سماء غائمة جزئيا تتخللها سحب رعدية بعدد من المناطق    المملكة تجدد إدانتها استهداف إسرائيل ل«الأونروا»    "سلمان للإغاثة" يوزع 1.600 سلة غذائية في إقليم شاري باقرمي بجمهورية تشاد    أمير الرياض يفتتح اليوم منتدى الرياض الاقتصادي    «حزم».. نظام سعودي جديد للتعامل مع التهديدات الجوية والسطحية    «السلطنة» في يومها الوطني.. مسيرة بناء تؤطرها «رؤية 2040»    منطقة العجائب    القصبي يفتتح مؤتمر الجودة في عصر التقنيات المتقدمة    1.7 مليون عقد لسيارات مسجلة بوزارة النقل    9% نموا بصفقات الاستحواذ والاندماج بالشرق الأوسط    وزير الدفاع يستعرض العلاقات الثنائية مع سفير الصين    المملكة ونصرة فلسطين ولبنان    عدوان الاحتلال يواصل حصد الأرواح الفلسطينية    حسابات ال «ثريد»    صبي في ال 14 متهم بإحراق غابات نيوجيرسي    الاحتلال يعيد فصول النازية في غزة    الأخضر يكثف تحضيراته للقاء إندونيسيا في تصفيات المونديال    وزير الإعلام اختتم زيارته لبكين.. السعودية والصين.. شراكة راسخة وتعاون مثمر    الأخضر يرفع استعداده لمواجهة إندونيسيا في التصفيات المؤهلة لكأس العالم 2026    محافظ جدة يستقبل قنصل كازاخستان    وزير الحرس الوطني يستقبل وزير الدفاع البريطاني    مع انطلاقة الفصل الثاني.. «التعليم» تشدّد على انضباط المدارس    إحباط 3 محاولات لتهريب 645 ألف حبة محظورة وكميات من «الشبو»    الإجازة ونهايتها بالنسبة للطلاب    قتل 4 من أسرته وهرب.. الأسباب مجهولة !    كل الحب    البوابة السحرية لتكنولوجيا المستقبل    استقبال 127 مشاركة من 41 دولة.. إغلاق التسجيل في ملتقى" الفيديو آرت" الدولي    كونان أوبراين.. يقدم حفل الأوسكار لأول مرة في 2025    يا ليتني لم أقل لها أفٍ أبداً    موافقة خادم الحرمين على استضافة 1000 معتمر من 66 دولة    قلق في بريطانيا: إرهاق.. صداع.. وإسهال.. أعراض فايروس جديد    القاتل الصامت يعيش في مطابخكم.. احذروه    5 أعراض لفطريات الأظافر    هيئة الشورى توافق على تقارير الأداء السنوية لعدد من الجهات الحكومية    الخليج يتغلب على أهلي سداب العماني ويتصدّر مجموعته في "آسيوية اليد"    تبدأ من 35 ريال .. النصر يطرح تذاكر مباراته أمام السد "آسيوياً"    أوربارينا يجهز «سكري القصيم» «محلياً وقارياً»    مكالمة السيتي    «سعود الطبية» تستقبل 750 طفلاً خديجاً    الله عليه أخضر عنيد    أعاصير تضرب المركب الألماني    «القمة غير العادية».. المسار الوضيء    لغز البيتكوين!    المكتشفات الحديثة ما بين التصريح الإعلامي والبحث العلمي    الدرعية.. عاصمة الماضي ومدينة المستقبل !    المملكة تقود المواجهة العالمية لمقاومة مضادات الميكروبات    مجمع الملك سلمان يطلق النسخة الرابعة من «تحدي الإلقاء للأطفال»    شراكة إعلامية سعودية صينية واتفاقيات للتعاون الثنائي    انتظام 30 ألف طالب وطالبة في أكثر من 96 مدرسة تابعة لمكتب التعليم ببيش    خامس أيام كأس نادي الصقور السعودي بحفر الباطن يشهد تنافس وإثارة    وزير الدفاع يلتقي سفير جمهورية الصين الشعبية لدى المملكة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل المندوب الدائم لجمهورية تركيا    محافظ الطائف يلتقي مديرة الحماية الأسرية    اللجنة المشتركة تشيد بتقدم «فيلا الحجر» والشراكة مع جامعة «بانتيون سوربون»    أهم باب للسعادة والتوفيق    بيني وبين زوجي قاب قوسين أو أدنى    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرواية الفلسطينية بعد ستين عاماً على النكبة ... الهجرة والشتات
