كان محمد بوضياف رئيس المجلس الاعلى للدولة في الجزائر يعرف تماماً ان حياته في خطر وانه مستهدف من "اكثر من جهة". فخلال الزيارة التي قام بها في ايار مايو الماضي إلى المغرب، وبشكل خاص إلى مدينة القنيطرة، لحضور حفل زواج ابنه، لاحظ افراد عائلته وعدد من اصدقائه المغاربة والجزائريين انه غيرمرتاح ويشعر بالقلق، وسمعوه يردد عبارات توحي وكأنه يملك معلومات عن خطط تستهدفه شخصياً كما تستهدف مسؤولين آخرين في الجزائر، ونصحه بعض الاصدقاء بالبقاء في القنيطرة وعدم العودة إلى الجزائر "في الوقت الحاضر". لكنه رفض الاخذ بهذه النصيحة وقال لأحد اصدقائه - من الذين رافقوه سنوات طويلة خلال وجوده في المغرب وبالذات في القنيطرة - "مهمتي لم تنته بعد في الجزائر ولم اتهرب طوال حياتي من مسؤولياتي وواجباتي". وأضاف بوضياف: "أعرف ان الاوضاع صعبة وغير مستقرة في الجزائر، لكن مهما تكن الظروف فلن اتهرب من المسؤولية الملقاة عليّ". وعاد بوضياف 73 سنة إلى الجزائر بعد يومين من هذا الحوار مع صديقه المغربي. ويوم الاثنين 29 حزيران يونيو الماضي، وبينما كان بوضياف يلقي كلمة في دار الثقافة في مدينة عنابة التي تبعد 450 كيلومتراً عن العاصمة الجزائرية امام مسؤولين من شرق الجزائر، ظهر خلفه رجل يرتدي بزة رجال وحدات مكافحة الشغب وأطلق عليه النار من رشاشه فأرداه قتيلاً. وذكر شهود عيان كانوا في القاعة ان الاعتداء كان "منظماً بشكل جيد" وان "شخصين على الاقل" وليس شخص واحد شاركا في عملية الاغتيال هذه. وتم اعتقال الجاني للتحقيق معه. بعد الحادث قال ل "الوسط" ديبلوماسي اوروبي وثيق الاطلاع على الشؤون الجزائرية: "اغتيال بوضياف كان نصف مفاجأة بالنسبة الينا". الواقع ان المعلومات التي حصلت عليها "الوسط" من مصادر وثيقة الاطلاع في الجزائر تؤكد ان تقارير عدة رفعت إلى بوضياف في الاشهر الاربعة الماضية تحذره من محاولات لاغتياله ولاغتيال شخصيات بارزة اخرى في البلاد. وبشكل محدد تلقى بوضياف تقريراً من جهاز امني جزائري يفيد ان هناك عناصر متطرفة "يتراوح عددها بين 1500 و3 آلاف عنصر" تنوي اغتيال شخصيات بارزة في الجزائر، وعلى رأسها رموز السلطة والحكم، كما تنوي تنفيذ سلسلة عمليات تفجير تستهدف مؤسسات ومباني ومراكز حكومية وطلب هذا التقرير من بوضياف "اتخاذ اجراءات استثنائية" لحماية نفسه من هذا الخطر. وقبل بدء محاكمة قادة الجبهة الاسلامية للانقاذ - وعلى رأسهم زعيم الجبهة الشيخ عباسي مدني ونائبه الشيخ علي بلحاج - امام محكمة البليدة العسكرية يوم 28 حزيران يونيو الماضي، تلقى بوضياف تقريراً آخر من الجهات الامنية المختصة يحذر من ان "عناصر" من جبهة الانقاذ تنوي القيام "بعمليات ثأرية" ضد اشخاص بارزين او مؤسسات عامة، رداً على محاكمة شيوخ الجبهة. وعلى رغم هذا التحذير لم يتخذ بوضياف اية "اجراءات استثنائية" لحماية نفسه. لكن محاكمة شيوخ جبهة الانقاذ لم تتم ذلك اليوم، بل اعلنت محكمة البليدة تأجيلها إلى يوم الاحد 12 تموز يوليو الجاري اثر انسحاب هيئة الدفاع والموكلين في الجلسة الاولى للمحاكمة. ووفقاً لمصادر ديبلوماسية مطلعة في الجزائر فان بوضياف تعرض "لأكثر من محاولة اغتيال" خلال الاشهر الاربعة الماضية، لكن تم احباطها او اكتشافها قبل حدوثها. وكانت