في مذكراته "بطاقة خدمة" المنشورة عام 1980 كرس زعيم حزب العمل الاسرائيلي اسحق رابين حيزاً للحديث عن حقده الشخصي على منافسه شيمون بيريز، فاتهمه بپ"التآمر" عليه خلال عهد آخر حكومة عمالية قبل وصول مناحيم بيغن الى رئاسة الحكومة في عام 1977. ولقد فسرت يومها دوائر حزبية عمالية واعلامية اسرائيلية هذا "التآمر" بمحاولة رابين تحميل بيريز مسؤولية فضيحة الرصيد المالي الذي كانت تملكه زوجته لئة رابين في مصرف اميركي عندما كان رابين سفيراً لاسرائيل في واشنطن. ولم تغلقه عقب عودتهما الى اسرائيل خلافاً للقانون الاسرائيلي، وكان الكشف عن هذا الحساب ارغم رابين على تقديم استقالته من رئاسة الحكومة في بداية عام 1977 وحلول بيريز مكانه الذي تمكن ايضاً من انتزاع زعامة حزب العمل من رابين خلال المؤتمر الذي عقده الحزب في اواخر عام 1980 اثر انتقاله للمرة الأولى الى صفوف المعارضة. ومنذ ذلك الحين اتسمت العلاقات بين رابين وبيريز بصراع شخصي وقيادي مرير تخلله تبادل الشتائم والاهانات، خلال حملات التنافس على زعامة الحزب بصفة خاصة، الامر الذي تكرر خلال الحملة الاخيرة الشهر الماضي والتي انتهت بانتصار رابين في التصويت الحزبي الأول ليخوض للمرة الأولى منذ اثني عشر عاماً الانتخابات النيابية كزعيم لحزب العمل، في مواجهة اسحق شامير الذي تمكن بدوره ايضاً من الفوز على منافسيه دافيد ليفي وارييل شارون، في الجولة الأولى وبفارق كبير. ويبدو ان قناعة انصار بيريز بأن الانتخابات المقبلة تشكل آخر فرصة لزعيمهم لتبوء مركز حكومي جعلتهم يسرعون الى اعلان تضامنهم مع رابين، والتركيز على وحدة صفوف حزب العمل. وبصورة اخرى باتوا يسلمون بالشعار الذي خاضوا به حملتهم وهو ان "رابين فقط قادر على هزيمة ليكود". وهذا الشعار لم يأت من فراغ وانما من تاريخ رابين القيادي في المجالين السياسي والعسكري، فزعيم العمل يمثل في المفهوم الاسرائيلي، نموذج الشخصية القيادية الاسرائيلية. فقد انتقل الى مقاعد السياسيين من صفوف الجيش، بعد ان التحق قبل انشاء اسرائيل بمنظمة "بالماح"، الذراع العسكري لعصابة "هاغانا" الارهابية في فلسطين التي اسسها وتزعمها ديفيد بن غوريون. وشارك رابين في معارك عام 1948 كقائد للواء "هاريئيل" المتفرع من "بالماح"، وحارب في منطقة القدس وباب الواد، ثم ارسل الى الجبهة الجنوبية حيث عمل كضابط عمليات عسكرية تحت قيادة ايغال الون الذي تحول لاحقاً الى مرشده ومعلمه في المجال السياسي. واثر مشاركته في مفاوضات الهدنة في رودس عام 1949، عين قائداً للعمليات العسكرية في هيئة الاركان العامة قبل ارساله الى بريطانيا عام 1952 للالتحاق بدورة تدريب عسكرية خاصة اهلته لدى عودته عام 1954 لاستلام منصب قائد سلاح التدريب في هيئة الاركان العامة. وفي عام 1956 عين قائداً للجبهة الشمالية حتى عام 1959 عندما رقي الى منصب نائب رئيس الاركان، ثم تبوأ عام 1964 منصب رئيس الأركان الذي شغله خلال حرب حزيران يونيو عام 1967، وظل يشغله حتى تقاعده من الخدمة العسكرية في كانون الثاني يناير عام 1968 وتعيينه سفيراً لاسرائيل في واشنطن. وكان وزير الخارجية الاميركي السابق هنري كيسنجر اشاد في مذكراته بالدور الذي مارسه رابين خلال فترة خدمته الديبلوماسية في واشنطن، لتعزيز العلاقات العسكرية والتسليحية بين اسرائيل والولاياتالمتحدة. وفي هذا السياق تنسب اليه مصادر عمالية الفضل في تنظيم الجسر الجوي