نشر في الحياة يوم 13 - 05 - 2008

ينجدل تاريخ الرواية الفلسطينية حول بؤرة أساسية تتصل بالشتات وهجرة الفلسطينيين القسرية عن أرضهم بعد اغتصاب فلسطين عام 1948. وعلى رغم أن ثمة روائيين فلسطينيين بدأوا الكتابة قبل ضياع فلسطين، كإسحق موسى الحسيني وإسكندر الخوري البيتجالي ونجاتي صدقي وخليل بيدس وجبرا إبراهيم جبرا، إلا أن الكتابة الروائية الفلسطينية لم تتبلور ثيماتها الأساسية إلا بعد مرور أكثر من عقدين من الزمن على النكبة التي شرّدت أهل فلسطين، ووضعتهم في مواجهة سؤال العيش والوجود والهوية المهددة بالمحو والزوال.
حول سؤال الوجود والهوية انبنت معظم الروايات التي كتبت بعد طرد الفلسطينيين وتشريدهم من بلادهم. ويمكن القول إن الرواية الفلسطينية تستند إلى ثلاثة أسماء أساسية استطاعت أن تبني معماراً روائياً متماسكاً حول سؤال الوجود والهوية: غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي. وإلى هذه اللحظة بقيت أعمال هؤلاء الروائيين الثلاثة غير مُتجاوزة من جانب الروائيين الفلسطينيين الذين بدأوا الكتابة الروائية بعدهم. لقد ظلت روايات غسان كنفاني، بطاقتها التجريبية اللافتة وبحثها في الغنى النوعي للأشكال لتجسيد الأفكار والتجارب، تعبيراً خلاقاً عن الحلم الفلسطيني وابتكار الهوية. ويستطيع القارئ أن يلاحظ كيف أن تجربة غسان الروائية مرت بتحولات جذرية خلال الفترة الزمنية القصيرة التي عاشها 1936 - 1972، وكيف أن هذه التجربة، المدهشة في غزارة الإنتاج والتنويع على الأدوات والتقنيات وأشكال الرواية، استطاعت أن ترسم التحولات التاريخية في التجربة الفلسطينية والقلق والطموحات والأتواق التي انطوى عليها الأفراد الفلسطينيون الذين رسمهم غسان في أعماله بريشة قلقة.
يركز غسان كنفاني، منذ عمله الروائي الأول"رجال في الشمس"1963، على الإشكاليات المصيرية التي صنعت معنى الوجود الفلسطيني، على ما يقيم في جوهر تجربة الفلسطينيين. لقد تنبه إلى رسم المشهد الفلسطيني الواسع من خلال اختيار الشخصيات وإخضاعها لعملية تفحص تفضي في النهاية إلى تشكيل المعنى الذي يحاول الروائي إيصاله إلى القارئ، أي القول إن التجارب الفردية للفلسطينيين محكومة مسبقاً بواقع الفلسطينيين كشعب استؤصل من أرضه وأصبح مستحيلاً على أفراده أن يعيشوا وتتطور حياتهم بمعزل عن اختراق التجربة العامة وتأثيرها المسبق في لحظات عيشهم. ويمكن أن نلحظ التنوع الشكلي في روايات غسان وتطور تجربته من الشكل الفوكنري في"ما تبقى لكم"1966، عبر تعدد الرواة وجعل الأرض شخصية محورية من شخصيات الرواية، إلى رواية الفكرة التي تستخدم الشخصيات بصفتها وسائل سردية لإيصال فكرة محورية معينة. لكن اللافت في تجربة غسان الروائية هو قدرتها على التعبير عن التجربة التاريخية للشعب الفلسطيني، عن عناصر القلق والغنى الداخلي لهذه التجربة.
