حين يتحدث المؤرخون عن المستكشف كريستوف كولومبوس، الذي ينسب إليه، عادة"اكتشاف"القارة الأميركية ولو من طريق الخطأ كما تقول الحكاية الشهيرة، يتحدثون عن الأبعاد العملية للمسألة برمتها ويروون حكاية السفن والرحلة واللقاء مع سكان أميركا الأصليين وما إلى ذلك، مقدمين كولومبوس على صورته المعهودة: رجل مغامرات وضع نفسه ومعارفه في خدمة سلطة ملكية كانت تعيش صعودها وبداية علاقاتها بفكرة الاستعمار والمركانتيلية التجارية، على الصعيد العالمي العولمة منذ ذلك الوقت المبكر على الأرجح!. ولكن حين يكتب بول كلوديل عن كريستوف كولومبوس، تتبدل الأمور في شكل جذري: يصبح الحديث حديثاً روحياً جوانياً، ويصبح علينا أن نتبنى منطق كولومبوس وأسئلته الوجودية القلقة، عما فعل ولماذا فعل ما فعل. مهما يكن من الأمر، فإن كلوديل لم يخترع لكولومبوس هذه الأسئلة وذلك القلق، بل هو استقاهما من سير كثيرة كتبت للمستكشف وتحدثت عن وحدته وآلامه خلال آخر أيام حياته حين انصرف الى العيش في مدينة فالادويد أي بلد الوليد، بحسب التسمية العربية الشهيرة. إذاً، ليس في الأمر اختراع، بل اختيار، إذ في مقابل مؤلفين ركزوا على مادية صنيع كولومبوس، آثر كلوديل أن يركز على الناحية الروحية. ومن هنا، حين قرر الموسيقي الفرنسي داريوس ميلو، أن يلحن أوبرا عن كريستوف كولومبوس، وجد بسرعة أن نص كلوديل هو الأفضل بالنسبة إليه، وعلى الأقل لقدرة الموسيقى على السمو بأي نص مكتوب والتعبير عما فيه من جوانية، أكثر مما يفعل أي فن آخر. وكان كلوديل طبعاً من هذا الرأي. وعلى هذا النحو ولد ذلك العمل الذي يعتبر الأشهر والأقوى بين أعمال ميلو. في الحقيقة ليس"كريستوف كولومبوس"لداريوس ميلو، عملاً أوبرالياً خالصاً، بل هو يتأرجح، في شكل مبتكر، بين الأوبرا التي هي حركة مسرحية دائمة تؤدى من طريق معنيين يتجاورون إنشاداً، وسط ديكورات وأزياء ملائمة والأوراتوريو الذي هو إنشاد، جماعي وفردي، يؤدى والمغنون جامدون في أماكنهم كمن يتلو ما كتب له، ومعروف أن هذا الفن بدأ كنسياً قبل أن يتحول الى فن دنيوي. وكان من الأمور ذات الدلالة أن يختار ميلو لعمله أن يتأرجح بين فنّي الأداء هذين، تعبيراً عن التجابه بين مادية حكاية كولومبوس، من ناحية، وروحيتها من ناحية ثانية، بحسب تقديره على الأقل. والحكاية تتابع الكتاب في رصده، مرحلة بعد مرحلة، سيرة كولومبوس وتفكيره الداخلي حول سيرته تلك، ما يجعل العمل في نهاية الأمر، وكما أشرنا، سرداً للدراما الروحية التي عاشها كولومبوس آخر أيامه، وهو في مدينته يتذكر ما مرّ معه وما عاشه. أما الشكل الذي اتبع هنا فقد جعل من كولومبوس، شاهداً على محاكمة أفعاله، تدور محاكمة التاريخ له، وهو يتفرج عليها في جلسته مثله مثل أي متفرج آخر. لكنه طبعاً"مشاهد متورط"لمصيره الاستثنائي. أما ذكر هذا المصير فيأتي غالباً من طريق فريق الكورس الذي يحكي الحكاية، لكنه ينفعل بها، فيتحرك مؤدياً مشاهد بعينها على عكس ما يحدث في أعمال مشابهة، عادة، حيث لعب الكورس دوراً ثابتاً، فيغني ويروي ويعلق وهو جامد في مكانه. إن الكورس هنا يؤدي تمثيلاً أمام أعيننا ما يرويه إنشاداً. ولم يكن هذا سوى جزء من التجديدات التي أدخلها داريوس ميلو، هنا، على الفن الأوبرالي كله، في شكل حسب له من جانب المؤرخين و الباحثين. أما هو فإنه كان يعرف ? وقال ذلك أكثر من مرة أن النص الأصلي هو الذي دفعه الى كل تلك التجديدات. فالنص سردي، لكنه في الوقت نفسه يحمل قدراً كبيراً من العناصر السيكولوجية والكونية والتأملية. وهو نص، على رغم جذوره المادية كنص يروي حكاية رحلة ومنطق استكشافي تجاري، يحمل الأبعاد الكثيرة التي تدفعه لأن يكون متشظياً."