الاميركي خلال حرب تشرين الأول اكتوبر عام 1973 لنقل معدات هائلة من الاسلحة الاميركية الى جبهتي سيناء والجولان لنجدة القوات الاسرائيلية، الامر الذي زاد من مكانته لدى رئيسة الحكومة الاسرائيلية آنذاك غولدا مائير التي استقدمته في اعقاب الصدمة التي احدثتها هذه الحرب في اسرائيل وسلمته منصب وزير العمل لفترة قصيرة، ثم هيأته بالتنسيق مع الون، لوراثتها في رئاسة الحكومة عقب سقوطها في نيسان ابريل عام 1974، بعد ان مارست نفودها بين صفوف حزب العمل لضمان انتصاره على منافسه آنذاك بيريز. وتميزت فترة رئاسته الحكومة بالتوقيع على اتفاقي فصل القوات مع مصر وسورية، وبروز سياسة الاستيطان، ومن هذا المنطلق عمد انصار رابين يوم 19 شباط فبراير الماضي، الذي شهد فوزه برئاسة حزب العمل، واثناء مشاركة شامير في حفل تحويل مستوطنة "معالي ادوميم" الى اول مدينة يهودية في الضفة الغربية، الى التذكير بأن هذه المستوطنة اقيمت عام 1974 بعد اسابيع قليلة على تسلم رابين رئاسة الحكومة العمالية، بهدف جذب الاهتمام الى التوجهات والمواقف اليمينية التي يتمسك بها رابين على صعيد الصراع العربي - الاسرائيلي. وتفسر هذه التوجهات والمواقف السبب الذي دفع بيغن، اثر فوز ليكود في انتخابات عام 1977، الى حصر اختيار وزير الخارجية بشخصيتين اثنتين هما رابين ودايان، الا انه فضل الثاني تجاوباً مع شروط مارسها آنذاك وزير الدفاع عازر وايزمان. غير ان رابين كان اول مسؤول عمالي يبدي تأييده القاطع لعملية اجتياح لبنان عام 1982. حتى انه شارك في الحملة الاعلامية التي نظمتها حكومة بيغن في الولاياتالمتحدة لدعم هذه العملية. وعندما تبين عدم تطابق تطورات العملية العسكرية مع المخطط الذي اعده لها وزير الدفاع آنذاك ارييل شارون ورئيس الاركان رافائيل ايتان، كان رابين اول مسؤول اسرائيلي يتجرأ على الحديث عن فشلها، اذ استعمل كلمة في لغة "ايديش" اليهودية هي "بلونتر"، وتعني الورطة، لوصف هذا الفشل. وقد تحولت هذه الكلمة الى مصطلح متداول في الاوساط الاعلامية والشعبية الاسرائيلية. وخلال المفاوضات التي اجراها مسؤولو ليكود والعمل عام 1983 للاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية اثر الانتخابات البرلمانية التي اعقبت استقالة بيغن، اصر رابين على تناوبه على منصب وزير الدفاع لتنفيذ الوعد الذي قطعه على نفسه خلال الانتخابات والقاضي بسحب القوات الاسرائيلية من لبنان خلال تسعة اشهر. ويطرح رابين حالياً التزامه بوعده السابق وقدرته على تنفيذه كدليل على التزامه، في حال فوزه برئاسة الحكومة المقبلة، بالوعد الذي قطعه على نفسه خلال حملة التنافس على زعامة حزب العمل، والقاضي باستعداده للتوصل الى اتفاق في شأن الحكم الذاتي خلال فترة تتراوح بين ستة وتسعة اشهر. برنامج رابين ولكن من خلال التدقيق في مفهوم رابين لمواصفات ومفهوم الحكم الذاتي يتبين انه يتحدث من جانب واحد، متجاهلاً المفهوم العربي والفلسطيني لماهية ومواصفات هذا الحكم. فقد تحدث خلال لقاء اجرته معه صحيفة "يديعوت احرونوت" الاسرائيلية غداة فوزه بزعامة حزب العمل عن نيته "وقف الاستيطان في المناطق المكتظة بالسكان العرب" فقط، مؤكداً بذلك تمسكه ببنود "الخيار الاقليمي" الذي يطرحه حزب العمل منذ بداية الثمانينات كحل لوضع الاراضي المحتلة، على رغم ان كافة الاطراف العربية ترفضه. وتنص اهم بنود هذا الخيار على اقتطاع اربع مناطق من الضفة