جلست ساعات ممتعة اقرأ مسرحية للشاعر الفرنسي بول كلوديل، اظن انها مجهولة تماماً لدينا، لأني وجدتها شبه مجهولة لدى الفرنسيين. وإنما دلني عليها ما كتب عنها في الصحف الفرنسية وعن غيرها من العروض التي قدمت هذا العام في مهرجان افينيون المسرحي، وروعي في اختيارها جميعاً ان تسهم في الاحتفالات الاوروبية بحلول الذكرى المئوية الخامسة لنجاح كريستوف كولومبوس - وهو بطل مسرحية كلوديل - في ان يعبر للمرة الاولى في التاريخ ما كان يسمى ببحر الظلمات، أي المحيط الأطلسي الذي كان الجغرافيون الى نهاية العصور الوسطى يظنون انه ينتهي عند حد مجهول ينتهي به العالم الذي تصوره القدماء مسطحات من الأرض تحيط بها المياه. لكن كريستوف كولومبوس كان يعتقد ان الأرض كرة، وان وراء مياه المحيط أرضاً اخرى، وأنه يستطيع أن يصل الى الشرق من دون ان يدور حول افريقيا كما كان يصنع البحارة قبله، وإنما بالاتجاه غرباً، فما دامت الأرض كرة فأي مكان فيها يمكن الوصول اليه في اي اتجاه، يمكن الوصول اليه كذلك في الاتجاه المعاكس. وقد صح ما اعتقده البحار الايطالي الذي نجح في اقناع ايزابيللا ملكة قشتالة الاسبانية بنظريته، بعد ان تعرض لاستجواب عسير شارك فيه الجغرافيون والفلكيون الاسبان المقربون من الكنيسة، فزودته ايزابيللا بثلاث سفن وبعدد من البحارة عبر بهم المحيط، ونزل على شواطئ الأرض التي سميت أميركا الوسطى والجنوبية. هذه الرحلة التاريخية التي وصلت بين قارات الأرض، ونقلت حضارة الغرب وديانته الى العالم الجديد وقعت في شهر آب اغسطس من عام 1492، فلها بالنسبة للعرب دلالة: إن اتفقوا في جانب منها مع الاوروبيين فهم يختلفون عنهم في جانب آخر. لا شك في ان رحلة كولومبوس كانت تعبيراً عن نهضة روحية وعقلية عظيمة خرجت بها الانسانية من ظلام العصور الوسطى، وأخضعت كل موروثاتها للامتحان والمساءلة، وتحولت فيها من موقف الخوف من الطبيعة الى مواجهتها واقتحامها والسيطرة عليها، ليس فقط بفضل ما كانت تملكه من وسائل مادية أصبحت اكثر كفاءة وان ظلت متواضعة الى حد كبير، بل ايضا بفضل ما اصبحت تملكه من شجاعة وثقة في النفس ورغبة عارمة في المعرفة، وإيمان مشتعل بأن المستقبل سيكون اجمل من اي ماض ذهبي. لقد وصلت رحلة كولومبوس بين أجزاء العالم ووحدت بين شعوبه وفتحت الطريق لبناء حضارة ساهم الاوروبيون فيها بالنصيب الأكبر كما شاركت فيها واستفادت منها الأمم جميعاً، وفي مقدمها العرب الذين نقل عنهم الاوروبيون بعض اصول النهضة التي كانت رحلة كولومبوس ثمرة من ثمارها، والذين عادوا في العصور الحديثة ينقلون عن الأوروبيين ما استوعبوه من أسباب اليقظة التي بدأوها في القرن الماضي وان لم يستكملوها حتى الآن. هذه المسيرة التي شاركت فيها الانسانية وانتفعت بمنجزاتها العقلية والمادية لم تخل من مآس فاجعة، اذ يبدو ان البشر لم يكونوا في الماضي على الأقل يستطيعون ان يتقدموا جماعة واحدة، وإنما كانوا يتقدمون بطريق التتابع فريقاً بعد فريق، فالأمم التي كانت في المقدمة تسلّم الشعلة لأمم جديدة تتقدمها، ثم لا يلبث المتقدمون