعار "المسرح والضحك". وبعد أن قام المسؤولون عن البرمجة بجولة أفق على نتاجات المسرح العربي، سرعان ما بدأت أحلامهم تتقلص، فعدلوا عن مشاريعهم الطموحة ليصبحوا أكثر واقعية: الاكتفاء بأعمال كوميدية قليلة، على أن يكون محور الندوة الفكرية هو "المسرح والضحك". أي، بمعنى آخر، ما ليس عندنا، نستعيض عنه بذكره، ونستحضره كلاماً وتنظيراً. كم مسرحية ضاحكة تقدم حالياً في العالم العربي؟ وهل بالامكان استقدام عروض كوميدية عربية من خارج المسرح التجاري والاستهلاكي؟ كأننا بالضحك سلعة رابحة يحسن تجار المسرح الخاص استغلالها وترويجها وتوزيعها وتصديرها... فيما تبقى الصفة "الثقافية" المضجرة ملازمة للمسرح الجاد الذي يبدو كأنه لا يمتهن سوى الاعمال الذهنية الصعبة التي تهرّب الجمهور... في تونس كان الضحك يقتصر على مسرحية المنصف الذويب "مكي وزكية" المتحورة حول شخص الممثل المعروف الأمين النهدي وحضوره وشعبيته. لكن انتزاع الضحك بأي ثمن، يبقى من الصفات الملازمة لهذا العمل ولمسرحيات أخرى بينها "عطوة أبو مطوة" الآتية من مصر ألفريد فرج/ سعد أردش. فالنكتة السهلة، والتعليق السطحي واللعب على الكلام والحركات الرخيصة التي تتوسل الابتذال تارة والتهريج و"السعدنة" تارةً أخرى، ليست ولا يمكن أن تكون من مقومات المسرح الضاحك، بالمعنى الراقي للكلمة. هذا الضحك الذي ذكّر المسرحي الفرنسي ريشار دو مارسي خلال الندوة أنه "ليس الهدف الاساسي للعمل المسرحي، بل يستمد قوته من ارتباطه بقضايا الانسان ومن تواصله مع مجموعة من المراجع الثقافية والاجتماعية في ذاكرة المتلقي". من شخصيات أريسطوفان الى كركوز وعيواظ شكلا نموذجاً للثنائي السوري "غوار الطوشة/حسني البُرظان" مع دريد لحام ونهاد قلعي - والاخير رحل عنّا خلال انعقاد المهرجان التونسي. كما استوحى الكوميدي اللبناني الراحل شوشو شخصيته المسرحية من ملامح كركوز...، يبدو الضحك فعلاً اجتماعياً قبل كل شيء، يستمد زخمه من العلاقات البشرية، ويستقي معناه من الواقع الاجتماعي والثقافي المحيط... وكل تسطيح لهذه العلاقات الدينامية المعقدة هو علامة انحطاط وانحسار ثقافي، وشح في المخيلة، وتراجع في درجة الوعي الجماعي. لا ينفع بعد ذلك الاحتماء - على طريقة عادل إمام راجع "الوسط" عدد 90 - بديماغوجية "الناس الكتير". فموهبة عادل امام وشعبيته لدى "الناس الغلابة"، وخفة ظله وسرعة بديهته وقدرته على التعبير أحياناً عن وجع ما في وجدان الجماعة، كلها خصال لا تعزل الظاهرة نفسها عن الانحطاط المحيط. والضحك فعل سياسي، موقف فلسفي على عفويته. رد فعل على ميكانيكية العلاقات والمواقف بركسون. الضحك احتجاج ميتافيزيقي أحياناً، ورفض طوباوي لاستحالة الاشياء. هناك نوعيات ومستويات من الضحك، الضحك العادي والضحك الراقي، الضحك الساخر والضحك الشرير والضحك العصبي، الضحك السوداوي كما في مسرحية الفاضل الجعايبي "فاميليا" التي أعدنا مشاهدتها في قرطاج، والضحك الدامع الذي يدعونا اليه المهرج الحزين. في فيلمه الجديد "جريمة غامضة في منهاتن" يحول السينمائي الاميركي وودي آلن مرة أخرى الضحك الى شكل فنّي بامتياز، فهو ينطلق من حبكة بوليسية واطار سيكولوجي يكتنفه التشويق الهيتشكوكي، ليفكك عبر الكوميديا العلاقة الشائكة بين رجل وامرأة متحابين، وبين الكائن ونفسه، بينه وبين العالم. هذا هو الضحك سلاح العُزّل، وأمل اليائسين، وآخر الوسائل المتبقية لمقاومة الواقع. فأين نحن العرب من فن الضحك؟ في قرطاج لمسنا من جديد المسافة التي تفصلنا عن شكل التعبير الراقي هذا، كما اكتشفنا بمرارة حاجتنا الى الاعمال الكوميدية الاستهلاكية في غياب الافضل. في أحد أفلامه يروي وودي آلن قصة الشاب الذي ذهب الى طبيب الامراض العقلية شاكياً: "أخي لم تعد حالته تطاق، فهو يظن نفسه دجاجة". "ولماذا لا تحضره الى المصح؟" سأل الطبيب. - هل جننت دكتور؟ اذا جئتُ به الى هنا، من سيضع لنا بيضاً كلّ صباح؟