في كل مرة تشتد الضغوطات على الاسواق المالية وتتلازم مع غموض في السياسات النقدية المتبعة، يركن المسؤولون في الدول الصناعية الى المعالجات الجزئية لاستيعات النتائج السلبية لهذه التقلبات. ويتضح في كل مرة أن الولاياتالمتحدة تخرج "منتصرة" في المواجهات المالية والاقتصادية ضد "حلفائها" الصناعيين في اوروبا واليابان. ويرى المراقبون انه على رغم الاجتماعات الدورية لمجموعة الدول الصناعية السبع والمعروفة باسم "ج 7" لتنسيق السياسات المالية والاقتصادية تبقى القرارات المالية للادارة الاميركية مرتكزة على مصالحها القومية او حتى الانتخابية من دون الاخذ بالاعتبار التعقيدات التي من الممكن أن يواجهها شركاؤها في البلدان الصناعية بسبب هذه الممارسات. واللافت للانتباه ان الازمة النقدية الاخيرة بدأت بين الولاياتالمتحدة من جهة وبين حلفائها الصناعيين من جهة ثانية، ثم تحولت الى خلافات بين الاوروبيين أنفسهم مهددة التضامن في نظامهم النقدي، في وقت كانت تحبس اوروبا انفاسها ترقباً لنتيجة الاستفتاء الفرنسي على معاهدة "ماستريخت" وهي نتيجة قالت "نعم" للمعاهدة إنما بأغلبية ضئيلة جداً. كيف بدأت الازمة؟ في سياق السياسة التي وضعتها ادارة الرئيس بوش لتنشيط الاقتصاد الاميركي على أبواب الانتخابات، قامت السلطات النقدية الفيدرالية بتخفيض تدريجي للفائدة على الدولار لتصل الى 3 في المئة. وللمرة الرابعة والعشرين على التوالي منذ عام 1989 عمد البنك المركزي الاميركي الاسبوع الماضي الى خفض سعر الفائدة على الاموال الاتحادية الى 3 في المئة، وهو أدنى معدل له منذ 29 عاماً، بعد اعلان وزارة العمل الاميركية ان عدد العاطلين عن العمل في الولاياتالمتحدة ارتفع بواقع 83 ألفاً في آب اغسطس الماضي. وكان سعر الفائدة على الاموال الاتحادية قبل ثلاث سنوات، عندما بدأت عمليات التخفيض، 75،9 في المئة. ويستخدم البنك المركزي الاميركي أداتين لتحريك الاقتصاد، أحداهما خفض سعر الفائدة على الاموال الاتحادية، والاخرى خفض سعر الخصم. ويعتبر تخفيض الفائدة على الاموال الاتحادية أقل حرجاً للاسواق المالية العالمية من خفض سعر الخصم والذي سبق أن تم خفضه هو ايضاً في تموز يوليو الماضي الى ثلاثة في المئة وتسبب بأزمة كبيرة للدولار الاميركي امام العملات الاوروبية. ان الهرب امام الدولار واللجوء الى العملات الاوروبية ليس متوازناً بين جميع هذه العملات، فالمارك الالماني مثلاً يستقطب اكثرية المودعين، خصوصاً ان الفوائد الالمانية مرتفعة نسبياً نحو 9 في المئة. ويولد هذا الاقبال ضغوطات على العملات الضعيفة الباقية في نظام النقد الاوروبي، وتحديداً اللير الايطالي والجنيه الاسترليني والبيزتا الاسبانية. وتتعهد المصارف المركزية في البلدان الاوروبية بالدفاع عن العملات المرتبطة بنظام النقد الاوروبي منعاً للتقلبات الحادة في ما بينها فتعمد الى شراء العملات التي تشتد عليها الضغوطات وتحاول خفض الفوائد على العملات القوية. وقد تمكنت هذه المصارف، بشكل عام، منذ سنوات عدة من الحفاظ على هذا النظام، باستثناء بعض الخروقات الطفيفة. لكن الازمة الحالية اجبرت السلطات