يلتهم خروفا في 30 دقيقة    15 مليار دولار لشراء Google Chrome    أقوى 10 أجهزة كمبيوتر فائقة في العالم    تنافس شبابي يبرز هوية جازان الثقافية    لماذا رفعت «موديز» تصنيف السعودية المستقبلي إلى «مستقر» ؟    إصابة طبيب في قصف إسرائيلي استهدف مستشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة    مسودة "كوب29" النهائية تقترح 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة    «اليونيسف» تحذر: مستقبل الأطفال في خطر    3 أهلاويين مهددون بالإيقاف    اختبارات الدور الثاني للطلاب المكملين.. اليوم    "مركز الأرصاد" يصدر تنبيهًا من أمطار غزيرة على منطقة الباحة    "الداخلية" تختتم المعرض التوعوي لتعزيز السلامة المرورية بالمدينة    «الغرف»: تشكيل أول لجنة من نوعها ل«الطاقة» والبتروكيماويات    افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض    وزير الثقافة: القيادة تدعم تنمية القدرات البشرية بالمجالات كافة    المدينة: ضيوف برنامج خادم الحرمين يزورون مجمع طباعة المصحف ومواقع تاريخية    «مجمع إرادة»: ارتباط وثيق بين «السكري» والصحة النفسية    رصد أول إصابة بجدري الماء في اليمن    600 شركة بولندية وسلوفاكية ترغب بالاستثمار في المملكة    آل غالب وآل دغمش يتلقون التعازي في فقيدهم    أمراء ومسؤولون يواسون أسرة آل كامل وآل يماني في فقيدتهم    المملكة تعزز التعاون لمكافحة الفساد والجريمة واسترداد الأصول    نائب وزير التجارة تبحث تعزيز الشراكة السعودية – البريطانية    «واتساب» يتيح التفريغ النصي للرسائل الصوتية    بحضور سمو وزير الثقافة.. «الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    تحفيزًا للإبداع في مختلف المسارات.. فتح التسجيل في الجائزة السنوية للمنتدى السعودي للإعلام    فعاليات متنوعة    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    القِبلة    111 رياضيًا يتنافسون في بادل بجازان    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    30 عاماً تحوّل الرياض إلى مركز طبي عالمي في فصل التوائم    الأكريلاميد.. «بعبع» الأطعمة المقلية والمحمصة    خسارة إندونيسيا: من هنا يبدأ التحدي    مشكلات المنتخب    تأثير اللاعب الأجنبي    فرع وزارة الصحة بجازان يطلق حزمة من البرامج التوعوية بالمنطقة    «النيابة» تدشن غرفة استنطاق الأطفال    «صواب» تشارك في البرنامج التوعوي بأضرار المخدرات بجازان    القبض على مقيم لاعتدائه بسلاح أبيض على آخر وسرقة مبلغ مالي بالرياض    الخليج يُذيق الهلال الخسارة الأولى في دوري روشن للمحترفين    مستقبل جديد للخدمات اللوجستية.. شراكات كبرى في مؤتمر سلاسل الإمداد    "تقني‬ ‫جازان" يعلن مواعيد التسجيل في برامج الكليات والمعاهد للفصل الثاني 1446ه    الأساس الفلسفي للنظم السياسية الحديثة.. !    1.7 مليون ريال متوسط أسعار الفلل بالمملكة والرياض تتجاوز المتوسط    معتمر فيتنامي: برنامج خادم الحرمين حقّق حلمي    سالم والشبان الزرق    الجمعان ل«عكاظ»: فوجئت بعرض النصر    الحريق والفتح يتصدران دوري البلياردو    المدى السعودي بلا مدى    إبر التنحيف وأثرها على الاقتصاد    فيصل بن مشعل يستقبل وفداً شورياً.. ويفتتح مؤتمر القصيم الدولي للجراحة    وزير التعليم يزور جامعة الأمير محمد بن فهد ويشيد بمنجزاتها الأكاديمية والبحثية    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    "العوسق".. من أكثر أنواع الصقور شيوعًا في المملكة    سعود بن نايف يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الوسط" تزور أشهر معامل للعطور الفرنسية . شانيل : امبراطورية عطرية قامت على الورد والياسمين
نشر في الحياة يوم 08 - 06 - 1992

لم يعرف عطر عالمي العزّ الذي عرفه "شانيل رقم 5" الذي اطلق مع السنوات الاولى لهذا القرن وما زال يعتبر احد افضل العطور الفرنسية حتى هذا اليوم، حيث قيل بأن المرأة التي لا تعرفه لا مستقبل لها، لذا قامت "الوسط" بزيارة مدينة "غراس" الفرنسية حيث تقوم مزارع الازهار والورود والمعامل لشركة شانيل وأمضت ثلاثة ايام بين ظهرانيها قابلت خلالها بعض المشرفين على صناعة عطور شانيل وبخاصة جاك بولج الذي لولا انفه لما حصل تقدم في روائح العطور، وعادت من هناك بالتحقيق التالي.