الكلمات الاخيرة التي قالها بوضياف قبل اطلاق الرصاص عليه: "ان حياة الانسان مهما طالت قصيرة ويجب بذلها في خدمة الصالح العام ونبذ التكالب على الكراسي والمناصب. ان الاسلام هو دين كل الجزائرين ولا احد يمكن ان يحتكر الدين لغايات حزبية ضيقة". ويدخل محمد بوضياف التاريخ على اساس انه اول رئيس جزائري بل اول حاكم من منطقة المغرب العربي يتم اغتياله في التاريخ الحديث، وعلى اساس انه احد القادة التاريخيين لاستقلال الجزائر، وعلى اساس انه حكم بلده لمدة 5 اشهر ونصف الشهر في مرحلة هي الاخطر والادق في تاريخ الجزائر منذ الاستقلال. لكن، من قتل محمد بوضياف ولماذا؟ ومن يقف وراء الرجل الذي اطلق عليه النار؟ والى اين تسير الجزائر في مرحلة ما بعد بوضياف؟ قبل الاجابة عن هذه التساؤلات لا بد من التوقف عند الفترة التي تولى فيها بوضياف رئاسة المجلس الاعلى للدولة في الجزائر وما حققه - او لم يحققه - من انجازات. الذين يعرفون بوضياف وكانوا على مقربة منه خلال هذه الاشهر القليلة يؤكدون ان الرجل - وهو وطني مستقيم ذو ماض نظيف لا غبار عليه لا يعرف المساومة على القضايا الاساسية والحيوية - كانت لديه طموحات كثيرة وكبيرة لاحداث تغييرات جذرية في الجزائر، وفي مجالات عدة، تنقذ هذا البلد من مشاكله المتعددة. لكن ما حدث، في الواقع، خلال هذه الفترة القصيرة من حكمه، هو ان بوضياف تمكن من تحقيق "انجاز" واحد، اذا جاز التعبير، وهو توجيه ضربة كبيرة إلى الجبهة الاسلامية للانقاذ والعمل جاهداً على اعادة هيبة الدولة ومحاولة ضبط الوضع الامني في البلاد. غير ان بوضياف لم يتمكن من تحقيق تغييرات سياسية في الجزائر، ولم يكن لديه متسع من الوقت - هو وحكومة سيد احمد غزالي - لاصلاح الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية. "كلنا أسرى أزمة حادة" في مقابلة خاصة مع "الوسط" نشرت في العدد الرقم 8 الصادر يوم 23 آذار مارس الماضي قال بوضياف رداً على سؤال عما اذا كان اسير الجيش الذي أتى به إلى الحكم: "انا لست اسيراً لأحد، لكننا جميعاً اسرى وضع، سواء كنا في مجلس الدولة او الحكومة او اية جهة اخرى، ان هاجس الجميع هو كيف التحكم بهذا الوضع وتجاوز مضاعفاته في احسن الآجال. فالجزائر تعاني ازمة مالية واقتصادية واجتماعية حادة، كما نعاني ازمة سياسية بسبب ما آلت اليه التجربة الديموقراطية، لا سيما بعد وقف الانتخابات التشريعية. هذا هو الوضع الذي يفرض نفسه علينا جميعاً". والواقع ان بوضياف لم يقبل ان يعود إلى الجزائر - بعدما عاش 28 عاماً في المنفى وهو احد الابطال التاريخيين الذين ناضلوا من اجل استقلال بلدهم وأمضى بعض سنوات في السجون الفرنسية. لم يقبل بوضياف العودة إلى بلده، حين اتصل به بعض كبار قادة الجيش والمسؤولين الجزائريين، ليكون مجرد واجهة للجيش او دمية في ايدي طبقة سياسية - عسكرية حاكمة. فقد رفض في عهد الرئيس الأسبق هواري بومدين عرضاً ليرئس حكومة تكون مجرد "واجهة" للجيش. لذلك حين اتصل به بعض كبار المسؤولين العسكريين والمدنيين الجزائريين في نهاية العام الماضي ومطلع هذا العام، بينما كان مقيماً في مدينة القنيطرة المغربية، وعرضوا عليه رئاسة الدولة، وضع مجموعة شروط ابرزها انه ينوي ان يحكم فعلاً وان يكون هو المسؤول