"معركة الجزائر"، التي تشهد حاليا بداية مرحلة من اخطر مراحلها، هي، في الحقيقة، معركة بين "شرعيتين": "شرعية" استمرار الدولة بتركيبتها الاساسية منذ الاستقلال، و"شرعية" الانقلاب على هذه الدولة واحداث تغييرات جذرية في البلاد. "شرعية" الانقلاب، او "الشرعية الجديدة - البديلة"، ممثلة "بالجبهة الاسلامية للانقاذ". وقد اكتسبت جبهة الانقاذ "شرعية" سياسية - شعبية بعد فوزها في الدورة الاولى من الانتخابات النيابية نهاية 1991 بپ188 مقعداً نيابياً وكانت - وفقاً لكل التقديرات - ستفوز باغلبية ثلثي المقاعد في المجلس الشعبي الوطني البرلمان لو ان الدورة الثانية للانتخابات جرت يوم 16 كانون الثاني يناير 1992. ولو حدث ذلك لكانت الجبهة قادرة على تعديل الدستور وتسلم زمام الحكم واقامة الجمهورية الاسلامية على مراحل. ولو حدث ذلك، لكانت هي المرة الاولى في تاريخ العالم العربي الحديث الذي تصل فيه حركة اسلامية تغييرية الى الحكم بواسطة الانتخابات النيابية… وبموافقة السلطات التي كانت هذه الحركة تنوي الانقلاب عليها. في مقابل هذه "الشرعية - البديلة" هناك "الشرعية - الاصلية" او شرعية استمرارية الدولة ممثلة بالجيش وقيادته. فالجيش في الجزائر ليس جيش الحاكم او الرئيس - كما هو الحال في دول اخرى - بل ان الجيش هو "حامي" الاستقلال والنظام والدولة، وهو صانع الرؤساء ومصدر قوتهم الاساسية. والجيش الجزائري يعتبر ان مهمته لا تنحصر في التصدي للاخطار والتهديدات الخارجية فحسب، بل ان مهمته تقضي بحماية الجبهة الداخلية ومنع اختلال التوازنات الدقيقة وضرب اية محاولات لتحقيق تغييرات جذرية في البلاد. وينقل عن اللواء خالد نزار الرجل القوي في قيادة الجيش الجزائري، قوله في ربيع 1991 لمسؤول فرنسي كبير: "الجيش الجزائري سيتدخل مباشرة لمنع سقوط البلاد في الفوضى وتجنب الحرب الاهلية". هاتان الشرعيتان لا يمكنهما، بالطبع، "التعايش" مع بعضهما البعض، بل ان كلا منهما يريد الغاء الآخر، ويعتبر نفسه نقيض الآخر. فجبهة الانقاذ هدفها الرئيسي ليس فقط الغاء النظام الحالي - المستمر باشكال مختلفة منذ الاستقلال - بل ايضاً الغاء الجيش النظامي بتركيبته الحالية. فالجبهة تعتبر ان الجيش "يمثل مصالح طبقة معينة" وان لا مكان له، بتركيبته الحالية، في الجمهورية الاسلامية المقترحة. ولم تكن جبهة الانقاذ ترغب في تقاسم السلطة مع اطراف اخرى، بل عقد تحالفات موقتة ثم التفرد بالسلطة واقامة الجمهورية الاسلامية. وقد تجنب زعماء الجبهة كشف كل خططهم واهدافهم الحقيقية لذلك، فهم لم يعلنوا، مثلاً، برنامجاً مفصلاً للحكم يتناول، بدقة وبشكل محدد، مختلف جوانب الوضع الجزائري وكيفية معالجته، وتركوا الكثير من الامور مبهمة وغامضة لعدم اثارة فئات عدة في الجزائر ضدهم، واكتفوا بطرح تصورات عامة ومبدئية لكيفية ادارة شؤون البلاد ومعالجة مشاكلها. وكان من اهداف جبهة الانقاذ الحقيقية احداث تغييرات جذرية في مؤسسات الدولة، على رأسها الجيش، واستبدال الجيش النظامي بجيش شعبي او "بمجموعة" جيوش، كما هو الحال في ايران، ان بقاء الجيش بتركيبته الحالية يشكل، بالنسبة الى الجبهة، "خطراً مستمراً" عليها. واذا كانت جبهة الانقاذ اكتسبت "شرعية سياسية - شعبية" عبر الانتخابات التي نظمتها السلطة، فانها