منذ موت كوكو شانيل في العاشر من كانون الثاني يناير 1971، وحيدة في غرفتها بفندق ريتز الشهير في باريس، نزلت الى المكتبات عشرات الكتب عنها، بأقلام كبيرة ومن دور نشر معروفة.
كانت من اكبر الاسماء التي لمعت في القرن العشرين حيث اقترن اسمها بالعطور والازياء والتجميل والاكسسوار والآداب والفنون والسينما والأوبرا وبالكبار الذين أحبوها وبالنجوم السينمائية الضخمة التي اعتزت بحمل عطرها "رقم 5" من مارلين مونرو الى كاترين دينوف وكارول بوكيه اخيراً.
أرادت كوكو شانيل ان تصنع عطراً يحمل اسمها. كانت تعشق العطور وتجد حلمها في قول الشاعر بول فاليري: "ان المرأة التي لا تتعطر لا مستقبل لها". وكانت تصر على تلك "النقطة الصغيرة من الرائحة المنعشة" التي توضع خلف الأذن، تحت الإبط، على الرسغ وفي المكان المناسب من الثوب. ان شخصية المرأة تبدأ بعطرها، وكما ان كوكو احدثت ثورة في الازياء، رأت ان تحدث ثورة في العطور.
كان عطرها "رقم 5" الذي ظهر سنة 1921 هو النتيجة الحتمية لتلك الارادة الصلبة التي تتحلى بها. كانت تريده عطراً متميزاً. فاستدعت الكيميائي الكبير "إرنست بو" الذي عمل لحساب "راليه" في موسكو وكلفته باستخراج تركيبة عطر ثورية لها. كان أرنست اكبر "عطار" في عصره. وأمام السيدة الصلبة التي تعرف ماذا تريد، انحنى إزاء طلبها. الف خمس تركيبات عطرية، منذ الرقم 1 الى الرقم 5. واستعمل فيها عدا الياسمين، ثمانين نوعاً من ازهار مختلفة، ولجأ لأول مرة الى مادة الألدهيد او الغوليد في تركيبتها. وهكذا ولد عطرها "رقم 5".
بلغ العطر رقم 5 شهرة اسطورية، حتى اصبح رمزاً سحرياً لعصرنا الحالي. صار العالم يعرف السؤال الذي طرح على مارلين مونرو وهو: ماذا تفعلين من اجل ان تنامي. وجوابها العفوي: "اضع بعض اللمسات من عطر شانيل رقم 5". حالياً، لا يفارق هذا العطر كارول بوكيه النجمة المعروفة في عالم السينما، الجميلة التي تقود حياتها ومهنتها بكثير من السيطرة والقوة.
بعد العطر رقم 5، دشنت كوكو مجموعة اخرى من العطور. اختارت ارقاماً ايضاً كأسماء لها. العطر رقم 22 "غاردينيا"، سنة 1925 ادهش الانوف برائحته المستخرجة من الازهار. ثم "غابة الجزر" الذي اطلق سنة 1926 و... في سنة 1970 دشنت كوكو شانيل عطراً جديداً هو شانيل رقم 19 اي اليوم الذي ولدت فيه.
