سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
"الوسط" تحاور الامين العام للجامعة العربية . حديث الذكريات الحميمة مع عصمت عبدالمجيد : أردد من وقت لآخر : "أعطني حريتي أطلق يدي" وأؤمن ببيت شوقي :"وما نيل المطالب بالتمني - ولكن تؤخذ الدنيا غلاباً"
قلما تحدث الدكتور عصمت عبدالمجيد الامين العام لجامعة الدول العربية ووزير الخارجية المصري السابق، عن اموره الخاصة وهواياته واهتماماته الثقافية والفنية، وعن ذكرياته، والاشخاص الذين أحبهم، والشخصيات العربية والاجنبية التي تأثر بها، وأبيات الشعر التي يحفظها، وعن الجوانب الحميمة المختلفة في شخصيته. هذه المرة خرج عصمت عبدالمجيد عن التقليد وفتح قلبه وعقله لپ"الوسط" في حوار تناول كل شيء تقريباً، ما عدا الازمات السياسية التي نعيشها اليوم في عالمنا العربي. وفي ما يأتي حوار "الوجه الآخر" مع الدكتور عصمت عبدالمجيد نبدأه بسؤال عن الاسكندريةالمدينة التي ولد فيها: كانت الاسكندرية عام 1945 حاضرة من الحواضر الثقافية والحضارية المهمة في العالم.. هل تتذكر بعض المؤثرات الثقافية التي شكلت قلبك وعملك في هذه الفترة؟ - إن حياة الانسان جزء من تاريخ محافظته، وان تاريخ كل محافظة جزء من تاريخ الوطن الاكبر، وهذا بدوره جزء من تاريخ الانسانية في كفاحها المستمر. ولقد قدر لي في صدر شبابي ان أعاصر فترة من كفاح شعب الاسكندرية، ضد المستعمر الغاصب وضد الفساد، وشهدت تصاعد حركة المد الوطني الساعي الى الاستقلال وإرجاع الحقوق الى اصحابها، ولا انسى معارك والدي للدفاع عن آمال الكادحين في حياة افضل والدفاع عن حقوق اخوانه الموظفين حتى قام بانشاء جمعية تعاون لموظفي الجمارك وأنشأ مستشفى المواساة بالاسكندرية على رغم كل الصعوبات التي واجهته، حتى انه احيل الى المعاش قبل السن القانونية بإحدى عشرة سنة. وتشمل هذه الفترة انتهاء فترة الحرب العالمية الثانية وبداية فترة جديدة من السلام في العالم، وبالنسبة الي شخصياً استهلال ثقافي لدراستي بالخارج، حيث انني كنت ضمن اول بعثة تسافر الى باريس بعد الحرب العالمية لدراسة الدكتوراه في جامعة السوربون، وذلك بعد نجاحي في امتحان وزارة الخارجية عام 1945، وقد حصلت منها على درجة الدكتوراه عن "محكمة الغنائم في مصر" - دراسة مقارنة - وقد شكلت الاسكندرية محورا مؤثرا في حياتي بعراقة ثرائها الثقافي الذي رسخت جذوره منذ ثلاثة وعشرين قرناً اتصالاً بدور اكاديمية الاسكندرية ومكتبتها المشهورة، وبهذا اصبحت الاسكندرية عاصمة العقل للعالم القديم، وتلي ذلك امتزاج الثقافتين الاغريقية والمسيحية، ومنذ الفتح العربي لمصر قامت مساجد الاسكندرية ومعاهدها الاسلامية كمراكز ثقافة عامرة باعلام الدين والفقه والصوفية، في هذا الجو والموقع تبلورت ثقافتي وارتبطت هويتي بمدينة الاسكندرية. تأتي باريس محطة اخرى بعد الاسكندرية، وهي بكل معيار عاصمة حضارية وثقافية اساسية، وما الذي اضافته الى الامين العام؟ - يتشابه موقع باريس الى حد كبير مع موقع الاسكندرية، فكلتاهما تنتمي الى ما يمكن ان نسميه ثقافة البحر المتوسط. وكلتاهما اثرت في شخصيتي. فالاسكندرية تبلورت فيها ملامح شخصيتي الاولى، وباريس كانت اول عاصمة اوروبية اسافر اليها حيث درست بجامعة السوربون هناك وحصلت على درجة الدكتوراه، وعملت في سفارتنا وقُدر لي فيها ان اقترب من شخصية فذة في التاريخ وهي شخصية الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول. وهكذا كما ترى فان الاسكندريةوباريس اضافتا الى شخصيتي الكثير من المبادئ والقيم وعدم التسرع في ابداء الاحكام وانما التريث والحسم في المواقف التي نتعامل معها. عودة الى الاسكندرية، الم تتأثر في فترتك التكوينية بثقافة وسلوك الاقليات المنتشرة هناك في الاربعينات من يونان وأرمن وغيرهم؟ - لم اتصل بهذه الاقليات ولكنني كنت اشعر مع غيري بوطأة وجودها، وكان وجودهم دافعاً مستمراً لنا الى المطالبة بزوال الطابع الاجنبي عن مدينتنا. صحيح اننا تعرفنا على مظاهر ثقافية كثيرة، من خلال وجود الجاليات والاقليات الاجنبية وقرأنا اشعار كافكيس اليوناني عاشق الاسكندرية، الا ان انغلاق هذه الاقليات على نفسها من جهة، واقتران وجودهم في اذهاننا بالمطالبة بالاستقلال والحرية جعل تأثيرهم علينا محدوداً للغاية. أين عملت كمحام بعد تخرجك من كلية الحقوق في جامعة الاسكندرية؟ - في قلم قضايا الحكومة لمدة سنتين، وعينوني في قسم القضاء المختلط لاجادتي اللغة الفرنسية، وكنت اكلف كمبتدئ بتقديم بعض الآراء والفتوى، وحضرت بعض قضايا التعويض المرفوعة على الحكومة وبعض الجنح البسيطة، ثم سافرت الى باريس لاكمال دراستي. التأثير الفرنسي أكبر من الانكليزي أشرت الى الجنرال ديغول، وواضح ان لديك انطباعاً عميقاً عن هذه الشخصية، هل تذكر شيئاً عن لقاءات تمت بينك وبينه؟ - ديغول بالنسبة الي معنى كبير يمثل كفاحاً لقائد في بلاده، على رغم محاولات تجاهله، او عزله حتى من اصدقائه القريبين منه، وفي هذا بُعد درامي مثير على المستوى الانساني ايضاً، ثم انه اثبت بعد نظر سياسياً كبيراً في معالجة مشكلة الجزائر، فجمع بين القدرة وبين الحكمة. كان اول لقاء معه عندما عينت في باريس كوزير مفوض بعد عودة العلاقات المصرية - الفرنسية عام 1963، والتي كانت قطعت ابان العدوان الثلاثي على مصر في 1956، وكنت وقتها قائماً بالاعمال، ودعيت الى مقابلة الرئيس الفرنسي ديغول مع عدد كبير من السفراء والديبلوماسيين، ومر ديغول يصافحهم واحداً واحداً، ولما اعلن مدير مراسم الاليزيه اسمي وانني ممثل لمصر، توقف ديغول، وحملني تحيات وتمنيات للرئيس جمال عبدالناصر، وقد يبدو هذا التصرف وكأنه روتيني او مجرد مجاملة، ولكنه لم يكن كذلك، لانه لم يفعلها مع اي سفير او وزير آخر ممن حضروا حفل الاستقبال هذا. وعندما توفي عبدالناصر العام 1970 ارسل لي شارل ديغول رسالة خطية ما زلت احتفظ بها، تقول سطورها التي خطت بفرنسية انيقة: "إننا وإن كنا لم نلتق.. إلا ان كلانا يعرف الآخر تماما". حين تتكلم عن دور فرنسا السياسي، لا بد ان نتوقف مرة اخرى عند تأثيرها الحضاري والثقافي؟ - هذا التأثير حقيقة لا تناقش، فعلى المستوى الشخصي كنت اشعر ان وجودي مبتعثاً في باريس، هو جزء من رابطة ومسيرة طويلة بين القاهرةوباريس، ثقافياً وحضارياً، تناثرت عليها اسماء نجوم الفكر المصريين امثال رفاعة رافع الطهطاوي ومحمد عبده وطه حسين. التأثير الفرنسي في الفكر والثقافة المصرية اكبر بمراحل من التأثير الانكليزي على رغم مكوث البريطانيين في مصر سبعين سنة. القانون المصري مبني على قانون نابليون وأنا دارس قانون يقدر لهذه الحقيقة قدرها. انخرط رفاعة ومحمد عبده وطه حسين وقت ابتعاثهم الى باريس في جدليات ثقافية وحضارية، فماذا كان نوع المناقشات التي اندمجت فيها في باريس؟ - ذهبت الى باريس وعمري 24 عاماً، وكان اكثر ما اثار اهتمامي من باب الدراسة لا الاقتناع، التعرف على الفكر اليساري، وربما كان وجود زملاء لي في البعثة - يعتنقون هذا الفكر، مثل الدكتور اسماعيل صبري عبدالله الذي اصبح فيما بعد وزيراً للتخطيط في مصر والدكتور لبيب شقير الذي اصبح فيما بعد رئيساً للبرلمان المصري - عاملاً مشجعاً على التعرف على هذا الاتجاه ودراسته ومناقشته. من كان الاكثر تأثيراً فيك يومها من الفرنسيين؟ - كانوا اساتذتي. الا ان تأثيرهم فينا لم يكن منصبا على دفعنا للاشتراك في محاورات ذات طابع ايديولوجي بمقدار ما كان اضافة ثقافية وعلمية لنا، ومن هؤلاء روسو استاذ القانون الدولي، وسيجفريد الذي درسني مادة كانت جديدة على طالب الحقوق مثلي وهي الجغرافيا السياسية. الدراسة في الجامعة الفرنسية كانت خليطاً من العلم والثقافة معاً، وهي في حد ذاتها قائمة على المناقشة العقلية والجدلية لكل شيء، وكنت اجد ذاتي تماماً في استقبال هذا اللون من الجدل المعرفي. بهاء الدين كاتب العمود المفضل ما هو ترتيب الاولويات للأمين العام للجامعة العربية في قراءة المواد غير السياسية في الصحف: الكاريكاتور - المواد الرياضية - المواد الفنية؟ - اذا اردت ترتيباً دقيقاً سيكون في البداية قبل المواد التي ذكرتها صفحات القانون، فكل منا ابن تجربته، وأنا ما زلت ابناً للدراسات القانونية وما اتصل بها، ثم تأتي بعد ذلك المواد الفنية، فالكاريكاتور، فالمواد الرياضية. من هو كاتب العمود الصحافي المفضل لديك؟ - احمد بهاء الدين الذي اتفق على تسميته "جبرتي العصر الحديث"، لقد صاغ بهاء مشكلات مجتمعه العربي، واتصل بالواقع الذي نحياه، وعبر عنه باسلوب مبدع وفكر ناضج. ونحن - حقيقة - نفتقد الآن فكر بهاء وأسلوبه كثيراً… كثيراً. وكذلك احب قراءة مصطفى امين بفكرته اليومية وتعبيره عن مشاعر كل مصري وعربي. اما كتّاب المقال الصحافي فأحب منهم موسى صبري ومكرم محمد احمد. وأذكر انني التقيت موسى صبري للمرة الاولى مصادفة في نيويورك، حين جاء لحضور بعض جلسات الاممالمتحدة وقت عملي مندوباً دائماً لمصر في الأممالمتحدة، ويومها كنت اعد لمناظرة بيني وبين محامية اميركية مشهورة اسمها ريتا هاوتزر حول القضية الفلسطينية ومشكلة الشرق الاوسط، ودعوت موسى لحضور المناظرة، فخرج ليكتب مبهوراً، ومن يومها نمت بيني وبينه علاقة صداقة قوية ومتجددة. في ترتيب الامين العام لأولويات قراءة المواد غير السياسية في الصحف جاء الكاريكاتور في المرتبة الثالثة، ما هي اكثر رسوم الكاريكاتور التي اضحكتك اخيراً؟ - جمال الكاريكاتور ان يتضمن نقداً ورأياً في الصميم، صحيح انه يعبر عن ذلك باستخدام وسيلة السخرية والدعابة والفكاهة، الا ان ما تحتويه الرسوم الساخرة من رأي هو ما يعطيها وزنها وقيمتها لدى القارئ. من هذا، مثلاً ما يبدعه مصطفى حسين من كاريكاتور اسبوعي في جريدة "اخبار اليوم"، تحت عنوان "كفر الهنادوة" ويجري فيه حواراً من طرف واحد بين فلاح الكفر وبين رئيس الوزراء المصري الدكتور عاطف صدقي. في رأيك كيف تعود المسؤولون المصريون على تحمل هذا اللون من النقد الساخر، بمن فيهم رئيس الوزراء، وهم الذين تربوا سياسياً في مناخ اختفى منه النقد، ساخراً كان او غير ساخر؟ - هذه علامة صحية جداً، وأنا شخصياً لا اشعر بأي انزعاج او غضب من رسم كاريكاتوري يتناولني، فسعة الصدر مطلوبة، والنقد مطلوب، شريطة الا يصل الى حد التجريح او الاهانة. وأي مسؤول يكون واهماً اذا تصور ان الافكار الساخرة لرسوم الكاريكاتور لا ترد لدى عموم الناس بمقدار ما ترد عند الرسام ذاته، فليس معنى ان المسؤول يفكر تفكيراً معيناً، ان يكون الآخر المواطن بالضرورة يفكر مثله. وكون المجتمع المصري وصل الى هذه الدرجة من حرية الحوار والنقد، تعد علامة في الطريق السليم. اسعد بها، كما اسعد برسوم الكاريكاتور ذاتها. في مرحلة الكفاح الوطني المصري الاول ضد فساد السراي والانكليز التي نشأت في خضمها وفورانها، ما هو حجم ما احتلته رسوم الكاريكاتور في تشكيل وجدانكم وآرائكم كجيل؟ - بمقدار ما كانت الرقابة على الصحف تسمح قبل الثورة في مصر، وبمقدار ما كانت الاجهزة المتنوعة تسمح، كانت تظهر رسوم كاريكاتور قوية لعبدالسميع وصاروخان تعبر عما يجيش في صدور الناس من مشاعر وأفكار، ولذلك اقول دائماً ان ثورة 23 تموز يوليو لم تكن انقلاباً عسكرياً ولكنها كانت ثورة حقيقية. ولهذا نجحت هذه الثورة، بايجابياتها وسلبياتها، في تغيير مفاهيم المجتمع المصري وصورته، واستقبلها هذا المجتمع بموافقة اجماعية بشرت بها الصحافة قبل وقوعها، سواء بمقال او رأي او كاريكاتور. اثناء اقامتك في باريس للدراسة ثم للعمل الديبلوماسي هل كانت صحيفة "لوكانار اونشينيه" الكاريكاتورية الساخرة على خارطة قراءاتكم؟ - بالطبع، كانت هذه الصحيفة، بالنسبة الي، معادلاً موضوعياً لمجلة "البعكوكة" المصرية الساخرة، ولكن بفارق واحد هو ان نقد "لوكانار اونشينيه" وسخريتها كانا عنيفين للغاية، والاعتياد على قراءة هذه الصحيفة يشترط المعرفة والفهم للعقلية الفرنسية، والاندماج في طريقة تعبير الفرنسيين عن مشاعرهم. لقد وضعت - هنا - حاجزاً بين السخرية والنكتة الفرنسية وبين الآخرين يشترط فهماً للمزاج الفرنسي.. فهل تعتقد ان حاجزاً كهذا يقف امام النكتة المصرية؟ - اطلاقاً، فالنكتة المصرية عالمية بأي مقياس، وقيمتها في تعدد مستوياتها، فهناك من الكاريكاتور المصري كأحد مظاهر النكتة ما يقترب من اسلوب "لوكانار اونشينيه" في سخريتها العنيفة الخشنة مثل "كفر الهناودة" يفترض فهماً للمزاج المصري والظروف المصرية، وهناك غير ذلك اشكال متعددة جداً من التعبير المصري الساخر تتجاوز هذا، ويفهمها اي متلق اجنبي ويقدرها حق قدرها، وقد لاحظت ذلك كثيراً ابان عملي الديبلوماسي واختلاطي بأناس من جنسيات مختلفة. هل تعتقد ان تقبل رئيس الوزراء المصري للسخرية المرسومة هو امر يتعلق بطبيعة التكوين والمزاج الشخصي لعاطف صدقي، ام انه تعبير عن تغيير في شكل المجتمع المصري نفسه؟ - المجتمع تغير، ولا يستطيع احد ان يقف في وجه التاريخ. المتغير هو الثابت الوحيد، وأي شخص يتصور ان كل شيء سيظل على ثباته في العصر الذي نعيشه هو واهم… واهم! ثم تأتي الرياضة في نهاية او ذيل اولوياتكم في قراءة المواد غير السياسية في الصحف، فهل تحتل الرياضة في حياتكم ذيل القائمة ايضاً؟ - بالعكس، فقد كنت من المولعين بممارسة الرياضة، التنس والسباحة بالتحديد، كما احب جداً مشاهدة مباريات كرة القدم. هل تشجع نادياً معيناً؟ - ليس لدي تحيز لناد معين. هل هذا تأثير "الديبلوماسية"؟ - يضحك ابداً، ولكنني احب اللعب الجيد، وأشجع بحماس المنتخب المصري في المباريات الدولية، واعتبر هذه المتابعة لوناً من الوان الترويح عن النفس، يخرجني من ضغط العمل الذي اعيش في أسره. من كان رفيق اللعب المزمن في التنس؟ - بعض اقاربي في الاسكندرية، وزملائي في كلية الحقوق، ومنهم المطرب جلال حرب الذي كان الزميل المزمن في لعبة التنس. "أعطني حريتي…" نصل الى الطرب والمطربين، وإذا كان "الفن يسوس ويحكم جمهورية افلاطون" فما مدى اهتمامك بهذا اللون من الابداع؟ - أحب الموسيقى خصوصاً الاعمال الكلاسيكية الغربية. لمن تحب الاستماع من الموسيقيين الكلاسيكيين؟ - موزار وبيتهوفن. وأتردد ايضاً على دور الاوبرا في مصر او الخارج لمشاهدة العروض الاوبرالية، وأذكر ان اول اتصال لي بهذا اللون من الفنون كان في فرنسا، فقد شاهدت اوبرا عايدة للمرة الاولى في حياتي في باريس. في حديثك عن الموسيقى الكلاسيكية ذكرت نموذجين يمثلان حالتين شعوريتين متناقضتين.. موزار برقته وشقاوته، وبيتهوفن بعنفه وثورته، فهل اعجابك بالاثنين هو جزء من "حشد اجماع الرأي"؟ - الموضوع هنا مختلف، لأن طبيعة المشاعر الانسانية تتأرجح بين العنف والرقة، فهي اكثر الحقائق البشرية نسبية. بداخل كل منا هذه الجملة الموسيقية التي يدندن بها من وقت لآخر.. فاذا اصخنا السمع الى روحك ماذا يتردد داخلها؟ - يضحك "أعطني حريتي أطلق يدي" من اغنية ام كلثوم الشهيرة. تعليمك ومعارفك كانت مزيجاً بين الثقافة العربية والثقافة الغربية، بالضبط مثل موسيقى محمد عبدالوهاب، هل ترى ان "تضفير" الثقافتين في العالم العربي هو مجهود له مستقبل؟ - عبدالوهاب، فريد في بابه، لأن تأثره بالموسيقى الغربية جاء في اطار اكسابها الطابع الشرقي، وهذه مسألة صعبة جداً تحتاج الى موهبة حادة وإحساس مرهف. لقد اقتبس عبدالوهاب من اوبرا عايدة، وظهر هذا الاقتباس في اغنية "كان عهدي عهدك في الهوى" ولكن من يستطيع ان يقول ان هذه الاغنية لم تكن شرقية تخاطب الاحساس والمشاعر الشرقية. الاقتباس ليس جريمة قال لي محمد عبدالوهاب، مرة، انه لا يعتبر الاقتباس جريمة موسيقية فهل توافق؟ - نعم، اوافق. بهذا المعنى هل تعتبر الاقتباس في الفكر الانساني جريمة؟ - اطلاقاً، فلا حدود للعلم او للثقافة والحضارة، ولا يجب ان ننظر الى الابداع الفكري الانساني نظرة عنصرية او نسبغ عليه جنسية من يبدعه! ولكن هذا اللون من التفكير في العالم العربي الذي يضع حدوداً ويحفر خنادق امام الوافد من الثقافة والحضارة الغربية، اصبح تياراً له جذور؟ - نعم… ولكن ليس كل وافد مقبولاً، وليس كل وافد مرفوضاً، هناك لون من الانضباط المطلوب. ولهذا ارقب بالكثير من الاهتمام عناصر ثورة الاتصال التي تنتشر مشاهدها حولنا، والتي تسمح للارسال التلفزيوني، ايا كانت جنسيته، ان يقتحم اي بلد، وأي جهاز استقبال، وهذا ليس رغبة مني في وضع قيود على الحريات، ولكنني رجل شرقي عشت في الغرب طويلاً، وعشت في اميركا وحدها احدى عشرة سنة، ووجدت فيها اشياء عظيمة جداً، ولكنني وجدت ايضا اشياء لا اقبل ان تدخل بيتي او يتأثر بها اولادي. أما وهذا الارسال سيدخل، رغبنا او لم نرغب، فماذا نحن فاعلون؟ - مهمتنا، اذن، ان نحافظ على الاصالة، والتراث، والقيم في عمليات التربية والتنشئة المختلفة في كل المجتمعات العربية. هذه ليست عملية سهلة، بل فيها قدر كبير من الصعوبة والمشقة. وفيها تحدث المواجهة او التضارب بين الاجيال المختلفة. فعندما اتحدث الى شاب في العشرينات من العمر عن الاصالة والتراث، يجب ان اتوقع احتمال ان يقول عني هذا الشاب: انني رجل "دقة قديمة" وغير قادر على التطور، ولهذا فان الحديث الى الجيل الجديد يقتضي من اصحاب الخبرة والحكمة، صبرا وأناة ووعياً بطرق مخاطبة العقلية الجديدة، وانا اعرف ان هناك ممن هو في جيلي او سني، يسعى الى مسايرة الصراعات الجديدة، ايا كان لونها، ركوباً للتيار، ولكن هذا جنوح الى السهل وإغفال للمخاطر الحقيقية التي تنجم عن قبول اي جديد من دون تمحيص او فحص. المعاصرة هي اكتساب الجديد الذي يثريني ولا يغيرني. وأتذكر في هذا السياق مستشرقاً فرنسياً شهيراً اسمه جاك بيرك جمعتني به هو ومكسيم رودنسون معرفة وصداقة اثناء دراستي في باريس، وكان بيرك في احاديثنا، التي تتناول القضية الفلسطينية ومشكلة الشرق الاوسط وقضية الاستعمار والتحرر في العالم العربي، وبالذات موضوع الجزائر، دائم الترديد لمقولة مفادها: "إن على العرب ان يحافظوا على اصالتهم، لأنها هي التي ستمكنهم من النظر الى المستقبل بصورة مطمئنة، وإذا لم يحافظوا على هذه الاصالة فسوف يجرفهم تيار يلغي هويتهم الذاتية تماما"! من، ايضاً، من المفكرين الفرنسيين ترك عندك اثراً في سياق تضفير الحضارتين الغربية والعربية؟ - اندريه مالرو وزير الثقافة في عهد ديغول، والذي التقيته مرات كثيرة، وأرى انه احد عمالقة الفكر في عصرنا، وكان يحمل لمصر وحضارتها القديمة محبة خاصة جداً، حتى انه كان الرجل الوحيد في العالم الذي نجح في الحصول على تأشيرة خروج من مصر للملك توت عنخ آمون، حيث بذل جهداً كبيراً لأخذ موافقة السلطات المصرية على عرض مجموعة الملك توت في باريس. وعاونه في هذا وزير الثقافة المصري في ذلك الوقت 1965 الدكتور ثروت عكاشة، وهو وزير ثقافة رفيع المستوى كثيراً ما دارت بينه وبين مالرو مناقشات فكرية وحضارية خصبة وممتعة. وكذلك كانت امينة متحف اللوفر مدام نوبل كور تبذل جهوداً هائلة في اعداد المكان اللائق لعرض المجموعة الملكية في متحف اللوفر، وهي التي لعبت، من قبل، دوراً كبيراً في انقاذ معابد النوبة، حتى اننا اسميناها في السفارة المصرية "ام سنبل" اشارة الى معابد ابي سنبل. معركة اللغة العربية هل شعرت ان جانبا من عملك السياسي والديبلوماسي يقتضي ان تكون طرفاً في معارك فكرية تمثل فيها الثقافة العربية؟ - هذا جانب مهم للغاية في العمل الديبلوماسي، وقد شاءت الاقدار ان اتولى في وقت من الاوقات ادارة العلاقات الثقافية في وزارة الخارجية فوجدت نفسي طرفاً في موقعة من هذا النوع، وهي معركة تعريب الجزائر، حيث طلب الجزائريون مئات عدة من المدرسين المصريين ليقوموا بعمل اعتبره بطولياً في التعريب ونشر الثقافة العربية في الجزائر. ومن هذه المعارك ايضاً معركة ادخال اللغة العربية في الأممالمتحدة، وكنت مندوباً دائماً لمصر في المنظمة الدولية في العام 1972، وبقيت في هذا المنصب 11 سنة متواصلة، حيث نجحت خلالها في المشاركة بمجهود ديبلوماسي كبير في ان تصبح اللغة العربية لغة رسمية ضمن اللغات المستخدمة في المنظمة الدولية. واعتبر ان نجاحنا في هذه المعركة هو انعكاس لانتصار تشرين الأول اكتوبر 1973. كنت وقتها رئيس المجموعة العربية، ورئيس اللجنة التي ادخلت اللغة العربية الى الأممالمتحدة، وكان منافسنا المانيا التي كانت تحاول ادخال اللغة الالمانية لتصبح اللغة السادسة في المنظمة الدولية، وحاول بعض مؤيديها ان يعجزونا في اللجان الفنية بمطالبتنا بتحمل نفقات ادخال اللغة العربية لمدة ثلاث سنوات، فتحركت بسرعة بين الوفود العربية للحصول على الموافقة، وكان ان احتلت لغة الضاد القناة الوحيدة المتبقية في نيويورك واصبحت لغة رسمية يتردد صداها فوق كل المنابر هناك وفي كل وكالات الاممالمتحدة المتخصصة بعد ذلك. كان محمود رياض يقول عنك انك "خبير في حشد اجماع الرأي"، لكن في مجال الثقافة او الحضارة ربما تكون كل الحقائق نسبية لا تعرف الاجماع، فكيف ترى المعارك الفكرية الكبرى في العالم العربي في ضوء هذه الحقيقة، وأهمها معركة الاصالة والمعاصرة؟ - اذا كانت الاصالة تعني الحضارة ودورها في خلق وبلورة النظام الاجتماعي القوي الذي يخدم ويرعى مصالح الدولة في سياستها الخارجية، فان ارتباط الاصالة بالمعاصرة كفيل بأن يحقق للدولة مكانة دولية مرموقة، ويحقق لسياستها الداخلية الاستقرار والانتماء، وأي محاولة لعزل هذين العنصرين عن بعضهما البعض يؤثر بالسلب في حركة المجتمع وتطوره ومتانة العلاقات الدولية في المجال الخارجي، وبناء على ذلك فان كل المعارك الفكرية الكبرى في العالم العربي تضع نصب عينيها هذه الحقائق الثابتة، ولا تحاول ان تتجاوزها او ان تعزلها عن بعضها البعض. قد تثور مناقشات واجتهادات ولكنها في النهاية تعترف بالارتباط القوي والمتين بين الاصالة والمعاصرة. فكل واحدة تثري الاخرى. هل شعرت اثناء عملك كوزير لخارجية مصر ان القوة الثقافية والحضارية لمصر تعوض نقص عنصر القوة الاقتصادية بالنسبة لعناصر القوة السياسية للدولة؟ - ان الاشعاع الفكري والثقافي عنصر مهم من مقومات مصر ويحظى في العالم اجمع بتقدير خاص يساعد العمل الديبلوماسي ويعد جزءاً رئيسياً من تحركه ويضع قضية التنمية بأبعادها المختلفة في قلب هذا المفهوم. في الأربعينات والخمسينات كانت المعرفة السياسية والمعرفة الثقافية او الفنية ضفيرة واحدة في مصر، ونادراً ما كان يظهر سياسي غير ملم او محب للآداب الرفيعة او الموسيقى. فهل اختلف الامر الآن، ولماذا؟ - لم يختلف الأمر الآن، ولكن الذي اختلف هو اسلوب الالمام بها، ودعنا نؤكد حقيقة مهمة وهي انه في الاربعينات والخمسينات من هذا القرن كانت "الرومانسية" السمة السائدة في هذه الحقبة من التاريخ لاعتبارات كثيرة، منها ان وسائل الاتصالات السريعة لم تكن متوافرة، كما ان الثورة الاعلامية لم تكن وصلت الى ما نراه اليوم. وانكب الكثيرون في هذه الحقبة على التهام كل ما يقع تحت ايديهم من كتب المعرفة والثقافة والتعرف على انواع الفنون الكثيرة. والآن اصبحت الكرة الارضية بمثابة الحي الصغير الذي لا يخفي على سكانه اي شيء مما يجري في محيطهم، وتحول العالم المعاصر المترامي الاطراف بواسطة العلم والتكنولوجيا بفضل التلفزيون الى قرية اتصالية صغيرة، الفرق هنا ان كل شخص وجد ان الكمبيوتر يستطيع ان يحقق له كل ما يريده من دون تعب او اجتهاد شخصي منه. المعلومة يجدها امامه، حتى الموسيقى التي يحبها او يرغبها أصبحت في متناول يده. هل كنت ترغب في زمن الدراسة بالعمل في سلك السياسة؟ - ربما كانت رغبتي الاولى وقت الدراسة ان اعمل في القضاء اكثر من السياسة، تأثراً بهذه النزعة الرومانسية التي تحلم بالعدل وبالحرية. كنا نحلم بالاستقلال ونعيش غمار احداث الوطن وقتها بمشاعر كاملة. ما هي نوعية الكتب الادبية التي كنت تحب قراءتها في فترة الشباب؟ - اعمال اميل زولا. ولكن واقعية زولا تصطدم بطبيعة جيلك وعصرك الرومانسي؟ - لقد فرض الوطن على جيلي ان يكون واقعياً على رغم رومانسيته، وان يكون همنا الاكبر هو مقاومة فساد السراي والمطالبة بجلاء الانكليز. وصلا بفكرة الرومانسية، ما هو بيت الشعر الذي تؤمن به؟ - بيت شوقي: "وما نيل المطالب بالتمني - ولكن تؤخذ الدنيا غلابا"! هل هي تؤخذ غلابا فعلاً؟ - ليس بطريقة حرفية او مطلقة، فلا بد لأي عمل سياسي من تخطيط ومثابرة وعناء ومناورة - وليس كذباً - وقد يقول لي قائل: ان هذا ينطبق ايضا على ما هو عمل عسكري، ولكنني اقول ان الجانبين يكملان بعضهما البعض، وربما يمنع العمل الديبلوماسي حدوث عمل عسكري! ماذا تعني هذه الاسماء في ذهن وروح الامين العام للجامعة العربية وما نوع تأثيرها عليه: طه حسين، محمود مختار، محمد عبدالوهاب، عباس العقاد؟ - طه حسين: رائد حركة التنوير والتجديد في مجال الفكر والثقافة. محمود مختار: نهضة مصر وإبداعها الفني. محمد عبدالوهاب: عملاق الفن والغناء. عباس محمود العقاد: العبقريات وأثرها في تكوين الشخصية المرتبطة بجذورها العربية الاصيلة واسهاماته في حركة النهضة الوطنية. ربما ان طبيعة الامين العام طوال مراحل حياته حالت بينه وبين متابعة النمو العقلي والفكري لابنائه بشكل كبير.. هل يجد صعوبة ما في التواصل مع اهتماماتهم من ذلك النوع الذي ينشأ بين الاجيال المختلفة؟ - بالنسبة الي فان تماسك الاسرة القائم على الاخلاق والقيم والحب والاحترام، والذي يعد من التقاليد المصرية العريقة التي توارثناها اباً عن جد هو احد الجوانب التي اتمسك بها. من هنا فانني دائماً اولي الاسرة اهمية كبيرة من حياتي، وأحاول قدر استطاعتي ان يكون الاتصال والتواصل الفكري بيننا بطريقة مثلى. عصمت عبدالمجيد ولد عصمت عبدالمجيد في الاسكندرية ويبلغ اليوم من العمر 68 عاماً. الدكتور احمد عصمت محمد فهمي عبدالمجيد وشهرته الدكتور عصمت عبدالمجيد هو ابن "محمد فهمي عبدالمجيد". وكان والده ضمن مجموعة من ابناء الشعب البسطاء في الاسكندرية الذين انشأوا عام 1910 جمعية خيرية باسم "المواساة". كما كان من بين الذين بدأوا تشييد مستشفى المواساة سنة 1931 ورفض الملك فؤاد حضور احتفال وضع حجر الاساس فألغى محمد فهمي عبدالمجيد الاحتفال وغضب الملك فاروق على محمد فهمي عبدالمجيد بتأثير من علي ماهر. وعندما جاء علي ماهر رئيساً للوزراء الغى وظيفة فهمي وأحاله الى المعاش قبل ان يبلغ السن القانونية بپ11 سنة. ورحل فهمي حزيناً في كانون الثاني يناير 1943، وقرر مصطفى النحاس رئيس الوزراء تعليم اولاد محمد فهمي عبدالمجيد على حساب الحكومة. بدأ عصمت عبدالمجيد حياته محامياً في مجلس الدولة عام 1944 - 1945، ثم عمل مستشاراً سياسياً مسؤولاً عن تنفيذ الاتفاقية البريطانية المصرية 1954 - 1956، ثم ملحقاً وسكرتيراً ثالثاً بسفارة مصر في لندن، ورئيساً لقسم المملكة المتحدة بوزارة الخارجية المصرية حتى 1957، ثم مستشاراً بالبعثة الدائمة لمصر في المقر الاوروبي للأمم المتحدة بجنيف 1957 - 1961. وفي عام 1961 - 1962 شغل منصب نائب مدير الادارة القانونية في وزارة الخارجية، ثم وزيراً مفوضاً في السفارة المصرية بباريس حتى نكسة حزيران يونيو 1967. ومع بداية حرب الاستنزاف عين مديراً لمكتب وكيل وزارة الخارجية في القاهرة ثم اميناً عاماًً للجنة الوزارية العليا للعلاقات الثقافية والتعاون الفني لمصر، ثم مديراً للادارة الثقافية والتعاون الفني بوزارة الخارجية، ثم رئيساً للهيئة العامة للاستعلامات ومتحدثاً باسم الحكومة المصرية بدرجة نائب وزير عام 1969، وفي عام 1970 عين سفيراً لمصر لدى فرنسا، ثم وزيراً للدولة لشؤون مجلس الوزراء 1970 - 1972، ومنذ 1972 حتى 1982 كان مندوباً دائماً لمصر لدى الأممالمتحدة، وهي الفترة التي شهدت انتصارات حرب تشرين الاول اكتوبر وعملية الاعداد لمفاوضات السلام، ومنذ عام 1984 عين وزيراً للخارجية، ثم نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للخارجية. وهو اليوم الامين العام لجامعة الدول العربية. وعلى جانب اخر حصل الدكتور عبدالمجيد على درجة الدكتوراه في القانون الدولي من جامعة السوربون في باريس عام 1951. وقد لعب دوراً مهماً في السياسية المصرية واشترك في الكثير من المفاوضات والاتفاقات التي ابرمت بين مصر وبريطانيا، وهو عضو بارز في الكثير من مجالس ادارات جمعيات القانون، وله دور بارز في اعمال لجان التشريع والشؤون الخارجية والعربية بمجلس الشعب المصري. حاصل على أوسمة عديدة عربية وأجنبية. متزوج وله ثلاثة أولاد.