الاول - بالتشاور والتنسيق مع الجيش والحكومة - عن وضع سياسة الجزائر وتحديد توجهاتها وخياراتها في الداخل والخارج. ووافق "كبار المسؤولين" - ومنهم وزير الدفاع الحالي اللواء خالد نزار - على مطالب بوضياف هذه. فعاد إلى الجزائر يوم 16 كانون الثاني يناير الماضي، اي بعد 5 ايام من استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد من منصبه، وتولى رئاسة المجلس الأعلى للدولة الذي يضمه مع 4 اشخاص آخرين هم اللواء خالد نزار والمحامي والوزير الاسبق لحقوق الانسان علي هارون والامين العام لمنظمة المجاهدينعلي كافي والإمام السابق لمسجد باريس التيجاني هدام. واعترف بوضياف في مقابلة تلفزيونية اجريت معه قبل اغتياله بأيام: "كنت متردداً في العودة إلى الجزائر لكنني شعرت بأن من واجبي ان اعود إلى بلدي للمساهمة في انقاذه". كانت المهمة الاولى التي قام بها بوضياف بالتعاون والتنسيق مع الجيش هي العمل على ضرب وانهاء دور الجبهة الاسلامية للانقاذ، واسترجاع هيبة الدولة وسلطتها، وضبط الوضع الامني في البلاد. فقد اعتبر بوضياف - وهو بذلك يعبر عن وجهة نظر قيادة الجيش ايضاً - ان جبهة الانقاذ ارادت "الاستيلاء على السلطة بالعنف والفوضى واحتلال الشوارع والمساجد"، ولا بد من وضع حد نهائي لنشاط الجبهة. وقد اتخذ الحكم الجزائري منذ كانون الثاني يناير الماضي كل الخطوات والاجراءات التي يستطيع اتخاذها "لانهاء" جبهة الانقاذ ودورها: فقد صدر قرار بحل الجبهة ومصادرة املاكها واعتقال زعمائها وكبار المسؤولين فيها ومنع عناصرها من استخدام منابر المساجد لأغراض سياسية ودعائية، كما تم تغيير أئمة المساجد المتعاطفين مع الجبهة وإبعاد رؤساء البلديات المؤيدين لها واعتقال نحو 8 آلاف من عناصرها او من المتعاطفين معها ووضعهم في معسكرات خاصة في الصحراء. وتم كذلك اصدار حكم باعدام 20 من اعضاء الجبهة والتلويح باصدار احكام باعدام بعض قادتها. واعتبر بوضياف، نتيجة هذه الاجراءات، ان الحكم "ضبط الوضع الامني وان عليه الانصراف لمعالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الحادة واجراء اصلاحات سياسية في البلاد". وعلى هذا الاساس عمد بوضياف في نيسان ابريل الماضي إلى تشكيل "المجلس الاستشاري الوطني" الذي يضم 60 شخصية تم اختيارها على اساس "الكفاءة والنزاهة"، بحيث يكون هذا المجلس تابعاً لمجلس الدولة ويقدم "المشورة والنصائح" للمسؤولين عن ادارة شؤون البلاد. وفي الشهر الماضي اعلن بوضياف عن بدء العمل من اجل تأسيس "التجمع الوطني". وقد نفى بوضياف ان يكون "التجمع" مجرد حزب آخر ينوي ترؤسه بل حرص على التوضيح ان التجمع عبارة عن "حركة جماهيرية واسعة" تتميز بالخصائص الآتية: 1- انها تشكل اطاراً لتمكين اكبر عدد ممكن من المواطنين من اجراء حوار منظم ودائم مع المجلس الاعلى للدولة. 2- انها تشكل "سلطة مقابلة" مهمتها تحفيز السلطة الجديدة - بقيادة الرئيس بوضياف - ومراقبتها عند الضرورة. 3- انها اطار سياسي متناسق وقادر على تحقيق تعبئة شعبية فعالة، تكون سنداً حقيقياً لمجلس الدولة وسياسته. والتجمع الوطني ايضاً حركة مفتوحة - بصفة انفرادية - للأطراف الآتية: 1- "احزاب التقدم والتغيير" ويستبعد الرئيس بوضياف هنا ما يسميه "احزاب العنف والتخلف"، ويقصد بها الاحزاب الاسلامية، وفي طليعتها جبهة الانقاذ المحلولة. 