بولج المتابع
بعد موت كوكو شانيل لم يتوقف عطرها عن التدفق. فعلى اعتبار ان دار شانيل هي بين القلائل التي ثابرت على انتاج العطر منذ الورد والياسمين حتى التعبئة في الزجاجة وتغليفها، حافظت هذه الدار على رغبة كوكو وبقيت تنتج عطوراً جديدة حفاظاً على ذكراها. ويقول جاك بولج مدير مختبر عطور شانيل "ان دار شانيل حافظت على التقاليد الاصيلة في انتاج العطر الخاص بها". وجاك بولج هو من الجيل الثالث في الدار بعد إرنست بو الذي ابتكر عطر شانيل رقم 5 وبعد هنري روبير المسؤول عن ابتكار العطر رقم 19، وعطر "كريستال" سنة 1974 الذي يعكس ربيع نيسان بحشائشه الخضراء المشبعة برحيق الورود.
ابتكر جاك بولج عطر شانيل للرجال باسم "انتايوس" سنة 1981، ثم "كوكو" للنساء الغني بمركباته من العنبر والتوابل التي كانت حتى حينه محفوظة للشرق وحده. وهو مسؤول حالياً عن ابتكار عطور شانيل وتحسين عصريتها ونوعيتها واختيار انواع الزهور والورود والتوابل التي تدخل في تركيبتها. انه عمل يومي دقيق وصارم. ولا يمكن لأي عطر ان يخرج من المعمل دون موافقة "أنف" بولج عليه.
يستخدم بولج أنفه في تقرير تسويق عطر شانيل او اعادة النظر في تركيبته. أنف بولج يقوم بتمارين الشم يومياً على العطر، مثله مثل انامل الموسيقي التي "ترقص" على البيانو.
في سنة 1990، وفي يوم 23 نيسان ابريل بالذات، اطلق جاك بولج عطر "ايغوييست" للرجال. ودوماً حفاظاً على ذكرى كوكو شانيل تعني كلمة "إيغوييست" الحرفية "الاناني". هذا ما احدث ضجة كبيرة اعلامياً. بالاسم أولاً، ثم رائحة خشب الصندال ثانية، وثالثاً ان "الايغوييست" بالذات هو رجل خارج عن المألوف، يقود حياته بذكاء وبحماس وولع.
هذه الانواع العديدة من العطور التي اكتسبت شهرة عالمية وصيتاً ذائعاً، سواء أكانت مخصصة للنساء ام للرجال، تخضع جميعها الى أسس صارمة من الذوق الرهيف. انها الاسس ذاتها التي تبنتها كوكو شانيل. تقاليد صارمة، وابتكارات تجري في مختبرات عطور شانيل بالذات، مثلها مثل الموضة التي تصمم في الامكان المخصصة لها. فحين يوقع اسم شانيل على تركيبة عطرية ما، فهذا يعني ان الالماسة العطرية تبرق بدون شائبة وان نقطة العطر تفوح على العنق تشرئب بين مثيلاتها وتعرف فوراً من نكهتها.
وردة الربيع وياسمين الصيف
حكاية هذه الامبراطورية العطرية الشامخة حتى النجوم تبدأ من وردة زهرية تدعى وردة ايار مايو ومن ياسمين شرقي يدعى ياسمين الصيف والخريف. لكل عطر من عطور شانيل وروده وياسمينه. والياسمين هو السيد المطلق في تركيبة العطر رقم 5، والورد هو المهيمن العاتي في تركيبة العطر رقم 19. وتوابل الشرق تقيم في عطر "كوكو". ولا يخرج الورد والياسمين إلا من حقول مدينة تقع على بعد خمسة عشر كيلومتراً من مدينة "كان" على الشاطئ اللازوردي. انها مدينة غراس التي تشبه في منازلها المشلوحة بلون اسمر واحد على هضباتها، باقة وردية ضخمة لم تهدأ عن ارتداء ألوانها ولا عن البوح بعطورها منذ القرن الخامس عشر تقريباً حتى اليوم، وبالرغم من تناقص حقول الورود والياسمين تدريجياً امام هجمة العقارات على المدى الاخضر الذي تأوي اليه شتلات الميموزا الصفراء وتغاوي الورد والياسمين على استحياء، فغراس تبقى مدينة الازهار بلا استثناء.
