تعودنا أن يكون منحنى السيرة في حياة مثقفينا ميالاً في البداية إلى رفض الواقع والتمرد عليه، وميالاً في النهاية الى التصالح معه... وأحياناً الى تبريره والدفاع عنه. ولست أظن أن في هذه السيرة التي تتكرر في حياة المثقفين العرب ما يدعو الى الاستغراب أو الاستنكار، من وجهة نظر موضوعية عادلة. من الطبيعي أن يبدأ الناس عامة، والمثقفون خاصة، مشتعلين بنار أحلامهم متوحدين مع مُثلهم العليا، يرفضون الواقع بقدر ما يجهلونه. أو يكرهونه لأنه يناقض أحلامهم من ناحية، ولأنه من ناحية أخرى يدفعهم الى الاغتراب عنه والترفع عليه والعمل على تقويض المؤسسات، فاذا بهم أُهمِلوا وحُرموا من كل شيء وأصبحوا على هامش المجتمع ومؤسساته. لكن السيرة التي بدأت هكذا لا تلبث أن تتطور. إذ لا بد أن يؤدي الصراع العنيف الى بلورة مواهب هؤلاء القادمين الجدد الذين يفرضون أنفسهم شيئاً فشيئاً، مستفيدين من دعم الاوساط التي تتعاطف معهم، وتفهم مواقفهم، وتتحمس لأفكارهم المجددة. وهكذا يجد هؤلاء المتمردون مكاناً يمارسون فيه وجودهم، ويعبّرون من خلاله عن وجهات نظرهم، لكن بشرط أن يقبلوا بقدر ما يرفضون، وأن يتأثروا بقدر ما يؤثرون. تلك هي المرحلة الوسطى التي يستمر فيها الصراع، لكنه يعرف شيئاً من الهدوء واستعداد المثقف للحوار، وسعيه الى تأكيد ذاته بطريقة ايجابية، أي من خلال العمل الذي يعبّر عن وجهة النظر الجديدة دون صدم الآخرين عن طريق الرفض، أو استفزازهم من جرّاء التعالي. حتى اذا حقق هؤلاء المثقفون الطليعيون أنفسهم على نحو ما، ووصلوا الى تحقيق ما يرضيهم وينتزع الاعتراف بهم، أصبحوا في الوضع الذي يحتم عليهم أن يدافعوا عمّا أنجزوه، خصوصاً في وجه الجيل الجديد الذي سيسير على خطاهم، مكرراً ما كانوا بدأوا به هم من رفض انجازات الأسبقين، وشنّ الحرب عليهم. واذا بهم يتحولون في النهاية - من حيث لا يدرون - الى محافظين. وكما توحدوا في البدء مع مثلهم العليا، ها هم يتوحدون في المحصلة الاخيرة مع تجربتهم الذاتية ومصالحهم العملية، مدافعين عنها حتّى لو اقتضى ذلك تبرير أخطاء الماضي. فمن الطبيعي أن يغمرهم هذا الماضي بالأمان، بقدر ما يشعرون بالشك والتوجس ازاء المستقبل الذي سيصنعه سواهم. ومنحنى السيرة كما اختصرناه، يمكن تطبيقه على عدد من الرموز الكبرى التي عرفتها ثقافتنا الحديثة كالعقاد، وطه حسين ، وتوفيق الحكيم، وخالد محمد خالد... وذلك بنسب متفاوتة وبدرجات من التداخل والتذبذب لا ينبغي أن نغفلها، ونحن نعمل على رصد الملامح المميزة لسيرة كل منهم بحركتها الجوهرية واتجاهها الغالب. صحيح أننا نجد في سيرة البعض الآخر من كبار مثقفينا - كما عند لويس عوض مثلاً - ميلاً الى مواصلة التمرد في الاتجاه الذي بدأوا به، وحرصاً على الانسجام مع الذات والوفاء لمثل البدايات الاولى، لكن هذه الحالات ليست الا الاستثناء الذي يثبت القاعدة. وهو استثناء له ما يفسره لدى لويس عوض. فتمرّده تميز بالجذرية والشمول، وجاء رد الفعل على هذا التمرد مماثلاً في جذريته، ما أبقى المسافة بعيدة بين الطرفين النقيضين، وجعل عملية المصالحة تظل مستحيلة مع الثقافة السائدة. لذا لم يحدث بين تلك الثقافة وبين فكر عوض، الا تقارب شكلي وتمثل قليل. لكني أريد أن أقف قليلاً عند سيرة مثقف آخر، عرفت منحنى مختلفاً، محيّراً بعض الشيء. فالمثقف الذي أفكر به هنا، لا يخرج في اتجاهه الفكري عن القاعدة المشار اليها اعلاه، اذ بدأ متمرداً على الواقع، وانتهى متصالحاً معه. أما في اتجاهه العملي، فسار في الاتجاه المعاكس، اذ بدأ منعزلاً غائباً، وأخذ يسير نحو الفاعلية والمواجهة. هذا المثقف هو زكي نجيب محمود الذي لم يبرز حضوره في حياتنا الثقافية قبل