النقدية في كل من بريطانيا وإيطاليا على الخروج من هذا النظام لتلافي المزيد من الضغوطات واستنزاف الطاقات، في محاولات يائسة للدفاع عن عملتيهما. وجاءت هذه الخطوة على رغم ان السلطات الايطالية رفعت الفوائد القصيرة الاجل الى حوالي 25 في المئة وعمدت الى تخفيض قيمة اللير بنسبة 7 في المئة مقابل باقي العملات الاوروبية. ومن جهتها اضطرت بريطانيا الى الاستدانة وبيع اكثر من 14 مليار دولار اميركي في اسبوع واحد للدفاع عبثاً عن الجنيه الاسترليني. ويترجم فك الارتباط الموقت بين الجنيه ونظام النقد الاوروبي بخيبة امل كبيرة لرئيس الوزراء البريطاني الذي تعهد بالدفاع عن الجنيه لابقائه على مستوياته الحالية داخل هذا النظام، على رغم المعارضة الحادة التي واجهته داخل صفوف حزب المحافظين، حيث ارتفعت اصوات تدعو الى عدم الدخول في هذا النظام قبل ترتيب وضع البيت البريطاني من الناحية الاقتصادية. وتبريراً لهذا الفشل انتقد وزير الخزانة البريطاني بشدة حكومة بون واعتبرها مسؤولة عن الازمة الحالية باصرارها على ابقاء الفوائد على المارك على مستويات عالية على رغم الضغوطات التي تتعرض لها السوق المالية الاوروبية. وتتمسك السلطات المالية الالمانية بالفوائد العالية خوفاً من تسريع معدلات التضخم تحت وطأة العجز الهائل في الموازنة العامة الناتج اصلاً عن كلفة دمج المانياالشرقيةبالمانيا الاتحادية. وباعتراف المستشار الالماني هلموت كول اخيراً امام البرلمان الالماني، فان المانيا تعاني حالياً ازمة صعبة اقتصادية ومالية واجتماعية، بعد قيام الوحدة الالمانية وفشل الحكومة الاتحادية في ايجاد حلول سريعة للتركة الثقيلة التي تركها النظام الشيوعي في المانياالشرقية. وقد اخطأ في تقدير مدى الانهيار الحاصل في الشرق وصعوبة وكلفة دمج الالمانيتين بسرعة ومن دون بذل تضحيات كبيرة جداً. ومن الواضح ان الضغوطات التي تتعرض لها العملات الاوروبية الضعيفة مرتبطة اساساً بالنتائج الاقتصادية الهشة في هذه البلدان، اذ لا تكفي السياسات النقدية وحدها، منفردة كانت او مشتركة، لتفادي الازمة، خصوصاً ان المضاربات في الاسواق المالية تزيد الطين بلة وتقود الى انهيار اكبر في اسعار الصرف. ولشرح التطورات يمكننا تبسيط المراحل التي تؤدي الى هذا التدهور السريع والمفاجئ. فعندما يرى العميل المالي ان الضغوطات اشتدت على عملة ما - وهذا ما حصل للجنيه الاسترليني - يتصرف على الشكل الآتي: 1 - يستدين العميل، على سبيل المثال، مليون جنيه استرليني. 2 - يشتري بها فوراً عملات قوية، خصوصاً المارك الالماني. 3 - ينتظر تخفيض قيمة الجنيه والذي ستعجل به حتماً هذه العمليات. 4 - يعود ويبيع هذه العملات مقابل جنيه استرليني. 