ومثل هذا التجديد في كتابة النص المسرحي، هو الذي يجبر الموسيقي على أن يسلك دروب التجديد بدوره"قال ميلو. ولعل البعد الأهم في هذا كله هو اختيار أسلوب سرد الحكاية من طريق"التراجع الزمني"الفلاش باك كما قد يقول أهل السينما. ولعل السر الرئيس في هذا هو أن العمل قُدِّم في الأصل على شكل ذكرى. فكولومبوس، هنا يتذكر ما حدث له، وهذا ما أعطى السرد حرية كاملة. إذ إن في إمكان الكاتب والموسيقي بالتالي عدم المبالاة بما إذا كان ما يروى لنا هنا صحيحاً تاريخياً أو غير صحيح. المهم كيف ينعكس ذلك كله والاعتقاد به، على نفسية كولومبوس ومراجعته لذاته في آخر سنوات حياته، حين يجد نفسه أمام محكمة، هي محكمة الذات أولاً وأخيراً. ومن هنا تصبح كل الشخصيات الأخرى، بما في ذلك الكورس، جزءاً - أو أجزاء من شخصية كولومبوس نفسه. ويصبح العمل كله، ليس فقط محاكمة للرجل، بل إعادة نظر جذرية في ما فعل. وانطلاقاً من حرية التعبير هذه، يصبح حصول الملحن على حريته في التعبير الموسيقي أمراً منطقياً، بل بديهياً. ولنتذكر هنا أن ميلو لحن هذا العمل عام 1930، حين كانت الموسيقى نفسها تعيش بعض أكثر لحظات تغيرها وتطورها جذرية. كانت تخرج من"كلاسيكية"القرن التاسع عشر الرومنطيقية من دون أن تبارحها تماماً. وكانت تندمج في تجديدات جماعة فيينا البن برغ وفيبرن وشوينبرغ من دون أن تتبناها تماماً، وكانت تكتشف"الجاز"، موسيقى الروح التي أتى بها السود الأميركيون من أفريقيا محملة بروحية وإيقاعات غريبة تماماً، كل هذا، سعى داريوس ميلو الى دمجه في بوتقة ذلك العمل، حتى وإن كان يعرف أن زمن كريستوف كولومبوس، لم يكن يعرف هذا كله... ولكن لا بأس: إن زمن ميلو يعرفه، ويعرفه كذلك زمن إعادة النظر في التاريخ بعيداً من يقين الكتب والدروب الممهدة. انطلاقاً من هذا كله إذاً، أعطى داريوس ميلو لنفسه وهو يشتغل على تلحين"كريستوف كولومبوس"حرية كاملة، حرية التجديد في كل لحظة وفي كل مقطع. فابتكر مشاهد منطوقة، كاللغة المحكية، ولكن وسط غلاف إيقاعي لذيذ، واستخدم أجواء موسيقية شعبية بسيطة الجمل الموسيقية هارمونية الإيقاع. وهو في بعض الأحيان استخدم مشاهد سينمائية تعرض على شاشة في صدر المسرح ولم يكن هذا تجديداً حقيقياً في ذلك الحين، لكنه كان إضافة لافتة الى المسرح التاريخي قدم إسهاماً كبيراً في إضفاء طابع منطقي على سرد كولومبوس لذكرياته في استرجاعه الماضي. وهو بين هذا وذاك، أدخل تعبيرات موسيقية بدت منتمية الى أجمل الألحان الدينية كما صاغها جان ? سيباستيان باخ. بل ان ثمة في بعض المقاطع ما يذكر بأكثر من"فوغا"واحدة لباخ كما في مشهد اليمامة، أو في مشهد إيزابيل وسانتياغو. كل هذا أوجد لهذا العمل تنوعاً أسلوبياً، لم يفت المتفرجين والنقاد ملاحظته والثناء عليه. لكن الثناء الأكبر جاء يومها من الشاعر بول كلوديل، صاحب النص نفسه، إذ أنه وجد في تنوع موسيقى ميلو، ما أرضاه شخصياً، هو الذي كان، بفضل تجواله حول العالم، وحبه الشهير للموسيقى، يتمنى دائماً أن يصار الى مزج الأنواع الموسيقية في بوتقة واحدة. وكان هذا، طبعاً، ما حققه له ميلو في هذا العمل. وداريوس ميلو 1892 - 1974، هو من أكبر موسيقيي القرن العشرين في فرنسا، حتى وإن كان الأقل شهرة بين موسيقيي هذا القرن. وربما يعود هذا الى أنه، على رغم كل ذلك الاندماج في الزمن الذي حققه في"كريستوف كولومبوس"، ظل يعتبر كلاسيكياً، وينتمي بخاصة الى ابتكارات الموسيقى الأوبرالية والأوركسترالية الألمانية كما تجلت خصوصاً لدى فاغنر وريتشارد شتراوس ولربما كان هذا هو السبب الذي جعل أعماله تلقى ترحيباً كبيراً في ألمانيا، قبل أن تلقى ترحيباً في فرنسا، علماً بأن"كريستوف كولومبوس"قدمت عام 1930 في برلين قبل أن تقدم في باريس. ومن أعمال داريوس ميلو الأخرى"بشارة مريم"1912،"ثور فوق السطح"1920،"كرنفال ايكس"1921،"الإنسان ورغبته"1921،"ميديا"1939،"البحار الفقير"1927 وپ"القطار الأزرق"1924. [email protected]