على أرضية هذا الفهم تلتقي روايته"رجال في الشمس"مع مجمل أعماله القصصية والمسرحية حيث يسفر الفلسطيني عن وجهه الإنساني ويعيد طرح الأسئلة الوجودية الأساسية على نفسه: أسئلة الولادة والموت، والعلاقة بالأرض، والرحلة والمصير المعلق على جسر الأبد. إن رواياته تهتم بتقديم إجابة سردية على الخروج الفلسطيني ومواجهة تهديد الموت، كما في"رجال في الشمس"و?"ما تبقى لكم"على اختلاف ما بين هاتين الروايتين من تجلية لوضع الفلسطيني وشروط استجابته لتهديد الموت. ولعل انشغال غسان بالعثور على أجوبة لأسئلته المؤرقة حول فلسطين دفعه إلى تعميق أسئلته لتصبح سؤال الإنسان المقتلع المنفي المغترب عن شرطه الوجودي، ما جعل عدداً من رواياته تصلح لتكون ذات صبغة إنسانية خالصة، عالمية الهوية بسبب الشحنة الوجودية العميقة التي تنطوي عليها الشخصيات والأحداث.
تقول أعمال غسان، في الظاهر لا على الحقيقة: لا مهرب من القدر. لكنها، وهي تكثف التعبير عن المصير الذي تلوح كارثيته في الأفق، تشدد على ضرورة أن يأخذ الإنسان مصيره بيديه. وهذا هو معنى سؤال أبي الخيزران الشهير في"رجال في الشمس"الذي وجد جوابه في الصفحات الأخيرة من رواية غسان التالية"ما تبقى لكم"التي يدل تركيبها السردي المعقد، برمز الساعة وجعل الأرض من بين الشخصيات الفعلية في الرواية، على رغبة غسان في كتابة أعمال روائية يطلع بعضها من قلب بعض، كما يدل على مواصلته وضع التجربة الفلسطينية في أفقها الإنساني الواسع.
في المقابل ترسخ روايات جبرا إبراهيم جبرا 1920 - 1994 رؤية نخبوية للتاريخ الفلسطيني. بدءاً من"صراخ في ليل طويل"1946، مروراً ب?"صيادون في شارع ضيق"1960 و"السفينة"1969، وصولاً إلى"البحث عن وليد مسعود"1978، يقوم جبرا بتوزيع الكلام على المتكلمين في الرواية من دون إعطاء اهتمام لاختلاف الرؤى والمنظورات بين شخصياته الروائية. إنه يوزع الرؤية نفسها على الشخصيات على رغم محاولته الإيهام بأن ما تعرضه الشخصيات هو رؤى مختلفة للعالم. لكن سيطرة نظرة الكاتب النخبوية للتجربة الإنسانية، وتعملق الشخصية الروائية المركزية في كل رواياته على حساب الشخصيات الأخرى، يكشفان على الدوام الرسالة التي ينوي الكاتب إيصالها إلى القارئ: بالثقافة نستطيع تغيير العالم. وكل ما يصاحب ذلك من تركيز على النضال والتميز الفلسطينيين، في عالم التجارة والاقتصاد، ليس سوى إضافات هامشية إلى الخصيصة الأساسية للشخصيات المركزية في روايات جبرا، أي تمتعها بمعرفة واسعة وخبرة هائلة في المجال الثقافي.