اكتسبت شرعية اضافية - اذا جاز التعبير - اذ انها، من خلال تركيز حملاتها على فشل الدولة والنظام والحزب الحاكم خلال 30 سنة من ادارة شؤون البلاد، طرحت نفسها "كبديل منقذ"، واستقطبت حولها الكثيرين من الناقمين والغاضبين والعاطلين عن العمل الذين لم يكونوا يؤمنون، اصلاً بضرورة قيام "جمهورية اسلامية" على طريقة الجبهة، في بلد اسلامي كالجزائر. ولا بد من التوقف عند بعض الارقام التي تعطي صورة واضحة عما آلت اليه الجزائر بعد 30 سنة من حكم الحزب الواحد، على رغم كونها دولة غنية بالموارد الطبيعية. ديون الجزائر الخارجية تبلغ اكثر من 26 مليار بليون دولار، خدمة هذه الديون وفوائدها السنوية تراوح بين 5،7 و8 مليارات دولار، اي بين 60 و80 في المئة من مدخول الصادرات الخارجية للجزائر. استحقاقات الديون الخارجية من 1992 الى آذار مارس 1993 تبلغ 16 مليار بليون دولار يجب على الحكومة تسديدها. وقد رفضت الحكومة الجزائرية حتى الآن اعادة جدولة هذه الديون لأنها لا تريد الخضوع لشروط صندوق النقد الدولي، وهي شروط من شأنها ان تؤدي الى اتخاذ سلسلة اجراءات تقشفية اضافة الى تدابير غير شعبية. وهناك مليونا عاطل عن العمل في الجزائر. اي ربع الطاقة البشرية العاملة. ولدى الدولة مليار دولار فقط احتياط من العملات الصعبة، ومليارا دولار احتياط من الذهب. وهذا العام تحتاج الجزائر الى ملياري دولار لاستيراد المواد الغذائية الضرورية والاساسية. في مواجهة ذلك كله، فلا مجال لأي دعم عربي او دولي، مالي او اقتصادي، حقيقي قبل ان تستقر الاوضاع في هذا البلد. اما الحكومة التي يرئسها سيد احمد غزالي فهي لا تزال تعد برنامجاً لاصلاح الاقتصاد الجزائري، لكن هذا البرنامج لم يعد له الاولوية عند الحكم، في الظروف الراهنة. الديموقراطية ليست الأساس كان الصدام حتمياً، اذن، في ظل هذه الظروف الاقتصادية والاجتماعية البالغة الصعوبة، بين "الشرعية التاريخية - الاصلية" و"الشرعية - البديلة". وكلما كانت جبهة الانقاذ تكتسب قوة ونفوذاً، كلما كانت ساعة الصدام مع الجيش تقترب. فقد اعتبر الجيش ان "الشرعية" التي اكتسبتها جبهة الانقاذ عبر الانتخابات هي شرعية "مزيفة" تخفي في الحقيقة مخططاً انقلابياً، مما يشكل، بالتالي، خطراً على البلاد، خصوصاً ان فئة كبرى من الجزائريين - بل غالبية الجزائريين - ترفض افكار الجبهة وتوجهاتها، وان كانت تتضامن معها في نقمتها على الحكم وعلى كيفية ادارة شؤون البلاد خلال السنوات الماضية. وقد اعتبرت قيادة الجيش ان جبهة الانقاذ ليست الحل للمشاكل التي تعاني منها الجزائر، بل ان وصولها الى الحكم سيدخل البلاد في دوامة من الفوضى والصراعات الداخلية ويزيد من انهاك الوضع الاقتصادي وتفكك المجتمع الجزائري ويفتح الابواب امام هجرة عشرات الالاف من العقول واصحاب الخبرات الجزائرية. ولم تكن الديموقراطية عنصراً اساسياً على الاطلاق في الصراع بين هاتين الشرعيتين: فجبهة الانقاذ لم تكن تؤمن بالديموقراطية بمعناها الواسع بل كانت تعتبر، مثلا، ان الانتخابات النيابية يجب ان تجري مرة واحدة فقط لايصال الجبهة الى الحكم، وبعد ذلك لا انتخابات. اما الجيش فاعتبر - رداً على الذين اتهموه بتعطيل المسيرة الديموقراطية، بالغائه الانتخابات و"اقالته" الرئيس الشاذلي بن جديد