2- المنظمات والجمعيات وجميع الفئات الاجتماعية والحساسيات السياسية. 3- جميع الارادات الطيبة والمهمشين في الفترة السابقة الذين يريدون "المساهمة في هذه المرحلة التاريخية". التجمع الوطني من مبادئه وأهدافه تحقيق الآتي: * تكريس التعددية السياسية والحزبية في "اطار الوحدة الوطنية والسلامة الترابية". * "قبول مبدأ التناوب على السلطة". * تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية ومحلية في احسن الآجال. ووفقاً لما قاله احد الخبراء في الشؤون الجزائرية فان بوضياف اراد من وراء هذا التجمع ان يقفز "فوق رؤوس الاحزاب السياسية الجزائرية" ويتوجه إلى الشعب مباشرة داعياً اياه إلى الالتفاف حوله وحول مبادئه لانقاذ الجزائر". وأوضح هذا الخبير ان بوضياف كان ينوي، في الواقع، اجراء انتخابات رئاسية عام 1993 او خوضها مدعوماً من هذا التجمع الوطني. "مجموعات إرهابية صغيرة" وقد حاول كبار المسؤولين الجزائريين، ومنهم بوضياف، الايحاء بأن "المشكلة مع جبهة الانقاذ انتهت" بعد الاجراءات المختلفة المتخذة ضدها، وان الحكم "يسيطر على الوضع الامني في البلاد" لكن الكثيرين في الخارج - وخصوصاً في باريس ولندن وواشنطن - لم يشاطروا بوضياف وزملاءه في الحكم تفاؤلهم هذا. ومنذ آذار مارس الماضي، وبعد سلسلة الاجراءات ضد جبهة الانقاذ، بعث سفير دولة غربية كبرى في الجزائر بتقرير إلى حكومته عكس صورة "متشائمة للغاية" وحذر من ان "الازمة في الجزائر ستستمر فترة طويلة" وأوضح ان الجيش لن يستطيع "حسم المشكلة التي تمثلها جبهة الانقاذ وضبط الاوضاع في انحاء البلاد في المستقبل القريب، وقال: "ان المرحلة المقبلة ستشهد فترات من الهدوء النسبي لكن هذا الهدوء سيكون موقتاً ثم تنفجر بعدها الاوضاع من جديد". لكن جبهة الانقاذ لم تنته ولم يتم القضاء عليها بشكل تام، ذلك ان هذه الجبهة ليست حزباً عادياً بل حركة استقطبت حولها الكثيرين من الناقمين والغاضبين والعاطلين عن العمل الذين لا يؤمنون بالضرورة بقيام "جمهورية اسلامية" في بلد اسلامي كالجزائر. وفي الوقت نفسه، ووفقاً لما ذكرته ل "الوسط" مصادر جزائرية وثيقة الاطلاع، فقد تفتت جبهة الانقاذ - بعد اعتقال قادتها ودخولها العمل السري - إلى "مجموعات صغيرة"، لكل منها زعيمها، وهي مجموعات تؤمن باستخدام العنف والارهاب ضد كل ما يمثل الحكم والدولة ورموزهما. وقد نفذ هؤلاء عمليات ارهابية عدة خلال الاشهر القليلة الماضية استهدفت اغتيال عدد من رجال الامن والشرطة وإشعال الحرائق وتفجير مؤسسات عامة. وبرز بين هؤلاء "الافغان"، وهم جزائريون قاتلوا مع المجاهدين الافغان وعادوا إلى بلدهم وانضم معظمهم إلى جبهة الانقاذ. ويقال ان عددهم يتراوح بين 3 و4 آلاف شخص. والاعتقاد السائد في الجزائر ان "الافغان" يشكلون جزءاً من "الجناح" العسكري" لجبهة الانقاذ، وان هذا الجناح يعمل في السر منذ بضعة اشهر. خلايا سرية وتغلغل في الجيش واللافت للانتباه، في هذا المجال، ان بعض المسؤولين الامنيين ابلغوا بوضياف في ايار مايو الماضي انهم يتوقعون ان تستمر "محاولات الفوضى والاخلال بالنظام والامن واعمال العنف والارهاب المنعزلة" التي يقوم بها اعضاء تابعون