لهذا السبب كانت الشخصيات، التي بناها جبرا في رواياته، من ذلك النوع الذي يتلبث في الذاكرة بسبب اختلاف تلك الشخصيات، وسوبرمانيتها، وادعاءاتها الثقافية التي تسعى إلى تغيير العالم، وتحرير فلسطين، بالسلاح والمقاومة، كما بالفكر.
تقدم رواية"البحث عن وليد مسعود"صورتين لشخصيتها المحورية وليد مسعود: صورة المقاتل الأسطوري الذي ظهر بعد اختفاء، وصورة المبدع الذي يجسد حيوات أخرى وأشخاصاً متباينين بحيث تشكل شخصية وليد صهراً للذوات الأخرى في العمل، وتحويلاً لهذه الذوات إلى ذات متفردة تنمذج الشخصيات الأخرى بجمعها بين تناقضات هذه الشخصيات. وتقوم الرواية على تقنية شائعة الاستخدام، إذ يقوم رواة متعددون برواية تاريخ حياة وليد مسعود، ومن خلال الرواية التي يضطلعون بها يبرزون تشابك حيواتهم مع حياته، وأفكارهم وتأملاتهم مع أفكاره وتأملاته. وهم بذلك يقدمون رؤية مركزية لشخصية إشكالية نموذجية رمزية هي وليد مسعود.
يقوم جبرا، في"البحث عن وليد مسعود"كما في رواياته الأخرى، باختزال الكون الاجتماعي المعقد، بطبقاته المختلفة، إلى شريحة طبقية، ثم يعمل، بالنفخ في هذه الشريحة، على تكثير هذه الشريحة وزيادة تمثيليتها الاجتماعية إلى درجة إخفاء الوجه الفعلي للواقع الاجتماعي وإيهام قارئه بأن شخصيات عمله الروائي تمثل الوجود الاجتماعي بكامله. وهكذا يصبح وليد مسعود هو فلسطين، وهو المجتمع العراقي، لأنه المفكر والمناضل والفقير - الغني والجسد - الروح والشهواني - القديس... إلخ. ليس جمع الأضداد في كيان وليد مسعود تقديماً للكون الإنساني المعقد، بل هو محاولة لخلق شخصية نموذجية تمثل كل شيء وترمز إلى كل شيء. لكن هذه المحاولة الباهرة لخلق أسطورة الفلسطيني الجديد تصطدم بعائق استراتيجي أساسي نابع من الشكل الروائي نفسه: أي من التعددية الصوتية الوهمية التي يعتمدها جبرا. فليس في استطاعة شخصية وليد مسعود الأسطورية ؟ أن تمثل نموذج العربي - الفلسطيني الذي يسكن روح الشعب الفلسطيني والأمة العربية كذلك.
إن البعد الإشكالي في هذه الرواية كامن في قدرتها على إيهامنا بأن اختزالها الكون الاجتماعي في شخص واحد، وجمعها الأضداد في هذا الكائن، هو شيء مشروع ونموذجي. وهذا ما يجعلها تقيم في المساحة الفاصلة بين الأسطورة بقدرتها على الاختزال والتمثيل أيضاً وبين القصة البوليسية التي استعارت"البحث عن وليد مسعود"طرائق التقصي، والبحث والتتبع، منها.
نستنتج مما سبق أن جبرا، بسبب من تركيزه على الشخصية المحورية في أعماله الروائية، يحمّل رواياته شحنة شعرية عالية يطعّم بها سرده، وهو ما يتطابق بالمفهوم الباختيني للرواية مع التشابه في الطبيعة بين الرواية المونولوجية والشعر. ثمة تنافذ مستمر بين الشعر والرواية المونولوجية، لكن اهتمام جبرا بدخلنة العناصر الخارجية، ومن ثم بالتفاصيل واستخدام الشخصيات وعناصر الحبكة للإيهام بتعددية صوتية، يجعلنا نضع أعماله في خانة الروايات التي تشتمل على تعددية صوتية متوارية عن الأنظار، على كِسر من منظورات مختلفة للعالم. وعلى رغم أن روايات جبرا تنصرف إلى التشديد على واحدية النسيج الاجتماعي السياسي، وتغلب الرؤية الأيديولوجية للمؤلف على الرؤى الأخرى، إلا أن طبيعة الشكل الروائي ترغم الكاتب على إدخال رؤى مناقضة لرؤيته للعالم، وعلى إفساح المجال لرؤية النسيج الاجتماعي المتعدد أو رؤية الأيديولوجيات وهي تتناقض.