مدينة الوحي والجمال
هنا في "غراس" ولد الرسام الشهير "فراغونار" وعاش وصار بيته متحفاً للعطور. وشهرة غراس تعود الى تاريخ طويل في الصناعة الحرفية. وهي احد وأهم مراكز المادة الاولية العطرية. ويعود 65 في المئة من وارداتها الى تصدير هذه المادة الرائعة. ولا تستطيع اية مدينة في العالم ان تضاهيها في عدد تجمع المعرفة العطرية والباحثين والعلماء والكيميائيين والنباتيين والصناعيين والتقنيين فيها. انها ثروة من ثروات فرنسا، ومصدر العطور المطلق وعاصمة الصناعة العطرية التي لا تضاهى.
كوكو شانيل مثل شعوب الشرق القديمة التي كانت تنقل الاساسي من ثرواتها معها حين تنقلها من مكان الى آخر، استقرت في غراس بقوة وبعقلية انتاجية للورد والياسمين والرحيق.
كان عدد العائلات التي تزرع الورود والازهار في غراس 2000 عائلة في سنة 1925. حالياً لم يعد هناك اكثر من عشرات قليلة من العائلات التي تزرع ازهار العطور فيها. من الاشهر بينها عائلة "مول". وهي عائلة تشبه قبيلة صغيرة تتوزع مهماتها الزراعية منذ اكثر من قرنين. تضم العائلة اليوم الجد الاكبر "مول" عمره تسعون عاماً، لا يزال يقود سيارته "البيك آب" ويقوم بمهمة شراء جميع الحاجيات من السوق البعيدة عن المزرعة. ابنه "جوزيف مول" يشرف على حقول الورود والياسمين. الصهر "جان فرانسوا فييل" مسؤول عن مصنع التقطير. وهكذا وصولاً الى ابناء الابناء والأصهر المتعددين، وكل واحد مسؤول عن عمل معين يبدأ من الادارة والسكرتيريا وينتهي في الحصول على 700 غرام من العطر المكثف الذي يحتاج الى 300 كيلوغرام من ورد ايار لانتاجه.
تعمل عائلة "مول" من اجل شانيل فقط. كل الانتاج الوردي والياسمين لها، بموجب اتفاق خاص. وهذا ما حقق الامان للعائلة والنوعية الاستثنائية لشانيل.
الامان الذي تعيش فيه عائلة "مول" مع شانيل جعلها تلتفت لتحسين نوعية الانتاج الوردي والياسميني. ويقول جوزيف بهذا الصدد: "جميع الانتاج هو لشانيل فقط. وفي كل موسم زراعي اقوم بدراسة طرق جديدة لتحسين الكمية والنوعية. شانيل متطلبة وانا متطلب ايضاً من خلال التقاليد الزراعية الاصيلة للورد والياسمين التي ورثتها عن ابي وجدي".
بدأت الرحلة في حقول شانيل لورود ايار مايو في الثامنة صباحاً. من هذه الحقول الواقعة في منطقة باغوماس، من ضواحي مدينة غراس، تنطلق اولى الحروف من حكاية عطر شانيل الاسطورية. في هذه الساعة بالذات، ومع إطلالة اولى الدرجات الحرارية، تتوزع القاطفات من كل جنسية موجودة في المنطقة على الحقل الوردي. ثياب فولكلورية، قبعات على الرأس، زنانير على الخصور تحمل اكياساً لوضع الورود فيها، قفازات في الايدي للحماية من الاشواك والنحل، شبه صمت في اثناء التركيز على القطف، وكأننا في معبد جنائزي لورود ترحل عن اغصانها الى مقبرة الانسحاق والنزف بعد قليل.
البدء بقطف الورود في ساعة مبكرة ضروري. واذ يجب الانتهاء من القطف اليومي في اقل زمن ممكن. فورود ايار تتفتح في الصباح وتغطي اغصانها حتى تكاد تطغى على الخضرة. في الصباح هذا تكون في عز عبقها بالعطر. فاذا مضى وقت معين عليه، يفقد الكثير من خصوصيته. وانتاج الورد العطري يتم في شهر ايار مايو فقط، ومن هنا تعمل القاطفات المدربات بسرعة هائلة. وللقطف اصول كما يقول "جوزف مول": "يجب القبض على عنق الوردة بالاصبعين وثنيه بسرعة الى الخلف".