الغربية وقطاع غزة، تتميز باهميتها الاستراتيجية وانخفاض الكثافة السكانية العربية فيها، وضمها الى اسرائيل، ومواصلة انشاء "نقاط استيطان امنية" فيها. ومنع تحويل المناطق الأخرى الى دولة فلسطينية، ومواصلة فرض الرقابة العسكرية الاسرائيلية عليها. وينقل مقربون من رابين انه ذكر خلال جلسة مغلقة عقدها اعضاء "التيار المركزي" في حزب العمل، الذي يتميز بمواقفه اليمينية المتشددة، ان البرنامج السياسي الذي سيخوض على اساسه الانتخابات المقبلة يرتكز الى ثلاثة محاور رئيسية هي: رفض تقسيم القدس والابقاء عليها عاصمة ابدية لاسرائيل. اعتبار نهر الاردن "الحد لامني لاسرائيل في الشرق". وعدم الغاء المستوطنات اليهودية الواقعة في المناطق التي تنوي الحكومة العمالية ضمها الى حدود اسرائيل بموجب "الخيار الاقليمي". وأيد رابين موقف ليكود بخصوص منح الحكم الذاتي "للسكان وليس للارض". وطالب بارجاء البت في مصير الجولان، وتركيز الجهود الاسرائيلية على محاولة التوصل الى اتفاق نهائي مع الفلسطينيينوالاردن. ولم يحاول رابين اخفاء توجهاته اليمينية على رغم رفضه اعتبار حزب العمل في الوقت الحالي بمثابة "كتلة ليكود ثانية" كما بات متداولاً بين وسائل الاعلام الاسرائيلية. ويعتقد ان هذه التوجهات ستكفل له الفوز بأربعة او خمسة مقاعد برلمانية على حساب المؤيدين التقليديين لليكود والناخبين الجدد الذين يصوتون للمرة الأولى والمهاجرين الجدد الذين يأملون ايضاً بتحسين اوضاعهم السكنية والاجتماعية. وما من شك في ان فوز رابين بزعامة حزب العمل قد عزز من فرص الحزب في الفوز بالانتخابات التي ستجري في حزيران يونيو المقبل، وفق ما تشير اليه استفتاءات الرأي التي رجحت كفته بين الاسرائيليين، بعد ان فاز بتأييد 36 في المئة منهم في مقابل 34 في المئة لشامير. ولكن ما من شك ايضاً في ان فوزه بتشكيل حكومة عمالية للمرة الأولى منذ عام 1977، لن يحدث تغييرات جذرية في نظرة ومواقف مثل هذه الحكومة من مصير الاراضي المحتلة، اذ ان الفارق الرئيسي الذي ستتميز به الانتخابات المقبلة يتمثل بتمسك حزب العمل بضرورة منح الحكم الذاتي للسكان وليس للأرض، مع استعداده لتقديم تنازلات اقليمية معينة في المناطق ذات الكثافة السكانية العربية، بهدف الحفاظ على "يهودية" وأمن اسرائيل، مقابل تمسك ليكود بضرورة منح الحكم الذاتي للسكان وليس للارض، مع مواصلة الاحتفاظ بكافة الاراضي المحتلة بهدف الحفاظ على "صهيونية" وأمن اسرائيل. وبصورة أخرى فان الخيار بين رابين وشامير، بالنسبة الى الجانب العربي، هو بين السيء والاسوأ. الامر الذي جعل العديد من المسؤولين والمواطنين في الاراضي المحتلة يصف رابين وشامير بوجهين لعملة واحدة، خصوصاً ان الاثنين شاركا في حكومة الوحدة الوطنية الثانية التي اتبعت سياسة القبضة الحديدية لقمع الانتفاضة في الاراضي المحتلة. وفي ضوء الاصرار الرسمي العربي على ضرورة تقيد اسرائيل بنصوص القرارات الدولية بشأن مصير الاراضي المحتلة، لن يظل امام رابين، في حال وصوله الى السلطة، سوى اتباع طريق المماطلة الذي سلكه شامير منذ بداية المسيرة السلمية الحالية، عبر طرح فكرة الحكم الذاتي على انها مرحلة انتقالية تجري خلالها مفاوضات شبيهة بالمفاوضات الحالية، اي دون توقع الاتفاق على تسوية نهائية، بهدف تحويل الحكم الذاتي، وفق مفهومه الاسرائيلي، الى حل مرحلي من الناحية النظرية، والى حل دائم من الناحية العملية.