5 - يرد الدين والفوائد المترتبة عليه ويحتفظ بالارباح المحققة من فروقات القطع. وفي محاولة لصد مثل هذه الممارسات عمدت السلطات النقدية في السويد اخيراً الى رفع الفائدة القصيرة الاجل الى 500 في المئة، بعد ان تعرض الكورون السويدي الى مضاربات قوية. فارتفاع الفائدة من شأنه ان يحرم العملاء من تحقيق الارباح لأنه يمنعهم من المضاربات عن طريق الاستدانة. لكن هذا الدواء العجيب ترفضه بقية الدول بسبب الاعباء التي يتركها على الاعمال والحياة الاقتصادية وهو يهدد بالاختناق الكثير من الشركات والافراد. وقد استفاد الدولار الاميركي من هذه الخلافات الاوروبية ليحقق بعض الارباح ويعود الى مستويات كان افتقدها منذ اشهر. وانعكس هذا التحسن بانفراجات في العواصم الخليجية حيث تنعكس تقلبات الدولار الاميركي بشكل مباشر على عائدات البلدان العربية المنتجة للنفط. ويترجم كل انخفاض في العملة الاميركية انخفاضاً مماثلاً في مداخيل هذه البلدان في حين ان ارتفاع قيمة النقد الاميركي يزيد هذه العائدات بالنسبة نفسها. والمعلوم ان البلدان العربية المصدرة للنفط تستند الى الدولار الاميركي لتحديد اسعار نفطها ومشتقاته، وقد حاولت في الماضي مع شركائها الآخرين داخل منظمة البلدان المصدرة للنفط "اوبيك" التخلي عن النقد الاميركي واستبداله بسلة عملات عالمية تلافياً للأضرار الناتجة عن التقلبات الحادة للدولار الاميركي، لكن هذه المحاولات لم تنجح وبقي الدولار عملة التداول النفطية الوحيدة. والى جانب تدني او ارتفاع المداخيل النفطية الناتجة عن تذبذب اسعار الدولار يجب زيادة الخسائر او الارباح التي تتركها تقلبات اسعار الصرف على الفوائض النفطية المتراكمة في المصارف والاسواق المالية الغربية والمقومة بشكل اساسي بالدولار الاميركي. وكانت الفوائد المدفوعة على هذه الفوائض المتراكمة تراجعت في السنوات الثلاث الماضية بسبب تدهور الفائدة على الدولار الاميركي. من جهة اخرى تربط معظم البلدان العربية المنتجة للنفط عملاتها الداخلية بتقلبات سعر الدولار الاميركي، فيرتفع مثلاً الدينار الكويتي او الريال السعودي مع ارتفاع الدولار الاميركي ويتراجعان مع هبوطه. وإذا كانت هذه البلدان مرتبطة بالدولار بالنسبة لتقلبات الصرف فهي تختلف كلياً بالنسبة الى الفوائد. وللاستفادة من هذه الهوامش في الفوائد عمد بعض العملاء في الاسواق المالية الى توظيف قسم من مدخراتهم بالريال السعودي والدينار الكويتي خصوصاً للاستفادة من الفوائد المرتفعة المدفوعة على العملة الكويتية مع ابقاء اموالهم مرتبطة بشكل غير مباشر بسعر صرف الدولار. وعلى صعيد المستوردات يترجم التراجع بسعر صرف الدولار ارتفاعاً في اسعار المواد الاستهلاكية المستوردة من البلدان الاوروبية والآسيوية، وهي تشكل الجزء الاكبر من واردات البلدان العربية النفطية. الا ان هذا التقويم يختلف بالنسبة الى البلدان العربية غير المنتجة للنفط وسائر البلدان النامية، خصوصاً البلدان ذات المديونية العالية مثل البرازيل والمكسيك وفنزويلا ومصر والمغرب. وقد قدرت منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي ديون العالم الثالث بحوالي 1480 مليار دولار في نهاية عام 1991. فتراجع الفوائد على الدولار وقيمة صرفه ينتج عنهما تخفيف عبء الديون المتراكمة على هذه البلدان. ويسهل هذا التراجع عمليات جدولة الديون المتبعة في السنوات الاخيرة في اطار نادي باريس، الذي يضم الدول الغربية الدائنة، وفي اطار نادي لندن، الذي يضم المصارف الغربية الدائنة للبلدان النامية. في ضوء التطورات الاخيرة