سحر خليفة هي الروائية الفلسطينية الاشهر المقيمة في فلسطينالمحتلة، لم تغادرها الا الى متابعة دراسية محدودة الوقت او لحضور مؤتمر ادبي. الروائية الفلسطينية المقيمة سجلت في اعمالها، وبشكل فني ملفت، يوميات الحياة تحت الاحتلال، ورسمت شخصيات متنوعة تعيش الزمن الفلسطيني الصعب. "الوسط" التقتها في زيارتها الاخيرة الى القاهرة، واجرت هذا الحديث عن تفاصيل الحياة وفعل الكتابة عند صاحبة "الصبار" و"عباد الشمس" و"باب الساحة". قضية المرأة هي الاكثر بروزاً في رواياتك، كيف تحقق هذا الانضباط الفني لكي تنأي عن "المنشور السياسي"؟ - مررت بظروف صعبة كثيرة، ولكن باجتهادي حاولت ان اتخطى هذه الظروف واكون مستقلة اقتصادياً، تعلمت واختلطت بكتّاب وحركات تحررية، وتغيرت حياتي كلياً، من امرأة ليس لها طموح وليس لديها الا البكاء على الذات الى امرأة عندها قضايا تقاتل من اجلها. الموهبة لها جزء محدود من الفضل على المبدعين، والاكثر، هي الارادة والالتزام، ليس على مستوى القرارات ولكن على مستوى التوقيت والانضباط. والكتّاب الذين يستطيعون ان يلفتوا النظر الى قضاياهم اناس لا يعتمدون على الموهبة وحدها، وانما بنسبة خمسة وتسعين في المئة على الانضباط والالتزام. لست صاحبة قضية واحدة بل قضايا عدة، فأنا فلسطينية ومعروف اننا شعب مشرد في الشتات او يرزح تحت الاحتلال، في الداخل يعيش على ارض قابلة للمصادرة وفي الخارج ليست لديه ارض، البعض الداخلي لا يمكن ان يتكلم عن حرية الجسد دون ان يعني مناعة لهذا الجسد، ولا يمكن ان نصل الى مرحلة التحرير السياسي او الاقتصادي ما لم نبن قوة داخلية في هذا الجسد. محاولة التحقق مرت عبر مراحل متعددة على المستوى الشخصي / العائلي، ثم على مستوى الاعتراف بقيمة ما تكتبينه. كيف تم ذلك؟ - ولدت في مدينة نابلس عام 1941 من عائلة متوسطة يمكن ان تعتبرها قريبة من الطبقة الاعلى نسبياً ومحافظة على التقاليد. نجيب محفوظ كان يحكي عن هذه الطبقة. انا نشأت في جو مثل هذا وانا من الجيل الذي نشأ على مفاهيم عبدالناصر، كانت هناك محاولة للنفاذ من الحصار والنظر الى بعد آخر، لنخرج من القوقعة الثقافية. لقد دخلت الفتيات الفلسطينيات الى المدارس بالآلاف، كان ذلك بعد نكسة 1948 وشعور الفلسطينيين انه ليس لديهم اي شيء فاتجهوا الى التعليم، وهذا ما يفسر كثرة المتعلمين الفلسطينيين في تلك الفترة. صار هناك طفرة، وتأثرت مثل كل بنات جيلي بنماذج متعددة. كان لديّ طموح ان اكون فنانة، واهلي خافوا من ذلك فأدخلوني في زواج لم ينفع. بكيت في تلك الفترة وجلست سنين اندب حظي، ولديّ بنتان، لكنني اتخذت قرار بداية جديدة، وقبل ان اكسر الزواج نهائياً كنت مخططة لنفسي واعتمد على نفسي واستقليت اقتصادياً وعملت في جامعة بيرزيت في الضفة الغربية. وكانت روايتي الاولى قبلت في دار المعارف بمصر، شعرت بأن هذه هي الحياة التي دخلت فيها، وعندما صدرت اولى رواياتي هاجمني البعض واشاد بي البعض الآخر، وحاولت ان انمي قدراتي، والحمد لله استطعت ان اكون شيئاً. رحلة الفن لا تنتهي، ولكن، اعرف الآن ما هو الاتجاه، احاول ان اكتب اكثر، اخترق مضامين جديدة اكثر، احاول ان اقترب من العالم العربي اكثر. نشرت اول كتاب عام 1974 وهناك تجارب لم تنشر ورواية صودرت وكان اسمها "بعد الهزيمة" تعرض حياة عائلة في الشهر الاول من الاحتلال عام 1967، وتناقش كيف ان الدبابات دخلت نابلس وحاولت ان تدمر هذه العائلة، هي محاولة لشرح ما حدث لهذه العائلة ولكن الرواية صادرتها سلطات الاحتلال الاسرائيلي. اول كتاب كهاوية كان اسمه "من اي يأتي الحزن؟" وموضوعه عن المجتمع الفلسطيني قبل 1967، وفي عام 1976 كانت رواية "الصبار" التي تتناول مشكلة العمل في اسرائيل وهل هو خيانة؟ وما هي ظروف العمل في اسرائيل؟ ثم "عباد الشمس" عام 1980 وعالجت فيها مسألة المرأة بتفاصيل دقيقة وبنظرة شاملة لما يحدث في الداخل، وتعرض الكتاب لانتقادات. وبعد ذلك تدور الايام وتتبنى منظمة التحرير المفهوم الذي كان يهاجم قبل ذلك. الرجل الفلسطيني يعترف الآن بأهمية المرأة، بدورها، بقوتها. وحالياً "الحركة النسوية" تعتبر من اكبر التنظيمات، ولكن من اسوأها، لأن العالم كله ضدنا. كتابة... وتنظير يلاحظ ان كثيراً من الروائيين العرب يهتمون بتفسير الكتابة والتنظير لها في ممارسة لفعل الابداع والنقد معاً؟ - هذا الكلام صحيح اذا كان الكاتب يعظ بطريقة مكشوفة ومباشرة ومسطحة، انما الذي يفهم قواعد الرواية يجد ان الكاتب لديه رؤية ولا يسقط في الادب العبثي كمن يعمل من اجل الجمال فقط في الفن. هذا الادب لا يثير الجماهير، الكاتب يجب ان تكون عنده رؤية وفهم لقضايا الفن الذي يقوم به، من اين تنطلق؟ وما هي القاعدة التي ترتكز عليها؟ فان الرواية شخصيات متطورة مستديرة، الشخصيات المستديرة لها وجه، عمق، ابعاد، وتناقضات، تحس انها من لحم ودم ولها وضعها الخاص، وهي في الوقت نفسه تحمل سمات ظاهرة او تؤلف شريحة لها تأثير في المجتمع. الرواية شخصيات وعلاقات بين الشخصيات، واذا حاولنا ان نرصد الشخصيات وتصرفها الواقعي ونحاول غربلة الشيء الآتي من سمات الشخصية ونركز على الشيء المستمر، وله صفة الاستمرار، اذا فعلنا ذلك لا نقع في التسطيح، واذا قلدنا الواقع وغربلناه، الادب لا بد ان يكون واقعاً مغربلاً، ولا بد ان يكون صورة منقحة ولها ابعاد عندها نصل الى الرؤية التي في ذهن الكاتب. كل الابعاد الاخرى تساهم، في فهم الكاتب الاجتماعي للواقع الذي يعيش فيه، وعندما تكون لديه رؤية وفهم اجتماعيان واقعيان لا يكون رومانسياً ولا تنظيرياً. الى اي مدى انا نجحت؟ هذا متروك للنقاد ولا بد لكل كاتب ان يفكر في قرائه، وهل العمل وصل الى الناس؟ الى اي مدى تفاعل الكاتب مع شخصياته؟ ما يساعدني على كتابة رواية قابلة للوصول الى القراء انني انزل للشارع التقط شخصيات واركز عليها من الواقع، وبعد ذلك تشكل الشخصية نفسها، ففن الرواية هو فن خلق الشخوص. هل هذه طريقتك في فهم المجتمع الذي تعيشين فيه؟ - فهمي المجتمع يبدأ منذ السنوات الاولى من العمر، والانسان ليس جزيرة معزولة عن المجتمع. في حالات هو الذي يكسر المجتمع، وفي لحظات يكسره المجتمع، فروايتي "مذكرات امرأة غير واقعية" حين تقرأها لا تشعر انك تقرأ "منافستو" والسبب ان الرواية في الاصل هي فن التقاط الشخوص، وفي "باب الساحة" - 90 ناقشت قضية المرأة الفلسطينية والثورة والانتفاضة، ولأول مرة عمل فلسطيني يقول لا الانتفاضة ولا اي ثورة في العالم تستطيع ان تخلق العالم خلقاً جديداً وان امور السياسة قد تحسم بطريقة مبتورة، وانما امر الاخلاق والعلاقات الاجتماعية والجمال يتطلب اجيالاً ليتطور، ولا نستطيع ان نغير العلاقات الاجتماعية او الاخلاق بشكل بسيط. هل كل هذا اتهام في "باب الساحة" لادانة كل الاطراف؟ - "باب الساحة" لم تقصد الادانة، كانت تقصد التعليم بالطريقة الخبيثة منذ سقراط الذي كان يقول الادب "التعليم من خلال الجمال" ولا بد للكاتب ان يكون خبيثاً من اجل المزج بين الاثنين ويكون "شاطراً". هل "باب الساحة" تدين "حسام" الذي يمثل الثوري؟ هل تدين "نزهة" او الذين كانوا يأتون عند "نزهة"؟ هل تدين النظام السياسي، هل تدين النظام الاجتماعي؟ يمكن ان تدين الجميع، ولكن بأي اسلوب ادانتهم ودافعت عنهم؟ هل هو دفاع أم هجوم؟ محاولة بلورة، ف "حسام" الذي لم تعلمه التنظيمات السياسية وتعلم عندما احتك بالواقع. لم يستطع ان يستخلص اي بعد انساني من التنظيمات، هل هي ادانة؟ انا اثير تساؤلا، فمنذ سقراط كان يقال "التعليم من خلال الجمال"، في "باب الساحة" كلهم تجاوزوا واقعهم، "سمر" تحب على رغم بيئتها، "نزهة" تنال العفو حتى من اكثر الشخصيات تشدداً، الجميع تجاوزوا الواقع الذي عاشوا فيه، وكنت اقصد في النهاية ان ينظر للمرأة بشكل مغاير، انها الوعي وانها التي تبني الوعي. شكل مسبق قبل الكتابة ما تفاصيل عملية الكتابة عندك؟ - قبل ان اشرع في العمل اقوم برسم خريطة للشكل وانتقاء الشخصيات وان تكون الشخصيات مدروسة لديّ، الفنان الذي يريد ان يكسب صدقية يحاول تقديم اشخاص مدروسين ولا يندفع للعاطفية، وهذه عمليات توازن دقيقة. ثم اقرأ العمل باستمرار ولمرات عدة، وقبل ان اصل لاتمام الكتاب اكون قرأت العمل سبعين مرة، وقد يتغير شكل العمل في لحظة الكتابة، وفي مرات كثيرة مزقت فصولاً بأكملها، إما بسبب اهتزاز الشخصية او لانها تبدو من دون لحم ودم، او للتركيز على شخصية جانبية او للتنظير، لا بد ان يكون لدى الكاتب الحزم والبتر. لست خارجة من فراغ، انا خارجة من واقع ثقافي خاص جداً وحين اكتب عن قضايا المرأة اكون ممثلة لقطاع كبير. ليس لك على ما اعرف تجربة سجن او اعتقال ولكن ادبك مليء بهما، هل كان المستوى النفسي والمعنى الواسع للاعتقال وراء هذا الادب؟ - لم انل شرف الاعتقال لكني عشت جميع لحظات العمل الفلسطيني، ليست من بيئة عمالية، وعائلتي لم يدخل احد منها السجن. وليس في عدادها مناضلون، لكني اتيت بأناس اعتقلوا، و"أبو العز" الذي اهديت له رواية "الصبار" كان له الفضل في ادخالي الى تجربة الاعتقال، جلسنا اكثر من 14 شهراً، يومي الاثنين والخميس من كل اسبوع، يحكي لي تفاصيل اربع سنوات اعتقال، فكتبت "الصبار" و"عباد الشمس". ما هو آخر عمل كتبته؟ - "نساء الظل" آخر عمل اقوم بكتابته عن نساء الاقليات في اميركا، اكتبه للحصول على درجة الدكتوراه، واخذت على نفسي الا انشره الا في العربية، قمت بترجمة العمل فبدأت الشخصيات والمشاهد تختلف، تغير كبير يحدث في الرواية، وعندما عشت في الضفة، هناك المشاهد التي كتبتها في اميركا، وقمت باعادة كتابة الرواية، واخذت الشخصيات الروائية، وقمت بعمل ابداعي جديد، على الرغم من انني بقيت عامين اقوم بكتابتها، فعلى الكاتب ان يكون صادقاً وقاسياً مع نفسه، افضل صناعة الافضل. تكتبين ببساطة وتفرطين في استخدام لغة الناس الدارجة وتراوغين، ما هذا التكتيك المقصود؟ - خلفيتي الثقافية ليست بسيطة، عملت من اجل الحصول عليها بكل دمي، الخلفية واضحة، ولماذا اكون غير مدركة للخلفية التي اعيش فيها؟ اختار البساطة، ولغتي بسيطة وسهلة. عندي "الصبار" يقرأها اولاد تسع سنوات، وقرأها سياسيون محنكون متقعرون، و"عباد الشمس" و"حتى "باب الساحة" تصل الى كل انسان، البساطة مطلوبة في الشكل والاداء، ولكن التركيب والتقعيد يكون بالرصد والبحث عن خفايا الشخصية والمشاهد والكواليس التي وراء خشبة الشخصية. هناك مراقبة، واحاول ان امارس الكتابة بأسلوب ماكر، نحن لا نعيش في زمن الخوارق. هل يجب ان اكون متحررة واذهب "في داهية" ولا اصل الى شيء؟ الكاتب الذكي هو كاتب مراوغ بالضرورة واذا لم يراوغ لا يكون كاتباً. بدأت شاعرة في السبعينات، وكتبت حوالي عشرين قصيدة لكنني اكتشفت انني لم اشبع الا بكتابة رواية او قصة لانني احب الشخوص، قبل الشعر بدأت رسامة ارسم الوجوه والتقط الملامح والتعابير الانسانية وبدأت حياتي مع الكلمة الشاعرة، ومن قبلها كانت مع الخط واللون، ولكن هذا لم يرضني ولم يوصلني الى الاسئلة التي في داخلي، لقد تعلمت المجتمع من الروايات.