يشكل الصيف المقبل مرحلة الاستحقاقات الصعبة في لبنان. ويسود الحياة السياسية جو ضبابي مليء بالقلق والغموض والتساؤلات. وأبرز هذه التساؤلات أربعة: * هل يحصل او لا يحصل اجتياح اسرائيلي للجنوب قبيل الانتخابات الاسرائيلية المقررة في 23 حزيران يونيو الحالي؟ * هل تجري او لا تجري الانتخابات النيابية المتنازع حول شروط اجرائها في شهر آب اغسطس المقبل؟ * هل تنسحب او لا تنسحب القوات السورية الى خط انتشار جديد في البقاع في آخر ايلول سبتمبر عملاً باتفاقية الطائف؟ * هل تطبق اسرائيل او لا تطبق القرار الدولي 425 فتنسحب من الجنوب نتيجة مفاوضات السلام، وبعد الانتخابات الاميركية في الخريف المقبل؟ مما لا ريب فيه ان هذه الاستحقاقات متداخلة ومترابطة وتحمل في طياتها العديد من الاحتمالات والمفاجآت والحسابات المحلية والاقليمية والدولية. وقد تحول الجنوب الى لعبة مفتوحة بين أربعة اطراف رئيسة هي الولاياتالمتحدة واسرائيل وسورية وايران، من خلال ثلاثة لاعبين محليين هم الجيش اللبناني وحزب الله وجيش لبنانالجنوبي. والواقع ان الجيش اللبناني هو لاعب احتياطي ينتظر القرار الاقليمي والدولي، وان جيش لبنانالجنوبي هو لاعب ظاهري يرتبط مباشرة بالقرار الاسرائيلي، وان حزب الله هو اللاعب المحوري الذي بدأ عام 1982 كظاهرة ايرانية وأصولية وصار بعد ذلك ورقة ايرانية - سورية في ما يتعلق بخطف الرهائن الغربيين والافراج عنهم، وأصبح اليوم مقاومة لبنانية تمسك عصب الجنوب الشديد الحساسية، وبنداً من بنود الاتصالات الديبلوماسية والسياسية بين الدول المعنية بالسلام في الشرق الاوسط. *** منذ بداية هذا العام بادرت الادارة الاميركية الى تحديد موقفها من وجود حزب الله في جنوبلبنان ورأت فيه عقبة اساسية امام مسيرة السلام، واشترطت للضغط على اسرائيل ولجعلها تنفذ القرار 425 ان تقوم سورية مباشرة او عبر الحكومة اللبنانية باغلاق ملف حزب الله في الجنوب. وقد وجهت واشنطن مؤخراً رسالة حثت فيها دمشق على التدخل الفوري لوقف العمل العسكري لحزب الله، في ايحاء متعمد بأن حكومة اسحق شامير قد تلجأ الى تنفيذ عملية عسكرية واسعة في الجنوب بغية التخلص من هذا الحزب، وان هذه العملية قد تتسع فتصيب الجيش السوري المنتشر في لبنان. وكان الرئيس حسني مبارك لفت نظر الرئيس حافظ الاسد في الاجتماعين اللذين عقدهما الرئيسان في كانون الثاني يناير وحزيران يونيو من هذا العام الى خطورة استمرار عمليات حزب الله ضد اسرائيل. وقد نشطت مؤخراً الديبلوماسية المصرية، وبالتنسيق مع واشنطن، لحمل الاطراف على العودة الى طاولة المفاوضات الثنائية في روما بدلاً من استمرار التصعيد العسكري الذي لا تحمد عواقبه. وتعاملت سورية بكثير من الجدية واليقظة مع النصيحة المصرية والمطلب الاميركي انطلاقاً من سياسة تتجنب المواجهة السياسية مع واشنطن والمجابهة العسكرية مع اسرائيل. ورسمت خطة رد باتجاهات ثلاثة: اعلان موقف مبدئي، وادخال ايران في اللعبة مع الولاياتالمتحدة، والتنسيق مع طهران لتبريد جبهة الجنوب. الرد المبدئي جاء على لسان الرئيس السوري الذي أعلن "ان سورية ليست حارسة لاسرائيل... ولن تقتل اللبنانيين لأنهم يدافعون عن ارضهم". وفي المقابل اتبعت دمشق منحى ديبلوماسياً