يرى الخبراء الماليون ان الاسواق المالية ستشهد في الاسابيع المقبلة بعض الانفراجات، باعتبار ان الارتفاع المفاجئ للدولار الاميركي في الفترة الاخيرة يعتبر تصحيحاً تقنياً بعد الانخفاض الحاد الذي حصل منذ تموز يوليو الماضي. ويبدو من الواضح ان الادارة الاميركية لن تقوم بخفض جديد على سعر الفائدة على الدولار بعد المستوى الضئيل الذي وصلت اليه الفوائد المصرفية، خصوصاً ان استراتيجية بعث الثقة بالاقتصاد الاميركي وترسيخ الانتعاش الاقتصادي المتذبذب عن طريق خفض الفوائد استنفدت اغراضها، ومن غير المتوقع ان تحفز الاسواق في المستقبل. ويؤكد مسؤولون مصرفيون في الولاياتالمتحدة ان الخفض المتكرر لسعر الفائدة سيقود الى هبوط جديد للدولار، وان المستثمرين لم يعودوا يشعرون بجدوى الاحتفاظ او الاستثمار بالدولار، خصوصاً ان المؤشرات النقدية والاقتصادية الحالية غير مشجعة، وهذا امر مضر بالاقتصاد الاميركي على المدى البعيد. وعلى الصعيد الانتخابي لم تتحسن صورة الرئيس بوش الاقتصادية، وهذا ما اظهره استطلاع واسع للرأي العام اكد ان 7 من كل 10 اميركيين يعتقدون ان الرئيس الاميركي غير قادر على تحسين وضع الاقتصاد الاميركي، في حين ان اكثر من نصفهم يعتقد ان منافسه بيل كلينتون اقدر منه على مواجهة هذه المشكلة. ومع انعقاد اجتماعات صندوق النقد الدولي في واشنطن يرى المراقبون ان الخطوات المقبلة ستتركز على التطورات الآتية: 1 - قدرة الادارة الاميركية على خفض العجز في الموازنة العامة، والذي يفوق سنوياً 300 مليار دولار، عن طريق زيادة الضرائب وخفض الانفاق. ويلتقي المرشحان، الديموقراطي والجمهوري، على ضرورة خفض العجز الاميركي ولكن اياً منهما لم يضع خطة عملية لاجراء هذا الخفض. ومن المتوقع ان يصل العجز في الموازنة الى حوالي 315 مليار دولار في نهاية ايلول سبتمبر الحالي وهو نهاية السنة المالية في الولاياتالمتحدة. ويساوي هذا الرقم القياسي نسبة 6 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي للولايات المتحدة. وينصح الخبراء بتقليص هذا العجز الى 200 مليار دولار في السنوات الخمس المقبلة. 2 - المانيا وايطاليا مدعوتان ايضا الى خفض العجز في الموازنة العامة مما يسمح لهما بتخفيض الفوائد، خصوصاً على المارك الالماني، لتخفيف الضغوطات على العملات الضعيفة في نظام النقد الاوروبي. اما بريطانيا فعليها تخفيض نسب الفوائد وأسعار صرف الجنيه لتنشيط الدورة الاقتصادية. 3 - الاستقرار في سوق العملات مرهون بهوامش الفوائد المحددة من قبل المسؤولين في هذه البلدان وبقدرة البنوك المركزية على التدخل في السوق دعماً لبعض العملات الضعيفة. فاذا بقي هامش الفائدة بين الدولار والمارك بحدود 6 في المئة، كما هو حاصل منذ ثلاثة اشهر تقريباً، فانه من غير المتوقع ان يتحسن سعر صرف الدولار وسيفقد الارباح المسجلة في الايام الاخيرة. والاسابيع التي تفصلنا عن موعد الانتخابات الاميركية في مطلع تشرين الثاني نوفمبر المقبل ستبقي الوضع متأرجحاً بانتظار النتائج والخطوات العملية التي ستتخذها الادارة الاميركية الجديدة، بعد ان تكون تخلصت من عبء الانتخابات.