يشكف وليام كوانت، في مقاله الخاص هذا ب"الوسط"، جوانب غير معروفة عن اسحق رابين، ويتحدث بشكل خاص عن مضمون لقاء مغلق جرى بحضوره بين رابين والرئيس الاميركي السابق جيمي كارتر وفيه عرض زعيم حزب العمل الاسرائيلي تصوراته للسلام مع العرب والفلسطينيين. وفي ما يأتي مقال كوانت: للمرة الاولى منذ ربيع 1977 ستتولى الحكم في اسرائيل حكومة برئاسة زعيم حزب العمل لا تضم تكتل الليكود. ويبدو واضحاً الآن، بعد فوز اسحق رابين زعيم حزب العمل الاسرائيلي، في الانتخابات النيابية، انه سيؤلف حكومة يتولى فيها حزبه المناصب الوزارية الرئيسية، بينما يتولى تحالف "ميرتيز" - الذي يضم ثلاثة احزاب يسارية - بعض الوزارات الاخرى المهمة وسيكون رابين، في حكم المؤكد، القوى المحركة لمفاوضات السلام مع الفلسطينيين والعرب، ولاستعادة العلاقات الطيبة مع الولاياتالمتحدة التي توترت في عهد حكومة اسحق شامير. واستناداً الى ماضيه السابق في الحكم، سواء عندما كان رئيساً للوزراء او وزيراً للدفاع، يحق للمرء ان يتساءل اذا كان انتخابه سيحسن فعلاً فرص السلام. وردي على هذا السؤال هو "نعم"، ولكن ليس لأن رابين من "الحمائم". اذ على العكس من ذلك، لأن رابين ينتمي الى جناح "الصقور" في حزب العمل. الا ان من المرحج ان يتخذ رابين مواقف ستسهل عملية المفاوضات في قضيتين حاسمتين: اولاً سيوافق على وقف معظم النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية وقطاع غزة مما يعني اننا سنشهد خلال هذا العام او عام 1993 تجميداً للاستيطان اثناء استمرار المفاوضات. ولا شك في ان هذه الخطوة تعالج احد مصادر القلق الرئيسية لدى الفلسطينيين. وثانياً، لا يرفض رابين "مبادلة الارض بالسلام". صحيح انه لم يسبق له اطلاقاً ان شرح بالتفصيل طبيعة اتفاق السلام الذي يفكر فيه، فهو مثل جميع السياسيين الاسرائيليين الآخرين، يعارض قيام دولة فلسطينية كاملة الاستقلال، وقد سبق له ان تحدث عن دور اردني مع انه لم يكثر من الحديث عن ذلك في السنوات الاخيرة. كما انه اوضح بجلاء ان مصالح الامن الاسرائيلية ستحتاج الى ترتيبات خاصة في الاراضي العربية المحتلة. وعندما كان رابين رئيساً للوزراء آخر مرة، وجيمي كارتر رئيساً للولايات المتحدة، قام رابين بزيارة رسمية الى واشنطن في شهر آذار مارس عام 1977. وفي تلك الفترة كنت احد اعضاء مجلس الامن القومي في البيت الابيض. وتبعاً لمعظم الروايات المنشورة فإن الاجتماع بينهما لم يكن على ما يرام، كما ان كارتر ورابين لم يستسيغا بعضهما بعضاً. الا ان الذي لا تذكره تلك الروايات هو ان الرجلين عقدا جولة من اهم جولات المحادثات التي تناولت عناصر التسوية السلمية، التي سمعتها في حياتي. وكنت حاضراً في هذا الاجتماع المغلق الذي عقد في البيت الابيض بصفتي عضواً في مجلس الامن القومي ومهتماً بملف الشرق الاوسط. وكان كارتر حديث العهد بالمنصب، ومن عادته تناول القضايا بصورة مباشرة ومن دون مواربة. ولهذا سأل رابين كيف يتصور السلام مع جيرانه العرب. وعندها رد عليه رابين كما يلي: "ان اسرائيل تسعى الى تحقيق سلام شامل مع كل واحد من جيرانها. اما الضفة الغربية فيجب التفاوض عليها مع الاردن، ولكن مع مشاركة الفلسطينيين في ذلك. ويجب ان يكون السلام قائماً على اتفاقات راسخة وان يؤدي الى اقامة علاقات طبيعية. لكن اسرائيل لن تنسحب انسحاباً كاملاً الى حدود عام 1967، مع انها مستعدة للتفاوض على مدى وحجم الانسحاب على جميع الجبهات، وعلى الترتيبات الامنية الضرورية". ورد كارتر على ذلك بأن اخذ يضغط بشدة على رابين بالنسبة الى مسألة الانسحاب من الاراضي المحتلة، فسأله: "لماذا استثنيت الانسحاب الى خطوط عام 1967؟ ما هو المنطق الامني في ذلك؟" وقال رابين، الذي كان مقبلاً آنذاك على خوض انتخابات "بكل صراحة، ان الوقت غير مناسب لبحث التفصيلات". لكنه كان مستعداً بشكل عام لأن يقول ان اسرائيل بحاجة الى الاطمئنان الى وجود نظام تحذير مبكر ضد اي هجوم مفاجئ، والى قدرتها على الدفاع عن نفسها في وجه اي تحالف من القوات العربية. وسأله كارتر: "ما الذي تقصده؟". وشعر رابين بالانزعاج من اصرار كارتر على التفصيلات ولكنه مضى ليشرح موقفه فقال: "في الضفة الغربية يجب ان تحتفظ اسرائيل بمراكز مراقبة وان تراقب الحركة عبر نهر الاردن، ويجب ان تكون الضفة الغربية ومرتفعات الجولان خاليتين من القوات المدرعة". وبعدئذ اضاف عبارة لا زلت اذكرها بكل وضوح، اذ قال: "ان اي شيء من هذا كله لا يقتضي بالضرورة ان يكون لنا اية سيادة في هذه المناطق". وباختصار، فإن رابين ترك الباب مفتوحاً امام امكانية تلبية احتياجات اسرائيل الامنية من دون ضم اي جزء من الضفة الغربية او الجولان. وبعد ذلك بدأ كارتر يتحدث عن امكانية التمييز بين الحدود السياسية التي ستكون قريبة من خطوط عام 1967، والترتيبات الامنية التي يمكن ان تتجاوز تلك الخطوط. وتبعاً لموقف رابين الذي فهمناه عام 1977 فإن الرأي الذي اعرب عنه كارتر لا يثير اية مشكلة له. لكن رابين فشل في الانتخابات خلال فترة قصيرة بعد ذلك التاريخ وجاء مكانه مناحيم بيغن الذي رفض كلياً مبدأ "الارض مقابل السلام". مات "الخيار الاردني" هل من المحتمل ان تكون آراء رابين تغيرت الآن، اي إثر عودته الى الحكم بعد غياب خمسة عشر عاماً؟ ان الزمن وحده هو الذي سيعطينا الجواب، ولكنني اعتقد ان آراءه الاساسية لم تتغير كثيراً. ففي عام 1977 لم يكن في الضفة الغربية باستثناء القدس اكثر من عشرة آلاف مستوطن. اما اليوم فهناك اكثر من مئة الف مستوطن في هذه الاراضي المحتلة. ووجودهم يعقد كثيراً اية جهود تبذل لايجاد حل لمشكلة الاراضي. وهناك تغيير آخر وهو وضعية الفلسطينيين. اذ انني اشعر ان رابين توصل الى نتيجة مفادها ان "الخيار الاردني" القديم اصبح ميتاً الآن. فهو على استعداد للتعامل مباشرة مع الفلسطينيين، وهو يدرك حق الادراك ان منظمة التحرير الفلسطينية هي التي تتخذ القرارات الاساسية. الا انه لن يوافق على التعامل المباشر مع منظمة التحرير. اما بالنسبة الى المواقف من سورية، فتحليل رابين اكثر صعوبة، فقد تحدث رابين في الماضي وكأنه يرى وجوب ترك سورية الى ما بعد حل القضايا الاخرى. الا انه ألمح في الآونة الأخيرة الى امكان تقديم تنازلات في مرتفعات الجولان. وعلينا ان نتذكر ان الاتفاق الوحيد بين سورية واسرائيل كان في عام 1974 اي عندما كان رابين رئيساً للحكومة. ويرى بعض المراقبين للساحة الاسرائيلية فائدة اخرى محتملة لفوز رابين. اذ ان "ميرتيز" سيطالب بوزارة العدلية او وزارة الداخلية، او بكليهما، ثمناً لمشاركته في الحكومة. والمعروف ان قضايا الحقوق المدنية وقضايا حقوق الانسان تؤلف جزءاً مهماً من سياسة "ميرتيز". ولهذا ففي وسعنا ان نأمل نتيجة لذلك في معالجة قضايا وضعية العرب في اسرائيل اضافة الى العلاقات مع الفلسطينيين في الاراضي المحتلة. ومن "الاخبار الطيبة" التي كشفت عنها الانتخابات ايضاً، اتجاهات التصويت بين المهاجرين الجدد من الاتحاد السوفياتي السابق. اذ تشير الادلة الى ان غالبيتهم صوتوا لحزب العمل او "ميرتيز". وربما كان دافعهم الى ذلك اقتصادياً، ولكن النتيجة كانت تعزيز فرص التسوية السلمية. ومن المرجح ان تستأنف مفاوضات السلام خلال الاسابيع القليلة المقبلة. وعندها سيجد الفلسطينيون والسوريون واللبنانيون والاردنيون انفسهم يجلسون امام مجموعة مختلفة من المفاوضين الاسرائيليين. وليس هناك من شك في ان التوصل الى اتفاق لن يكون عملية سهلة. الا ان من مصلحة الطرفين العمل بسرعة من اجل التوصل الى اتفاقات موقتة. ولهذا فإن عامل الزمن مهم. فالانتخابات الاسرائيلية تفتح الباب امام المفاوضات لاحراز تقدم. وعلى الذين يريدون ان يتحقق السلام في الشرق الاوسط ان يغتنموا هذه الفرصة للتحرك بسرعة الى الأمام، ما دام المجتمع الدولي راغباً في القاء وزنه وراء تحقيق سلام عادل ودائم في الشرق الاوسط. * مستشار الرئيس السابق كارتر وخبير اميركي بارز في شؤون الشرق الاوسط.