في سياق مغاير تمثل أعمال إميل حبيبي 1921- 1996 تياراً أساسياً في الرواية العربية المعاصرة يتخذ من تهجين الشكل الروائي الأوروبي بعناصر سردية وغير سردية، مجتلبة من التراث العربي والحكايات الشعبية وأشكال السرد الشفوي، وسيلته للخروج من قبضة الشكل السردي الخطي الذي استطاع نجيب محفوظ في ثلاثيته، وعدد آخر من رواياته التي تنتمي إلى الخمسينات من القرن الماضي، أن يعتصره ويقيم منه عمارته الروائية. لكن إميل حبيبي، على قلة ما أنتج من أعمال روائية، استطاع منذ كتب عمله الأول"سداسية الأيام الستة"1969، أن يقيم بناءه الروائي من مواد متنوعة متغايرة وأن يشكل مادته السردية في دوائر متقاطعة: حكاية تجر إلى حكاية بحيث ينسى القارئ الحكاية الأولى وينجرف مع سيل الحكايات التي تذكر بأسلوب ألف ليلة وليلة في الإفضاء بقارئها إلى سلسلة الحكايات التي تؤدي الواحدة منها إلى الأخرى. والمتابع لأعمال إميل حبيبي سيجد أنه لم يتخل، في أي عمل من أعماله، عن أسلوبه الذي بلغ ذروته في"المتشائل"1974 والذي استطاع حبيبي من خلاله شق طريق جديد للرواية العربية. وقد تمثل هذا الأسلوب في إدخال مواد غريبة على السرد الروائي التقليدي وجعلها عناصر أساسية في تشكيل نصه الروائي، إضافة إلى تخليه، بصورة نهائية، عن عنصر الحكاية التي تتنامى عبر السرد لتبلغ نهاية مرسومة محددة. بل إنه على النقيض من ذلك عمل جاهداً، على مدار تجربته الروائية، على التخلي عن الحكاية وعناصر الحبكة التقليدية متيحاً فضاء السرد لأكبر قدر من التعليقات الجانبية والحكايات الصغيرة والتفصيلات الثانوية والتأملات والنجوى الداخلية بحيث أصبحت رواياته قريبة من التيار الروائي الذي يُدعى الآن في أدب ما بعد - الحداثة بالميتا - رواية، أو الرواية التي تتأمل ذاتها.
يقيم عمل إميل حبيبي في الوقت نفسه وشائجَ وصلات قربى مع النثر العربي القديم، وكتب السير والتاريخ وألف ليلة وليلة والمقامات، بحيث تكثر في نصوصه الأشعار المقتبسة والحكايات والمواد التاريخية والطرائف والأمثال في نوع من المحاكاة الساخرة التي تكشف عن المعنى الضمني الثاوي في الحكاية الأصلية التي يفتتح بها نصه الروائي. إنه يعمل، من خلال توسيع دائرة الحكاية، وإيراد تعليقاته عليها، وإغراقها بفيض من الحكايات الموازية والاقتباسات الشعرية والنثرية، على توجيه القارئ إلى أصل الحكاية، إلى معنى التراجيديا الفلسطينية وصراع البقاء الذي خاضته الأقلية الفلسطينية التي بقيت متشبثة بالأرض والوطن بعد كارثة 1948. ويوفر شكل نصه الروائي المبعثر المشتت، الذي يفتقد مركزاً وبؤرة محددين، متسعاً لسرد حكايات كثيرة. وتعيد هذه الحكايات، التي يتناسل بعضها من بعض، تأويل الحكاية الفلسطينية مرة بعد مرة في نوع من السرد العنقودي الذي يتراكب بعضه فوق بعضٍ طبقات.