ان يتخلفوا ويتركوا مكانهم لآخرين، وهكذا. والحضارة لا تنتقل، والتفاهم لا يتم بغير آلام ومآس تتمثل في الحروب والغزوات والهجرات وألوان الظلم والبطش والقهر والاستغلال التي عانت منها الشعوب كلها، وبخاصة تلك التي تخلفت او عجزت عن اللحاق بالأقوياء الغالبين. وهذا ما وقع للعرب الذين كانت حضارتهم في الأندلس تلفظ آخر أنفاسها في الوقت الذي بدأ فيه كريستوف كولومبوس رحلته، بل لقد كانت هذه الرحلة في نظر الذين قاموا بها واحتضنوها وموّلوها مرحلة من مراحل الحرب الدينية التي اعلنتها ايزابيللا "الكاثوليكية جداً" ليس فقط للسيطرة على كل اسبانيا، بل أيضاً للسيطرة على اي أرض تستطيع الوصول اليها وتحكمها. هذه الرسالة التي رأت ايزابيللا نفسها مكلفة بأدائها اباحت لها ان تطارد المسلمين واليهود في اسبانيا، وترغمهم على اعتناق المسيحية، وتقدمهم لمحاكم التفتيش، وترسل كريستوف كولومبوس ليكتشف لها فيما وراء بحر الظلمات الارض التي سترسل اليها جيوشها، وتبيد شعوبها، وتنهب ثرواتها، وتفرض عليها الكاثوليكية والثقافة الاسبانية، وتنقل اليها ملايين من الافريقيين تحولوا في العالم الجديد الى عبيد بؤساء قطعوا من جذورهم، وأبعدوا عن أرضهم وثقافتهم وأهليهم ليفلحوا للمستعمرين الاسبان والاوروبيين عامة ممتلكاتهم الجديدة، ويعملوا فيها كما تعمل السوائم تحت ضرب السياط. هكذا اذن تحل الذكرى المئوية الخامسة لرحلة كريستوف كولومبوس فتوقفنا امام هذه المفارقة التي اظن ان العرب من اكثر الشعوب التي تتمزق بين طرفيها المتعاكسين. الاوروبيون عامة لا يرون الا وجهها المجيد الناصع، والهنود الحمر والافريقيون لا يرون الا وجهها القبيح اللاانساني، اما نحن فنستطيع ان نقول - ومعنا الحق - اننا ساهمنا في انجازها ولو بطريق غير مباشر، غير اننا مع هذا نشعر بالألم لأن رحلة كولومبوس اقترنت بغروب شمس حضارتنا، وانسحابنا من التاريخ، ودخولنا في عصور الانحطاط، ونحن في هذا الشعور الملتبس المتصارع نلتقي بالفكرة الأساسية التي راودت الشاعر الفرنسي بول كلوديل وعبر عنها في مسرحيته شبه المجهولة "كتاب كريستوف كولومبوس"، فهو يتساءل فيها: هل كان كولومبوس رسول حضارة ام كان تاجر رقيق؟ هل كان رجلاً من رجال النهضة الاوروبية، ام كان متعصباً متهوساً باحثاً عن الثروة متعطشاً للدماء؟. هذه الاسئلة لا تثيرها شخصية كريستوف كولومبوس وحدها، بل تثيرها الحضارة الاوروبية الحديثة التي لا يجادل احد في ما تنطوي عليه من تناقضات، فهي تقوم على احترام العقل وطلب الحرية وتمجيد الوجود الانساني، لكنها ادت ايضاً الى ابادة شعوب وتدمير ثقافات واغتصاب اوطان وثروات. اعني ان اسئلة الشاعر كلوديل عن شخصية كولومبوس هي في الحقيقة اسئلة موجهة الى الحضارة الغربية كلها، ومن هنا قرر المسؤولون عن مهرجان افينيون المسرحي ان يعرضوا مسرحية كلوديل ضمن برنامج هذا العام ليطرحوا من خلالها هذه الاسئلة الملحة في هذه المرحلة التي يتغير فيها التاريخ، ويتحدث الناس عن نظام عالمي جديد. وسوف أعود من جديد الى المسرحية، لأتحدث عنها هي بالذات.