في القاهرة أصدرت "دار الأخبار"، لأول مرة في تاريخ الصحافة الثقافية، ملحقاً أدبياً على هيئة مجلة مستقلة، تظهر كل أسبوع في أربعين صفحة. وقد حقق صدور المجلة رغبة طالما نادى بها الادباء والمثقفون بعد أن تحول مفهوم الصحافة اليوم، بطبيعة العصر. فهي باتت تقوم أساساً على السياسة والخبر والرأي والاحداث الجارية، ولم يبقَ للأدب والثقافة فيها المكانة المرموقة التي عرفتها في البداية، حتى بات نصيبهما لا يتعدّى صفحة أو بعض صفحة كل أسبوع، يجور عليها اعلان هنا وحدث ساخن هناك، فتختفي كلياً من حين الى حين. وقد عاد بي ظهور العدد الاول من "أخبار الادب" الى ذكريات بعيدة لمعركة أدبية حادة طويلة، بين طائفة من النقاد وبعض المشرفين على الصحف اليومية في مصر، حول العلاقة بين الصحافة والادب. كان الدكتور رشاد رشدي - وهو أستاذ جامعي وكاتب مسرحي وناقد معروف - أصدر في منتصف عام 1960 كتاباً صغيراً بعنوان "ماهو الادب"، تابع فيه بكثير من الاسراف في الرأي، وبإيجاز شديد اقتضته طبيعة الكتاب الصغير، آراءه النقدية المعروفة باسم "النقد الجديد". نفى رشدي أن يكون للناقد حق الحديث عن مضمون النص الادبي، أو عن قضية تطرحها رواية أو مسرحية. ولخّص رأيه في عبارة حاسمة. "إن العمل الادبي - كتب - هو ما هو، ليس له صلة بنفس قائله ولا بروح عصره". كنت من الذين رأوا في ذلك القول اسرافاً ينتهي الى نظرية "الفن للفن"، ويحوّل النص الادبي الى مجرد صيغ بيانية لاصلة لها بالنفس، ولا بالمجتمع والحياة. فتصديت لاجتهادات رشدي بالرد والمناقشة، ضمن طائفة من النقاد كان بينهم محمد مندور، وغنيمي هلال، وأنور المعداوي وآخرون. ورأى الدكتور مندور أن ينشر آراء النقاد حول ذلك الموضوع، في صحيفة يومية كان أحد المشرفين عليها. فما كان من رئيس التحرير موسى صبري، عقب صدور المقالات، الا أن كتب يسخر من نشر هذا الكلام العسير، البعيد عن اهتمام قراء صحيفة يومية تتوجه الى دائرة واسعة من الجماهير غير المعنية، من قريب أو بعيد، بمثل تلك القضايا الثقافية والفكرية. اتسع السجال، وامتد الى صحف أخرى ومجلات أسبوعية. وعقدت ندوات في بعض الجمعيات الأدبية التي كان لها وجود مرموق في القاهرة حينذاك. كما زاد من حدة الجدل، واتساع هوة الخلاف، أن تلك الفترة كان يسودها ميل الى "توظيف" الادب في خدمة السياسة، فبدا أن كل حديث عن "المضمون" هو ابتعاد عن طبيعة النص الادبي الذي لا يمكن الفصل بين شكله ومضمونه. أما الدكتور رشاد رشدي، فكان استمد آراءه الموجزة، والمسرفة في الراديكالية، من نظرية أصحاب "النقد الجديد". وهذه المدرسة نشأت كرد فعل على التفسير الاجتماعي والسياسي الذي ساد عند بعض النقاد الاشتراكيين حينذاك، وعلى التفسير النفسي الذي اتجه اليه البعض الآخر من النقاد بعد شيوع الاجتهادات الفرويدية القائمة على نظرية "العقل الباطن". وأراد أصحاب هذه المدرسة أن "يردوا الاعتبار" الى النص الادبي، ويحرروه من القراءات القائمة على "مضمونه" على حساب مكوناته الأخرى، وقيمه البيانية والجمالية. والنظرية في جوهرها سليمة، لولا ما كان يشوبها من حدة ومبالغة ملازمتان لكل رد فعل بطبيعته. من هنا أن هؤلاء النقاد تجاوزوا اليوم مرحلة الرفض المبالغ فيه، وعادوا الى شيء من الاعتدال، مدركين أن الاحاطة بكل مقومات النص الادبي تقتضي الالتفات أحياناً الى طبيعة المؤلف، أو الاتجاه الادبي السائد في عصره، أو القضية التي يطرحها النص... كل ذلك دون اغفال الجوانب الشكلية والفنية فيه بطبيعة الحال، ودون الانزلاق في مطب الفصل بين شكله ومضمونه. ولعل هذا الاتجاه، كان البذرة الاولى لما نراه سائداً اليوم من مذاهب نقدية تلحّ على استقلال النص، وتعلن "موت المؤلف"، وتتجه في المقام الاول الى المستويات اللغوية والتركيبية للنص الادبي. المهم أنني شاركت في ذلك الوقت في الجدل الطويل حول الصلة بين الصحافة والثقافة، وناقشت آراء رئيس تحرير الصحيفة، مستغرباً سخريته من نشر آراء النقاد في صحيفة يومية. كتب الاخير أن "الجريدة ملك لكل قارىء من قرائها. هي الصديق الذي يطرق باب كل الناس، من كل المستويات، كل صباح. يقرؤها أساتذة الجامعة وطلاب الجامعة، وتشتريها ربّة البيت. الجريدة للقاضي المتعمق في دراسة القانون، ولحاجب الجلسة الذي أمضى عمره ينادي أسماء المتقاضين. والعدد المحدود لصفحات الجريدة العربية، لا يسمح بتخصيص أقسام لا يقرؤها الا هواتها". وهذا الكلام قد يبدو لأول وهلة منطقياً، كما لاحظت في مناقشتي. ولكننا لو تأملنا فيه جيداً لاكتشفنا المفارقات التي ينطوي عليها. فهل صحيح أن ما يعني القاضي المتعمق في دراسة القانون، هو نفس ما يعني الحاجب الذي أمضى عمره ينادي على أسماء المتقاضين؟ وهل صحيح أن قارىء الجريدة لا يؤثِر بعض صفحاتها على البعض الآخر، وأنه ليست هناك جوانب تستأثر باهتمامه أكثر من سواها بين مواد الجريدة؟ فمهما حاولنا أن نبسّط تلك المادة كي تكون في متناول الجميع، لن نستطيع بأية حال أن نفرض المنحى نفسه على كل القراء، على اختلاف اذواقهم ودرجات ثقافتهم وطبيعة ميولهم. القارىء يفتح الصحيفة أول ما يفتحها، على الصفحة أو الصفحات التي تستأثر باهتمامه، ثم يمر مروراً عابراً بكثيرمن مواد الجريدة الأخرى. ولعله في بعض الاحيان يهمل بعض الصفحات فلا ينظر فيها على الاطلاق. فلماذا يفترض اذاً أن تكون صفحة الادب وحدها مقروءة من الجميع على اختلاف ميولهم ومستوياتهم؟ هذه النظرة الضيقة لا تؤدي سوى الى حرمان الادباء من نشر ابداعهم، والمثقفين في المشاركة في الحياة الفكرية لبلادهم، والقراء من الانفتاح على مادة تجذبهم بالتدريج الى مجالات الفكر والادب، وتنمّي معارفهم، وتخرج بهم من دائرة اهتماماتهم الضيّقة. بعد ثلاثين عاماً، يبدو لي أن تلك "المعركة" مازالت قائمة، في أغلب وجوهها. ما زال الأدب في صحفنا اليومية مجرد "استكمال شكل"، حتى لا يقال إن الصحيفة تخلو من الأدب والثقافة! بل أن الامر ازداد سوءاً وضيقاً: فبعد أن كانت الصفحة الأدبية لمطبوعة ما، تسضيف كثيراً من النقاد والادباء، أصبحت اليوم تحرر من داخل الصحيفة بأقلام الصحافيين العاملين فيها. يقتضي الانصاف طبعاً أن نعترف بفضل بعض الصحف العربية، في المضي بإيلاء الأدب عناية ظاهرة، عبر خصه بصفحة يومية وبصفحات أسبوعية منتظمة. لكن الصورة العامة تطغى عليها، للأسف، حالة من انقطاع الصلة بين الصحافة والادب بمعناه الجاد على مستوى الوطن العربي. لذلك يبدو صدور "أخبار الادب" جديراً بالتحية من ناحية، وبالدراسة الموضوعية من ناحية أخرى. سبق صدور هذه المجلة الادبية، كما هو معروف، ثلاث مجلات أخرى متخصصة عن الدار نفسها: "أخبار الحوادث" و "أخبار النجوم" و "أخبار الرياضة" مجلات تبدو شديدة الصلة بمفهوم الصحافة الجماهيرية، وهي بطبيعتها عظيمة الرواج لا تشغل بال المشرفين عليها من حيث المادة أو التوزيع. أما "أخبار الادب"، فلا بد أن يواجه المشرفون عليها مأزق التوفيق بين المستوى الفني والفكري وبين ما تفرضه الضرورات الصحفية، والمفهوم الصحفي السائد الذي يميل بحكم التقاليد الطويلة الى الخفة والتنوع والتبسيط، وما تفرضه حسابات الدار من ضرورة الوصول الى أكبر دائرة من القراء، على اختلاف مستوياتهم. وعلى رغم الجهد المبذول في "أخبار الادب" التي يرأس تحريرها الروائي المعروف جمال الغيطاني، فإنها لم تستطع حتّى الآن أن تنفلت تماماً من أسر المفهوم الصحفي السائد، اذا نظرنا الى ما تشتمل عليه من ريبورتاجات ومقابلات ذات طابع صحفي غالب مع بعض كبار الأدباء والشعراء، واذا توقفنا عند حرصها على ما يشبه "السبق الصحفي"، في نشر قصص مجهولة لأدباء راحلين، وأخبار منثورة وطرائف، وقدر قليل من الشعر بعضه على مستوى قريب من النظم. من المفروض أن تتسع المجلة لعدد من القصص القصيرة، والقصائد الحديثة، والمقالات النقدية. وأن تثير بعض القضايا الفكرية، وأن تفتح الباب لكثير من المواهب التي تتطلع للوصول الى دائرة من القراء، أوسع من تلك التي يتيحها النشر في مجلة أدبية شهرية. ولن يكون من الصعب أن يجتمع للمجلة، من المادة الجيدة المتنوعة، ما يملأ صفحاتها الأربعين، خاصة أن الغيطاني يطمح لمجلته أن تكون ذات طابع عربي غالب، في مادتها وتوزيعها على مستوى الوطن العربي كله. * ناقد مصري