إن"سعيد أبا النحس المتشائل"يمثل في الرواية الشخصية التي تتصفّى عبرها الأحداث الكابوسية والمصير التراجيدي لشعب انشطر نصفين: شطراً داخل الوطن وشطراً خارجه. والمتشائل، الذي يمزج في نظرته إلى الحياة بين التشاؤم والتفاؤل ويُغلّب نظرة التفاؤل غير المبني على أسس واقعية على التشاؤم، شخصية مركبة كاشفة يميط المؤلف من خلالها اللثام عن تجربة شعب. إنه يعمل على تكوين شبكة سردية معقدة تدور حول شخصية سعيد أبي النحس التي يبدو ظاهرها غير باطنها، ولكن المفارقات اللفظية والموقفية تكشف عن طبيعة ولائها، وتكشف في الوقت نفسه عن كوميديا سوداء يعيشها شعب مشرد على أرضه.
اشتملت روايات إميل حبيبي، بدءاً من"المتشائل"وانتهاء ب"سرايا بنت الغول"1992، على تعددية صوتية فعلية وذلك عبر إدخال حبكات موازية للحبكة الرئيسة في العمل الروائي، ومن خلال استخدام الاقتباسات والتعليق على المشهد، والمحاكاة الساخرة للأحداث والشخصيات. ولا أظن أن هناك روائياً عربياً آخر نجح في استخدام أسلوب التهجين، ومحاولة الخروج من قبضة الشكل الروائي المستعار من الغرب، كما فعل إميل حبيبي. إن تجربته الروائية، التي كُتب عنها الكثير، لا تزال بحاجة إلى إعادة نظر في ما يتعلق بالتطويرات الشكلية التي أدخلتها إلى الرواية العربية، وفي ما يتعلق بالتوازيات التي أقامتها بين شخصياتها وشخصيات روائية أخرى في الرواية العالمية، وفي ما استفادته من أشكال السرد العربية التراثية، وما أحدثه ذلك التهجين العجيب من أثر في الشكل الروائي.
انحياز الراوي
ثمة تجربة من بين التجارب الروائية الفلسطينية اللاحقة تستحق الإشارة إليها بصورة خاصة. إن أهمية إنتاج سحر خليفة تكمن في اللحظة التاريخية التي ينطلق منها، وفي طبيعة الأسئلة التي يطرحها هذا الإنتاج على المجتمع والسياسة والتاريخ، وكذلك على الشكل الروائي. ومن هذا الالتصاق الحميم بالأسئلة ذات الطبيعة الأيديولوجية بعامة تتكوّن أعمال سحر الروائية"الصبار"1976 و?"عباد الشمس"1980، و?"باب الساحة"1990، و?"الميراث"1997، و?"صورة وأيقونة وعهد قديم"2002، و?"ربيع حار"2005. لكن ما يجب التنبيه إليه هو أن هناك دائماً في عمل سحر خليفة ثنائية أيديولوجية متجادلة حول الصراع في الأرض المحتلة ودور المرأة في هذا الصراع، وطبيعة العلائق القائمة بين المرأة، بصفتها طرفاً مهدر الحقوق، والبنية الاجتماعية - السياسية المتشكلة على أرضية الاحتلال. هذا هو مشروع سحر خليفة الروائي الذي يفصح عن نفسه دائماً في خطاب أيديولوجي"تحريري"للمرأة، عادة ما تنطق به شخصية نسائية مركزية في أي رواية من روايات الكاتبة.
