"كتاب الحيل" الذي نقله الى الفرنسية رينيه خوام، صدرت طبعته السادسة في باريس عن دار فابوس للنشر، وهو انتشار نادر لكتاب من التراث العربي يحتفي به الفرنسيون ويرون فيه ما يتجاوز نظريات ميكيافيللي في علم السياسة. رينيه خوام يمتلئ غبطة بانتشار الكتاب، فكأن ذلك مكافأة معنوية لجهوده في التحقيق والترجمة والتأليف التي بلغت ستين كتاباً: "كتاب الحيل او "عبقرية السياسة" يباع كالخبز، انه مهم جداً، كان العرب يحبون هذا الكتاب الذي لم يُعرف مؤلفه وظهر في مصر في القرن الرابع عشر". "الوسط" التقت رينيه خوام في فرحه بجهوده، وهو يضع الآن لمسات اخيرة على ترجمة وتحقيق "تلبيس ابليس" لابن الجوزي. والحوار مع رينيه خوام يدور حول جهوده في تحقيق وترجمة اعمال تراثية عربية، وبعض الاعمال من عصر النهضة ككتاب "الساق على الساق في ما هو الفارياق" لاحمد فارس الشدياق، الذي يعتبره خوام "رواية" مخالفاً بذلك جميع الآراء. ونبدأ من "كتاب الحيل": ما سبب الاقبال الكبير لقراء الفرنسية على "كتاب الحيل" علماً ان كتاب ميكيافيللي يوازيه الى حد ما؟ - طلب القراء الغربيون كتاب الحيل كثيراً والسبب انهم وجدوا معنى اخر لكلمة "الحيلة" عند العرب، اذ انها تعني بالفرنسية مثلاً "الخيانة والخسّة"، بينما هي علامة ذكاء في معناها العربي المتداول. "الحيلة" تعادل الوسيلة البارعة واللبقة التي تؤدي للوصول الى الهدف المنشود من دون التضحية بحياة الناس. وقد نشرت مجلة "تايم لايف" الاميركية مقاطع من هذا الكتاب في العالم 1991، كما ترجم الى اللغتين الانكليزية والايطالية. الجوك بوكس العربي ألا يحصل خلط بين هذا الكتاب والمخطوطة التي ترجمتها عن "الانسان الآلي" عند العرب، وهو بعنوان "الحيل" ايضاً؟ - كانت الوسائل التي استخدمها العرب من اجل الوصول الى نتيجة ما بواسطة قوى الطبيعة، يُطلق عليها "الحيل". وكان الاخوة الثلاثة اولاد موسى بن شاكر، هم الذين حققوا اجهزة تشبه "الجوك - بوكس" اليوم، في عهد الخليفة المأمون. وذلك من اجل عزف الموسيقى بواسطة الصوت الانساني. وهناك اجهزة اخرى موصوفة في المخطوطات العربية، اخترعت جميعها في عصر المأمون. منها آلة كان يخرج منها عدد من الحيوانات، وبينها السبع، كي تشرب من حوض ماء اصطناعي. وكانت هذه الحيوانات تنتظر حتى يتقدم السبع ويشرب قبلها، ثم تعود الى الآلة التي خرجت منها. مخطوطة "تلبيس ابليس" ستصدر ترجمتها قريباً في باريس. لماذا ترجمت مثل هذه المخطوطة؟ - المؤرخ العربي ابن الجوزي كتب كثيراً من المؤلفات. وهو فقيه حنبلي مات في العام 597 للهجرة. لم يترجم كتابه "تلبيس ابليس" الى الفرنسية بعد. وقد تمسكت بهذه الترجمة لسببين: اولاً لانه يقدم احاديث قديمة معروفة قليلاً، وثانياً لانه يظهر ان الشيطان يستطيع الوصول الى خداع البشر. لكن هناك احاديث تمنح الوسائل التي تحمي من "تلبيسه". الشدياق روائي الجديد في ترجمتك لكتاب "الساق على الساق" لاحمد فارس الشدياق هو تقديمك اياه كرواية. الا يعتبر هذا نوعاً من التصرف في الترجمة وفق مزاجك الادبي؟ - اعتبر كتاب "الساق على الساق" في اساس الحداثة العربية اليوم. ونقله الى الفرنسية هو جزء من دور اقوم به لترجمة التراث العربي الى هذه اللغة. هذا الكتاب الضخم لم يحتل المكانة التي يستحقها منذ 135 عاماً. كان الناشرون العرب حذرين من الوقوع في فخ هذا الكتاب الذي تجول مؤلفه في الشرق والغرب متشرداً ومقيماً بحثاً عن بعض القناعات الفكرية. كان الشدياق يقف على مفترق عالمين في "الساق على الساق": عالم قديم وآخر في طريق الولادة. فحاول ان يجمع بين هذين العالمين. كان حر الفكر والايمان والقول والضمير، وثائراً على التقاليد التي تقف في وجه التقدم، ومتحمساً بصورة خاصة لتجديد اللغة العربية. وقد عمل بكل قواه للدفاع عن هذه اللغة وتحويلها الى لغة عالمية تتفوق على اية لغة اخرى، مع المحافظة على اسرارها وخصائصها الجليلة. بهذه اللغة كتب "رواية الساق". فإذا حذفنا الزوائد الادبية منه، اي الشعر والنقد والحشو اللغوي والمفردات القاموسية العويصة، نقف على فن روائي عند الشدياق لم يكن له مثيل في عصره. ولم يشر احد قبل الى ذلك. ما السبب اذاً في حشو رواية "الساق…" بما لا حاجة لها به؟ - يعود هذا الى ان ناشر الكتاب في ذلك الحين كان احد المحسنين الكبار واسمه روفايل كحلا. كان تاجراً اراد ان يخصص بعض ربحه للتعريف بالاداب العربية. فاستفاد الشدياق من المناسبة وجمع في كتابه "الساق…" كل ما اراد قوله وكان لديه من متفرقات ادبية، وما كان قد حضره من مفردات لغوية لتأليف قاموس يختص بالكلمات العربية النادرة، وزاد عليه القصائد التي كان قد الفها ضد هذا او ذاك، وجميع الرسائل التي وجهها الى الحكام للاحتجاج على تصرفاتهم. حيث اكتشفت العنصر الروائي عند الشدياق، حذفت كل ما يكسف بروز هذا العنصر ووضعته جانباً كي اترجمه مستقلاً في يوم ما. وكتاب "الساق على الساق" يروي حياة مؤلفه الا ان الافكار الرئيسية فيه تركزت على الاحتجاج وارادة الاصلاح. ثار الشدياق على العبودية وخصص جزءاً من روايته للمرأة فقال في هذا الصدد "من اراد القضاء على الخلل الاجتماعي عليه ان ينادي بتعليم النساء". وقال ايضاً، ان اللغة هي التي تصلح. وعلى التحديد لغة المرأة التي تعلم كل الاطفال. المرأة تستطيع ان تنقذ المجتمع من خلله اذا ما اعطيت لها فرصة لتتعلم وتتقن اللغة التي تربي الاجيال بواسطتها. انصب نقد الشدياق في القرن التاسع عشر على المجتمعين الشرقي والغربي. لاحظ ان المرأة الفرنسية هي الاقوى في المجتمع وان الرجل واقع في فخ القوى الاقتصادية والظروف السياسية. هجاء لامارتين اصطدم الشدياق مع بعض ادباء عصره من الغربيين، وهاجمهم، وبينهم لامارتين، ما كان سبب ذلك في رأيك؟ - هناك كبرياء الشدياق واعتزازه بأصوله الشرقية وبثروته الثقافية. لذا فهو لم يهادن من يمس "شعرة" من "قيمة الانسان" في شخصه او شخص سواه. فحين كان في باريس، طلب مقابلة لامارتين الشاعر الفرنسي الذائع الصيت حينئذ. فكان جوابه "من هو هذا البدوي الذي يطلب مقابلتي… أنا لامارتين". طبعاً، رفض مقابلته. فأجابه الشدياق بقصيدة هجائية، ونشرها في كتابه "الساق…". ما كان أثر الندوة التي عقدت في باريس عقب صدور ترجمة "الساق على الساق"؟ - ضمت الندوة اولاً مجموعة من كبار الاساتذة الفرنسيين الذين اعترفوا لاول مرة بعالمية الشدياق الفكرية والادبية والثقافية. فالترجمة التي تحققت على هذا الشكل، بعد مرور 135 عاماً على تأليف الكتاب، استقبلها الاعلام الفرنسي في شكل رائع. واعترف الجميع اثر المناقشة بأن الشدياق دخل مع هذه الترجمة الثروة الفكرية العالمية. اذ كان قد ركز على المجتمع الغربي في الوقت الذي كان كارل ماركس يكتب مؤلفاته في بريطانيا. وفهم بسرعة الخطر القادم من احلال مجتمع استغلالي محل آخر. فهم الشدياق ايضاً ضرورة العودة الى الثقافة وخصوصاً الى اللغة وابراز قيمها الاصيلة. هذا يطبق على الثقافة الغربية، فلماذا لا يطبق على الثقافة العربية؟ ان العمل الادبي العربي الاصيل هو عمل مفتوح وليس عملاً مغلقاً. انه يدفع نحو الخلق لا الانغلاق في سجن الذات. بين ثقافتين بين الثقافتين العربية والفرنسية، أي دور تقوم به على التحديد؟ - اليوم، في الشرق والغرب، نحن في حاجة الى استرجاع مناخ مختلف الحضارات، والعودة الى مبادئ الحياة في المجتمع. ان الشبيبة تريد الاصالة اينما كانت. من هنا يأتي عملي في المخطوطات العربية السيئة الطبع والترجمة، او غير المنشورة او المترجمة. ترجمت، مثلاً، "رسالة الى الفرنسيين" كان كتبها الامير عبدالقادر الجزائري. وفيها يوجه اليهم لوماً وانتقادات لا تزال صالحة اليوم. في تعريفك الغرب بالتراث العربي عن طريق الترجمة، ما كان اهم الاستنتاجات التي توصلت اليها؟ - في الغرب، اما ان تطبع ترجمات فرنسية قديمة وهي مغلوطة حتى لا تدفع للمؤلف الحقوق المفترضة له. او ان يترجم مؤلف ما وفق نظرية مسبقة ويُخان النص الاصلي بذلك. ما يجب اولاً هو التثبت من اصالة النص العربي، ثم ترجمته كما هو بحرفيته، من دون تحويل المؤلف العربي الى انعكاس لتفكير المترجم. لو أعدت النظر في ترجماتك التي حققتها فأيها الاقرب الى نفسك؟ - أنا سعيد بتأديتي خدمة للثقافة العربية. وبين الكتب التي احببت ترجمتها اكثر من سواها، "احاديث وحكم النبي صلى الله عليه وسلم" التي صدرت عن دار ميزونوف لاروس للنشر في باريس مؤخراً. وقد عثرت على المخطوطة العربية لهذه الاحاديث في المكتبة الوطنية في باريس. ومؤلفها محمد القضاعي الذي عاش في القرن الحادي عشر. هذه الاحاديث التي عرفت بها العالم الغربي هي ثمينة جداً لجميع الشعوب التي تتطلع الى حماية الانسان وكرامته. ثم مخطوطة "أقوال العرب عن الحياة الاجتماعية". وهي مخطوطة غير منشورة بالعربية. ومخطوطة "صناعة الساعة المجسمة التي تسير بواسطة الماء"، والتي حققها العرب في جميع المدن الكبرى واتلفها المغول حين اجتاحوا الاصقاع العربية. ما ارجوه اليوم هو اعادة بناء هذه الساعة وفق ما جاء في المخطوطات العربية الموجودة في المتاحف. من تقنيات الساعة المذكورة، خروج انسان آلي من باب خاص فيها عند موعد حلول كل ساعة ليعلن عن الوقت، كما كان يخرج منها نسر ليلقي على قطعة نحاسية مسطحة كمية من الحبوب بعدد الساعات. من الكتب الشخصية التي اعتز بها كتاب "حكايات من لبنان" الذي صدر عن دار أسفار في باريس. هذه الحكايات القادمة من المحيط الشعبي في لبنان تشبه القصص الواردة في مخطوطة الجوبري في القرن الثالث عشر والقرن الرابع عشر. لقد ترجمت قسماً من المخطوطة والباقي في طريق التحقيق. ما مشاريعك المقبلة؟ - سأكون سعيداً اذا تمكنت من اعادة بناء كتاب ابن المقفع عن السلطة والمثقفين، ومغامرات كليلة ودمنة، وترجمة كل ذلك الى الفرنسية. لقد تأثر الادب الفرنسي كثيراً بالثقافة العربية، واظهار هذه العلاقات الثقافية المتبادلة، يعني المساهمة في تبادل ثقافي يؤدي الى تفاهم مشترك. هناك مثل عربي يقول: "كلما تعلمت لغة جديدة اضفت دماغاً الى رأسك". حالياً، اقوم بتحقيق عشر مخطوطات لمؤلف واحد لا استطيع ذكر اسمه، خشية ان تُسرق هذه الاكتشافات الثقافية وتنشر فيما بعد بشكل خاطئ. هناك الكثيرون، وبينهم مستشرقون نشروا مخطوطات من دون تحقيق دقيق. ودوري الآن اعادة الاصالة الى هذه المؤلفات.