كان من الصعب ملاحقة الايدي التي تتكوم فيها الورود وتفرغ منها في الاكياس. كل عاملة تقطف 6-7 كيلوغرامات ورد في الساعة. وهذا على عكس قطف الياسمين الدقيق الذي لا يقطف منه اكثر من نصف كيلوغرام في الساعة الواحدة.
في أقل من ساعة، كان قسم كبير من شجيرات الورد عاد اليه اللون الاخضر في شكل براعم جديدة تتأهب للتفتح في اليوم التالي لتقطع اعناقها من جديد. يتوالى قطف الورد هذا الذي هو من نوع "السانتيفوليا" طوال شهر ايار مايو ولأسبوع آخر بعده ربما، لأن "السانتيفوليا" لا يزهر الا مرة في السنة وفي شهر ايار بالذات، لذلك اطلق عليه اسم ورد ايار مايو. وهو الورد الذي تصر شانيل على انتاجه لأنه يعطي عطراً خاصاً لا يشبه عطر الورد البلغاري او الورد المضاعف اللذين تتم زراعتهما في غراس ايضاً.
تحتاج شانيل الى 120 طناً من الورد سنوياً من ال350 طناً تنتجها مدينة غراس. ويذكر "جوزيف مول" انه ينتج هذه الكمية في موعدها، ويثابر على زراعة شتلات الورد التي تحتاج الى مدة سنتين كي تزهر. وهذا بخلاف الياسمين من نوع "الغراند يفلورم" الذي يستعمل في عطر شانيل رقم 5 بصورة خاصة، والذي لا تبدله شانيل بأي ياسمين آخر. وتنتج مزارع "مول" هذا الياسمين منذ تسعين سنة تقريباً.
وزراعته دقيقة جداً لأنه لا يتحمل الجليد والتجمد. وتجري زراعة هذا الياسمين سنوياً بواسطة طريقة التطعيم، بعد ان اصبح وجوده نادراً في مدينة غراس. من الخريف الى الربيع وحتى تموز يوليو، شهر البدء بالقطاف، تمر شجيرة الياسمين الصغيرة جداً في مراحلها الزراعية مع اقصى الدقة في المراقبة والعناية المستمرة. ويحتاج الكيلو الواحد من الياسمين الى 8000 ياسمينة، بينما لا يحتاج الكيلو من الورد لأكثر من 350 وردة ليصل الى وزنه الصحيح.
من أكياس القاطفات المعلقة الى الزنانير حتى اكياس جنفيص خاصة يتسع الواحد منها عشرة كيلوغرامات من الورد توضع على سيارة جرارة تنقلها بسرعة الى معمل التقطير.
معمل التقطير
يقع معمل تقطير شانيل في مزرعة عائلة "مول" على بعد خطوات من المنزل العائلي الجميل الذي يعود عمره الى مئتي عام. كل شيء يسير بانتظام داخل المعمل الذي يضم احدث الآلات التقنية في فن التقطير. "فرانسوا فييل" يشرف على عملية التقطير من وزن الورد الى عملية اخراج العطر الصرف. عامل يضع الاكياس على "القبّان". يتوقف على الوزن 300 كيلوغرام. يحمل الاكياس الى "سقفية" توجد عليها آلات التقطير للمرحلة الاولى. غطاء ضخم يغلف فوهة الآلة. يأتي عامل آخر ويفتح الغطاء ويكبس على زر لتخرج من الفوهة آلة اخرى بطبقات معدنية مثقوبة. تفتح الاكياس وتوضع الورود على الطبقة السفلى وتدريجياً على بقية الطبقات حتى الاعلى منها. وكلما امتلأت طبقة تهبط الآلة الى الاسفل. وحتى تصبح الطبقة العليا بموازاة الغطاء الذي يُحكم إغلاقه على الورود الزهرية الرائعة.