لعل هذا الخطاب هو الذي يلحم اعمالها جميعاً بدءاً من"لم نعد جواري لكم"1974 و انتهاء ب?"ربيع حار"، مما يعني أن قارئ رواياتها لن يغفل عن القيمة الأساسية التي يتشكل حولها هاجس السرد والمادة الحوارية في أي عمل. ولو أخذنا عملها"باب الساحة"، مثالاً لا حصراً، على رغم أنه من الأعمال المميزة في منجز الروائية الفلسطينية التي كرست حضور المرأة الكاتبة في عالم السرد الروائي، فسنجد أن سحر خليفة تصور الانتفاضة الأولى من خلال عيون هامشية وهذا ما يسجل لسحر خليفة في رواياتها حيث نعثر على تعددية صوتية لافتة وبروز للأصوات الهامشية بصورة لا نصادفها على الإطلاق لدى أي روائي فلسطيني آخر، من خلال امرأة تقليدية وفتاة جامعية وابنة هوى. وتتكون نواة المادة السردية من سلسلة من الأحداث المتتابعة في زمن الانتفاضة. إن الشخصيات في"باب الساحة"هي وسائل وأرضيات للانطلاق والتشديد على الثنائية الأيديولوجية"رجل - امرأة"التي تحضر دائماً في روايات الكاتبة، وإن كانت مدرجة بصورة أكثر إقناعاً في"الصبار"و?"عباد الشمس".
يدلل التركيز على الأطروحة الأيديولوجية النسوية أن سحر خليفة قد همشت خطاب الشخصية الذكورية الوحيدة في الرواية. ويبدو إدراج حسام في الرواية مناسبة لفحص الخطاب النسوي المتطرف الذي تحمله فتاة الهوى"نزهة"، أو بالأحرى نوعاً من التحفيز الخاص لثورتها الصاخبة على المجتمع والوطن. إن المشروع الأيديولوجي لسحر خليفة لا يكتمل إلا بالسكوت عن ردود فعل حسام على خطاب نزهة. لقد بنت الروائية أطروحتها حول خطاب الفتاة الجامعية سمر التي تؤمن بالتغير من خلال فعل الانتفاضة، وكانت نزهة مجرد نسخة متطرفة من الخطاب النسوي أرادت الكاتبة من خلالها إيجاد معادلة بين الخطاب النسوي والخطاب التقليدي للمجتمع.
ما يحسب لرواية"باب الساحة"وروايات سحر خليفة الأخرى هو التعددية الصوتية واللفظية فيها، وإدخال الخطاب التجديفي والنكات والألفاظ السوقية، في إشارة واضحة إلى تعددية النسيج الاجتماعي في عالمها الروائي. إنها تجعل الرواية مناسبة لنقل أصوات الآخرين والتعرف على خطاباتهم. لكن المشكلة الأساسية التي تعانيها كتابة سحر الروائية هي انحياز الراوي على الدوام إلى جانب الشخصية الروائية التي تحمل خطاباً نسوياً فاقعاً أحياناً بصورة لا تبررها البنية الروائية.
مسارات جديدة
لا يمكن القول إن الروائيين الفلسطينيين الذين جاؤوا بعد غسان وجبرا وإميل لم ينجزوا أعمالاً روائية لافتة، بل يعني أن الإنجاز الروائي لهؤلاء لم يكن، في مجموعه، بحجم إنجاز هؤلاء الروائيين الثلاثة. إن غلبة الشعار على الاهتمام بتطوير الشكل الروائي، والاستفادة من إنجازاته العربية والعالمية، قد جعلت الإنجاز الروائي الفلسطيني اللاحق يراوح مكانه من التجربة الروائية العربية. ومع ذلك، ثمة تجارب روائية فلسطينية عدة حاولت أن تلتقط اللحظات التاريخية المتعاقبة للمسألة الفلسطينية، في محطاتها المختلفة وتحولاتها العنيفة الصاخبة، واحتكاكها الدموي بالجغرافيا العربية حول فلسطين"أقصد بما سبق الإشارة إلى كتابة الروائيين الفلسطينيين أعمالاً تصف ما فجرته القضية الفلسطينية من توترات في البلدان العربية المجاورة، والأمكنة التي انتقلت إليها الثورة الفلسطينية خلال الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي.