واعلانه حالة الطوارئ واتخاذه سلسلة اجراءات قانونية لحظر نشاط جبهة الانقاذ بعدما اعتقل معظم المسؤولين فيها- اعتبر الجيش ان مصير الجزائر اهم من الديموقراطية وان "المصلحة العليا للدولة تمر قبل الديموقراطية"، وان وضع حد "للخطر" الذي تمثله جبهة الانقاذ له الاولوية. ومنذ "اقالة" بن جديد يوم 11 كانون الثاني يناير الماضي والجيش يتصرف على اساس انه "حركة انقاذية" للنظام المدني، وليس حركة لتسلم السلطة مباشرة. لذلك فهو حرص على انشاء المجلس الاعلى للدولة برئاسة محمد بوضياف - كبديل لرئيس الجمهورية - على اساس ان تستمر مهمته الى نهاية 1993، كما ابقى على الحكومة برئاسة غزالي، وهو يشجع على اقامة مجلس استشاري. وفي مقابل ذلك فرض الجيش قيوداً مشددة على البلاد، كما ان حالة الطوارئ التي اعلنت ستشمل تشديد الرقابة على الصحف ووسائل الاعلام وفرض ساعات منع التجول ومنع المسيرات والتجمعات، وتفتح الباب امام الاعتقالات الواسعة. لكن هل يستطيع الجيش ان يحسم الوضع، فعلاً، لمصلحة النظام والدولة الحالية ويقضي على قوة التغيير الممثلة بجبهة الانقاذ ؟ يستطيع الجيش، على الصعيد الامني والبوليسي، ان يوجه ضربة كبيرة لجبهة الانقاذ، فيضعفها، كتنظيم، الى اقصى حد، سواء عن طريق اعتقال جميع المسؤولين فيها، او منع عناصرها من استخدام منابر المساجد لاغراض سياسية، او تغيير ائمة المساجد المتعاطفين مع الجبهة التي تسيطر على 8 آلاف مسجد من مجموع 10 آلاف مسجد في الجزائر. كما يستطيع الجيش ان يواجه بالقوة المسلحة اية مجموعات متطرفة من الجبهة تشن "حرب شوارع" على قوات الأمن، او تريد مهاجمة اهداف عسكرية او اغتيال مسؤولين وشخصيات موالية للنظام. هل تحسم مثل هذه الاجراءات الوضع وتؤدي الى اعادة البلاد الى حالتها الطبيعية والى الاستقرار؟ هناك شكوك قوية، لدى المراقبين العرب والغربيين، حول ذلك. فجبهة الانقاذ ليست مجرد حزب او تنظيم يمكن القضاء عليها بمجرد اتخاذ اجراءات بوليسية ضدها، بل انها حالة سياسية - اجتماعية - دينية - نفسية يلتف حولها الكثيرون من الناقمين. كما ان المشكلة الحقيقية الكبرى في البلاد تردي الوضع الاقتصادي والاجتماعي وتدني المستوى المعيشي لا يمكن ايجاد حلول سريعة لها بمجرد ضرب الجبهة. لذلك يمكن القول، بلا مبالغة، ان الجزائر دخلت، في هذه المعركة بين الشرعيتين، "حلقة مفرغة رهيبة" يصعب الخروج منها قبل فترة طويلة. وقبل ايام بعث سفير دولة غربية كبرى في الجزائر بتقرير الى حكومته عكس صورة "متشائمة للغاية" عن تطورات الاوضاع في هذا البلد، وحذر من ان الازمة "ستستمر فترة طويلة" مع ما يرافق ذلك من عدم استقرار واضطرابات. واوضح السفير في تقريره ان الجيش الجزائري "لن يستطيع حسم المشكلة التي تمثلها الجبهة الاسلامية وضبط الاوضاع في انحاء البلاد "خلال المستقبل القريب"، و"خلافاً" لما يؤكده بعض المسؤولين الجزائريين. وحذر السفير الغربي من ان هذه "الحرب" بين الجيش وجبهة الانقاذ تحمل في طياتها اخطاراً كبيرة وانها "يمكن ان تهدد وحدة الجيش والمؤسسات المدنية" في الجزائر اذا ما اتسع نطاقها وسقط مئات القتلى. وقال السفير، ايضاً، ان المرحلة المقبلة ستشهد "فترات من الهدوء النسبي" لكن هذا الهدوء سيكون "موقتاً" ثم تنفجر بعدها الاوضاع من جديد.