تأتي المرحلة الثانية وهي املاء الآلة ب2000 ليتر من مادة محللة مشتقة من النفط على حرارة مناسبة وذلك لمدة ساعة. ويعاد ملؤها ب2000 ليتر من المادة ذاتها، ثم تجرى العملية لمرة ثالثة على مدى خمس ساعات تقريباً. اي ان 300 كيلوغرام من الورد يحتاج الى ستة آلاف ليتر من المادة المحللة لاستخراج عطره كاملاً.
تذهب المادة المحللة بعطرها الى آلات "تبخيرية" خاصة تزيل جميع المذيب منها وتبقي على العطر المكثف الذي يبلغ وزنه 700 غرام فقط والناتج عن العملية كلها. اما الزهر المعصور فيخرج من الآلة الطبقية ثانية، ذابلاً اسمر الوريقات منكمشاً على بعضه وهو ينعصر أنيناً من حلاوة الروح الفاقدة لعطرها للابد. ويوضع الزهر هذا في مكان خاص ويجري تصنيعه كسماد لأرض الورد.
ينتقل العطر المكثف في آلة ثالثة او رابعة لتتم عليه عملية تكثيف اكبر وللحصول على ما يسمى بالعطر الصرف الذي يشبه مادة دهنية مجمدة بلونه البني الغامق. ومن ال700 غرام من العطر المكثف يستخرج 350 غراماً من العطر الصرف المجمد.
حسب حسابات شانيل، يكلف زرع الهيكتار الواحد من الياسمين حوالي 500 ألف فرنك فرنسي. ويبلغ ثمن الكيلوغرام الواحد من عطر الورد المكثف، اي عطر ورد ايار مايو 30 ألف فرنك ومثله من الياسمين 110 آلاف فرنك. بالنسبة للعطر الصرف، فيجب ضرب الثمن بإثنين. حسب شانيل ايضاً، فإن الطن الواحد من ورد ايار ينتج 2 كيلوغرام من العطر المكثف. والطن الواحد من الياسمين ينتج 3 كيلوغرامات من العطر ذاته.
تعبئة الزجاجات
يعتبر العطر الصرف المادة الاولية للعطر المصنع في ما بعد في مختبرات خاصة لشانيل هي بادارة جاك بولج، كما اشرنا. ويحتاج استخراج التركيبة حتى مرورها الاخير في أنفه الى اكثر من عام تقريباً. ومن المختبرات هذه الى معمل في كومبيين يجري فيه وضع العطر في حالته النهائية في براميل خاصة محكمة الاغلاق حيث يتم نقلها في حراسة مشددة الى معمل التعبئة في زجاجاتها الخاصة، في منطقة بانتان الباريسية.
أكثر من اربعين امرأة في مراويلهن البيضاء امام آلاف الزجاجات والسدادات والاوراق والعلب والخيوط الذهبية. هنا تبدأ حكاية اخرى هي حكاية تعبئة عطر شانيل رقم 5 ورقم 19 وعطر كوكو.
6000 زجاجة تعبأ وتوضع في علبها يومياً. كل زجاجة وكل علبة تحمل رقماً خاصاً بها كرقم الهوية. وكما كانت تقول كوكو شانيل "ان للرفاهية اشكالها، وان للحب ألوانه"، ففعلاً يسود حب العمل والتمكن من المعرفة اجواء هذا المكان الخارج عن المألوف. فالعاملات يغيرن قفازاتهن عشرين مرة في اليوم، والزجاجات تجفف في الظل قبل ملئها، وتسد جميعها باليد وبخيطان ذهبية خاصة. والى ان يأتي دور وضعها في العلب ولصق الاسماء الخاصة بها عليها، تحت مراقبة شديدة.
كانت "مدموازيل" شانيل تقول "يجب ان نملك الفكر الثاقب والناقد بحذق وكذلك العين بالصفة ذاتها من اجل اخراج عطر من هذا المستوى".
وقالت عنها الاميرة بيبسكو سنة 1928: "نستطيع القول ان حضارة تولد في المكان العامر بالمعجبات بفنها. ان الانتاج الذي نحصل عليه من فنها مقابل اغلى عملة في العالم، ماذا يكون شأنه لولا ذكاء هذه المرأة الفذة؟".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.