ضمن هذا السياق تندرج روايات يحيى يخلف"تفاح المجانين"1982، التي تبني أسطورة الفرد الفلسطيني بعد النكبة وتصور زمن الهزيمة، إذ يتحول إلى بطولة فردية مأمولة في خيال صبي مشرد، وفي النوفيللا شاعرية اللغة"تلك المرأة الوردة"1980، حيث يستعيد الروائي زمن صعود الثورة الفلسطينية بعد هزيمة 1967، وكذلك في استعادة فلسطين الضائعة عبر السرد والحكاية في روايتي يحيى يخلف الأخيرتين"بحيرة وراء الريح"1991 و?"ماء السماء"2007. ويمكن أن نعثر على محاولة استعادة فلسطين، وتصوير انتصاراتها ونكساتها، عبر الحكاية في ما كتبه فيصل حوراني في"بير الشوم"1979، ورشاد أبو شاور في"العشاق"1977، و?"البكاء على صدر الحبيب"1974، التي تحكي عن انكسار الثورة بعد أحداث أيلول سبتمبر 1970، و?"شبابيك زينب"1994 التي تحكي عن الانتفاضة الفلسطينية الأولى. كما تتحقق هذه الاستعادة في روايات توفيق فياض في"المجموعة 778"1974، و?"حبيبتي ميليشيا"1976، وليانة بدر في"بوصلة من أجل عباد الشمس"1979 و?"عين المرآة"1991، وفاروق وادي في"رائحة الصيف"1993 و?"عصفور الشمس"2006، وإبراهيم نصر الله في مشروعه الروائي المتعدد الأجزاء الذي سماه"الملهاة الفلسطينية".
يمكن أن نضيف إلى هذه الروايات التي ذكرنا عشرات الروايات الأخرى التي تصور مرحلة من مراحل القضية الفلسطينية، أو تحكي عن فلسطين والثورة بلغة عاطفية مشبوبة، لكننا سنصطدم دوماً بغياب مشروع روائي فلسطيني آخر يضاف إلى المشاريع التي أنجزها أعلام الرواية الفلسطينية الكبار: غسان وجبرا وإميل. ومع أن محاولة تقديم تصور نسوي للقضية الفلسطينية، الذي نعثر عليه في روايات سحر خليفة وإلى حد ما في روايات ليانة بدر، تعبّد مساراً جديداً للكتابة الروائية الفلسطينية، إلا أن تفاوت أعمال هاتين الكاتبتين فنياً، وعدم تطور تجربتيهما في خط صاعد، لا يضيفان إلى التجربة اللافتة لأعلام الرواية الفلسطينية الثلاثة الذين وضعوا الرواية الفلسطينية في الستينات والسبعينات من القرن الماضي في سدة الرواية العربية. الأمر نفسه يمكن قوله في ما يتعلق بعدد من الروائيين، الذين أنجزوا أعمالهم الأساسية في السبعينات وكذلك في الثمانينات، وفي العقدين التاليين كذلك، حيث لم نقرأ منذ تلك السنوات رواية فلسطينية بارزة كبيرة تمكن مقارنتها بروايتي غسان كنفاني"رجال في الشمس"و?"ما تبقى لكم"، و?"المتشائل"لإميل حبيبي، و?"البحث عن وليد مسعود"لجبرا إبراهيم جبرا. وهذا يعني أن الرواية الفلسطينية لم تواصل مسيرة الصعود التي حققتها على أيدي غسان وإميل وجبرا، مع تقديرنا للجهود الروائية لعشرات من الروائيين الفلسطينيين الذين كتبوا ولا يزالون إلى هذه اللحظة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.