بلوغه الستين أو ما يقاربها. فالمفكر الذي رحل عنا بالامس، قضى صباه الباكر مع والده الموظف في السودان. ثم عاد الى مصر ليتخرج من مدرسة المعلمين العليا، ويبدأ حياته العملية استاذاً في بعض المدارس المتوسطة. وحين قُبل عضواً في لجنة التأليف والترجمة والنشر أوائل الثلاثينات، اكتفى بلعب دور المساعد في أشغال الاساتذة الكبار. هكذا قضى شبابه بترجمة محاورات أفلاطون، ومساعدة أحمد أمين في انجاز بعض الموسوعات، كما قام بترجمة "قصة الحضارة". ثم قضى سنوات الحرب الثانية في انكلترا، يُعدّ رسالة لنيل الدكتوراه، قبل أن يعود ليمارس استقلاله الفكري، فيصدر كتابه المهم "خرافة المتيافيزيقا" الذي أعلن فيه أن كل معرفة تبدأ من كلمات لم نتفق على مدلولاتها، وتتحدث عن كائنات تقع خارج الحس، ليست الا خرافة. ولهذا اعتبر زكي نجيب محمود أن كلامنا عن القيم الاخلاقية والجمالية كلام فارغ، خال من المعنى. اذ ليست هناك معرفة حقيقية، بنظره، خارج العلم الطبيعي الذي نتثبت منه بمطابقته على الواقع فنعرف صدقه من كذبه، والعلم الرياضي الذي نحلل قضاياه ونختبر صحته على أساس سلامة الاستدلال، وصدق النتائج مع المسلمات. أما الفلسفة فليس أمامها إلا أحد طريقين: إما أن تنشغل بهذه المواضيع الميتافيزيقية، وعندئذ تكون أشكالاً لغوية خالية من المعنى. وإما أن تنصرف الى تحليل العبارات المستخدمة في العلوم الطبيعية والرياضية من أجل الوصول الى لغة علمية دقيقة واضحة، وبهذا تصبح معرفة حقيقية، وتشترك في بناء حضارة العصر الذي نعيش فيه. هذه هي الفلسفة التحليلية، أو التجريبية، أو الوضعية المنطقية التي أخذ يبشر بها زكي نجيب محمود، داعياً الى مراجعة اللغة التي نستخدمها في الفكر والعلم والنقد والسياسة وعلم الاجتماع... لنعرف ما نقصده بها ونتفق على معان لها تكون أساساً لانظمتنا الفكرية والاجتماعية. والا فسنبقى نتحدث عن الحرية فيفهم منها بعضنا معنى الفطرة، ويفهم آخرون معنى الانعتاق وعكس العبودية، بينما تقف فئة ثالثة عند معنى الديموقراطية، ورابعة عند معنى الثورة والمعارضة. بل لا بد من تحديد مفهوم العلم نفسه، فهو يشير عند البعض الى علوم الدين، وعند البعض الآخر الى علوم الدنيا، وقد يتداخل المعنيان فيقع الخلط والغموض. هذه هي البداية الحقيقية لزكي نجيب محمود في مجال الفكر. وهي بداية ثورية قابلها المفكرون المصريون المثاليون بالمعارضة والتجريح، خاصة عثمان أمين الذي كان يبشر بفلسفته الجوّانية، وتوفيق الطويل الذي صرف جهده في الكلام عن القيم والاخلاق. ولم يقف زكي نجيب محمود عند هذا الحد، بل حمل حملة عنيفة على التراث العربي القديم، ودعا الى الكتابة بالحروف اللاتينية، وصاح في نهاية دراسة له "إني لأقولها صريحة واضحة: إما أن نعيش عصرنا بفكره ومشكلاته، وإما أن نرفضه ونوصد دونه الابواب لنعيش تراثنا. نحن في ذلك احرار، لكننا لا نملك الحرية في أن نوحد بين الفكرين". هذا ما كتبه الراحل في بداياته، لكنه وصل الى نهاية مغايرة طبعاً. أنه هو نفسه من قام بالجمع بينهما في فلسفة عربية جديدة تعطي للعلم ما للعلم، وتعطي للتراث ما للتراث. كما أن الفيلسوف قام في النهاية بتغيير عنوان دراسته الاولى، فجعله "موقف من الميتافيزيقا" بدلاً من "خرافة الميتافيزيقا"! والفرق بين العنوانين في منتهى الوضوح: القديم حكم ورفض صريح، والجديد تملّص من النطق بالحكم وركون الى الحياء. أما السيرة العملية لزكي نجيب محمود، فقد اخذت منحىً عكسياً. فالمفكر الذي بدأ منعزلاً غائباً محتمياً بأسوار الجامعة، ما لبث أن انطلق يكتب في الصحف، ويجادل ويشتبك مع المحافظين التقليديين. وقد رحل وهو لا يزال يصارع الشيخ الشعراوي. * شاعر مصري