لجبهة الانقاذ او متعاطفون معها "لمدة سنتين". وعلى هذا الاساس تشكلت "خلية لمكافحة الارهاب" تتابع تطورات الوضع الامني في الجزائر ورجالها مستعدون للتدخل السريع كلما دعت الضرورة إلى ذلك. لكن "الجانب الأخطر" هو تغلغل "نفوذ وتأثير" جبهة الانقاذ في صفوف الجيش والشرطة في الجزائر. والمعلومات التي حصلت عليها "الوسط" من مصادر وثيقة الاطلاع في الجزائر تؤكد الامور الآتية: 1- في الاشهر القليلة الماضية صدرت عقوبات بحق "مئات عدة" من العسكريين برتب مختلفة بتهمة "التعاون" مع جبهة الانقاذ او "التنسيق" معها او الانضمام اليها. 2- هناك عدد غير محدد من عناصر الجيش الذين تركوا مواقعهم وانضموا إلى "الخلايا السرية" المتعاونة مع جبهة الانقاذ. 3- صدر حكم في ايار مايو الماضي باعدام اثنين من صغار الضباط في الجيش الجزائري بتهمة "المشاركة" مع مجموعة من "الافغان" في الهجوم على مقر قيادة البحرية الوطنية في العاصمة الجزائرية. في الوقت نفسه تتردد معلومات غير مؤكدة في اوساط ديبلوماسية غربية تفيد ان ما لا يقل عن "ربع الجيش الجزائري" "متعاطف" مع آراء وأفكار جبهة الانقاذ ومؤيد لتوجهاتها. وذهبت مصادر غربية إلى حد القول ان وزير الداخلية الجزائري العربي بلخير يستعد للقيام بحملة تطهير واسعة في صفوف اجهزة الشرطة الجزائرية لاقصاء "المتعاطفين" مع جبهة الانقاذ. غير ان ذلك لم يتم تأكيده من مصادر جزائرية رسمية. تساؤلات في الجزائر ونعود إلى السؤال: من قتل محمد بوضياف ومن يقف وراء الرجل الذي اطلق الرصاص عليه؟ الجواب السريع والفوري هو ان "شكوكاً قوية" تحوم حول الجبهة الاسلامية للانقاذ: فبوضياف كان خصماً قوياً وحاداً للجبهة وكان يتهمها بالقيام بأعمال ارهابية لزعزعة استقرار البلاد. كما ان الجبهة نفسها حذرت في شباط فبراير الماضي، وبعد تصاعد المواجهات بين اعضائها ورجال الامن والشرطة، وعلى لسان احد المسؤولين فيها: "اذا لم تبدل السلطة موقفها تجاهنا فاننا سننتقل خلال اشهر إلى الكفاح المسلح. وستكون اعمالنا موجهة نحو اهداف محددة وستطال مسؤولين جزائريين كباراً". كما ان التقارير الامنية التي تلقاها بوضياف في الاشهر القليلة الماضية ركّزت على ان التهديدات الموجهة ضد حياته "مصدرها" جبهة الانقاذ او عناصر متعاطفة معها. وهكذا يبدو الاغتيال، للوهلة الاولى - عملية "ثأرية انتقامية" قامت بها جبهة الانقاذ او عناصر متعاطفة معها. لكن على رغم ذلك كله، ثمة تساؤلات مطروحة في الجزائر حالياً تجعل البعض لا يستبعد قيام "طرف آخر" غير جبهة الانقاذ باعطاء الامر باغتيال بوضياف، على اساس عملية "تصفية حسابات". وأبرز التساؤلات: 1- كيف تمكن الرجل الذي اغتال بوضياف من اختراق "الحواجز الامنية" التي كانت تحيط بالرئيس الجزائري؟ 2- هل صحيح ان الرجل ينتمي فعلاً إلى جهاز امني رسمي جزائري وانه رافق بوضياف منذ انتقاله من العاصمة الجزائرية إلى عنابة؟ 3- الواضح ان خطة الاغتيال كانت معدة بشكل جيد، فهل وصل نفوذ جبهة الانقاذ إلى هذه الدرجة من القوة بحيث تمكنت من "اختراق" شبكة الحماية الخاصة التي تحيط بالرئيس الجزائري؟ 4- هل جبهة الانقاذ هي المتضرر - والمستفيد - الوحيد من اغتيال بوضياف؟ ام ان جهات اخرى كانت متضررة منه وبالتالي لها مصلحة في تصفيته؟ هذا السؤال يطرح على اساس معلومات تفيد ان بوضياف كان ينوي اجراء تغييرات جذرية في عدد من اجهزة الدولة ومؤسساتها واقصاء الكثيرين من رجال "العهد السابق"، وعلى اساس معلومات اخرى تفيد ان بوضياف كان مصمماً على فتح ملفات كثيرة تتعلق بالفساد والرشاوى و "شبكات" تهريب ومتاجرة في السوق السوداء - مشابهة لشبكات "المافيا" - وعلى اعتقال المسؤولين عنها. هذه التساؤلات - وسواها - ستظل مطروحة في الجزائر وخارجها إلى ان تعلن السلطات الجزائرية نتائج التحقيق مع الجاني وتقدم الادلة والبراهين عن الجهة التي أمرت فعلاً باغتيال بوضياف. لكن اياً تكن الجهة فان الكثيرين يرجحون ان يكون اغتيال بوضياف بداية "عملية تصفيات" بين حكام الجزائر الفعليين وخصومهم وربما بداية تصفيات داخل بعض المؤسسات. ماذا عن المستقبل ومن سيحكم الجزائر بعد بوضياف؟ هل سيتسلم الجيش الحكم مباشرة ام يظل هو "الحاكم الفعلي"، انما في الظل ومن وراء "واجهة" مدنية؟ هل ستتجه البلاد نحو المزيد من المواجهات والصدامات بين "القوى غير الشرعية" الممثلة بجبهة الانقاذ والعناصر المتعاطفة معها والتي تنتظر حالياً في الظلام؟ وهي يؤدي ذلك إلى نشوب حرب اهلية وحدوث انقسامات في الجيش؟ ام ان قيادة الجيش الحالية - الممثلة بوزير الدفاع اللواء خالد نزار - قادرة، على رغم كل الصعوبات والتحديات، على الامساك بزمام الامور والحيلولة دون حدوث انهيارات كبيرة في مؤسسات الدولة وهياكلها؟ وهل يمكن ان نشهد تحولاً في اتجاهات الحكم الجزائري الجديد تتخذ شكل "الانفتاح التدريجي" على جبهة الانقاذ للتوصل إلى "صيغة الحل" او "صيغة وفاق" ام ان ذلك اصبح مستحيلاً، خصوصاً نتيجة اصرار قيادة الجبهة على تغيير طبيعة الحكم واقامة "الجمهورية الاسلامية" في الجزائر؟ الواقع ان كل الاحتمالات مطروحة الآن. الا ان الامر الاكيد هو ان اياً يكن الرجل الذي سيتسلم الرئاسة بعد بوضياف - سواء كان خالد نزار او العربي بلخير او علي كافي او علي هارون او التيجاني هدام او سيد احمد غزالي او الاخضر الابراهيمي او اي شخص آخر - اياً يكن هذا الرجل فإنه سيواجه وضعاً بالغ الصعوبة، سواء على صعيد كيفية التعامل مع جبهة الانقاذ او على صعيد معالجة الوضع الاقتصادي الذي يشكل اساس الكثير من المشاكل الحادة في الجزائر. فالوضع الاقتصادي اشبه بالكارثة وهو مصدر القوة الرئيسي لجبهة الانقاذ وتكفي الارقام الآتية لاعطاء صورة واضحة عنه: ربع سكان الجزائر عاطلون عن العمل، التضخم بلغ عام 1991 نسبة 30 في المئة وهو سيبلغ هذا العام نسبة تراوح بين 35 و40 في المئة، سعر الدينار الجزائري انهار إلى حد ان الدولار يساوي اليوم 25 ديناراً بينما كان يساوي 5 دنانير عام 1986، ديون الجزائر الخارجية تتجاوز 26 مليار بليون دولار وخدمة هذه الديون وفوائدها تبلغ سنوياً بين 7.5 و8 مليارات بلايين دولار، مما يشكل من 60 إلى 80 في المئة من مدخول الصادرات الجزائرية. ولا مجال لأية استثمارات عربية او اجنبية قبل ان يستقر الوضع السياسي والامني في البلاد. ولن تستقر الاوضاع قبل معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الحادة. هذه هي التحديات الحقيقية والكبيرة التي تواجه الجزائر، شعباً وحكاماً ومؤسسات، في المرحلة المقبلة.