جديداً فقدمت ايران على انها شريك ضروري لمعالجة نشاط حزب الله. وقد ادخلت بذلك الى ملف علاقاتها مع الولاياتالمتحدة ملف العلاقة الاميركية - الايرانية. من هذه الخلفية شجعت دمشق في بداية حزيران يونيو الحالي وزير الخارجية الايراني علي اكبر ولايتي للقيام بزيارة العاصمة اللبنانية لإفهام الادارة الاميركية ان اغلاق ملف حزب الله يمر بايران وليس بدمشق وحدها، ويفترض الاعتراف بالدور الايراني في لبنان. وتدعو سورية الولاياتالمتحدة الى ضرورة القبول بمبدأ التفاوض مع ايران بصورة مباشرة او غير مباشرة، وتعرض وساطتها في هذا المجال بعد ان اقتنعت بأن الرئيس الايراني يرغب في فتح صفحة جديدة من العلاقات مع واشنطن. أما على الصعيد العملاني فقد اتفقت دمشقوطهران على تجميد عمليات حزب الله من الجنوب للحيلولة دون قيام اسرائيل بعمل عسكري واسع يهدد لبنان وسورية ويفيد تكتل الليكود انتخابياً، بالاضافة الى اطلاق سراح الرهينتين الالمانيين قبل موعد الانتخابات الاسرائيلية. وهذا يعني الاحتفاظ بورقة حزب الله بانتظار التطورات المستقبلية والتجاوب بالحد الادنى مع الطلب الاميركي. ولكن هل ترضى واشنطن بهذا الرد؟ ان واشنطن تتفهم الموقف السوري غير انها لا توافق عليه. وتعترف الادارة الاميركية بأن ما تبديه سورية من تجاوب مع المساعي السلمية يثير الانتباه، لكن العلاقات الاميركية - السورية ما زالت في مرحلة "اختبار النوايا"، ويبدو جورج بوش غير مستعد للرد على الايجابية السورية في الوقت الحاضر لأسباب انتخابية لا تخفى على احد. كما ان الادارة الاميركية تعترف ضمناً بالدور الايراني في لبنان، لكنها ترى ان مسؤولية معالجة وجود حزب الله في الجنوب يقع على عاتق دمشق، وان ورقة حزب الله بيد سورية باتت محروقة منذ قبول دمشق بالمشاركة في مفاوضات مؤتمر السلام، وان اية محاولة للتفاوض على هذه الورقة تبقى من دون جدوى ومن دون نتيجة. *** في 24 ايلول سبتمبر 1979 زار ياسر عرفات الرئيس اللبناني الياس سركيس وكان هذا الاجتماع بمثابة اللقاء الاخير بين الرجلين في لبنان. وكان جنوبلبنان يلتهب، اسرائيل تقصف المنظمات الفلسطينية والجنوبيين المدنيين بلا هوادة، والمنظمات الفلسطينية تتحدى الجيش الاسرائيلي بكل شجاعة، والوضع ينذر بحرب مقبلة. في هذا اللقاء دعا الرئيس اللبناني الزعيم الفلسطيني الى وجوب تجنب الكارثة وقال له، "انكم تمنعون الجيش اللبناني من الانتشار في الجنوب، وتصرون على انطلاق الكفاح الفلسطيني المسلح منه، ان مصير الجنوب منوط بكم، وانتم مسؤولون عن فقدانه وعن عذاب شعبه. لقد بلغت عملياتكم العسكرية انطلاقاً من الجنوب عتبة خطيرة في ظل انعدام استراتيجية عربية موحدة: فاما المواجهة العسكرية مع اسرائيل على كل الجبهات العربية، واما عليكم ان توقفوا عمليات المقاومة انطلاقاً من لبنان. صدقني، وحدها الشرعية اللبنانية، على ضعفها، تقدر ان تحمي المقاومة وأرض لبنان". ولم تتوقف العمليات العسكرية ولم ينتشر الجيش اللبناني في الجنوب، ووقعت الكارثة في حزيران يونيو 1982 حين اجتاحت اسرائيل لبنان ودمرت البنية العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي اضطرت الى مغادرة الاراضي اللبناني بعد صمود بطولي في بيروت دام ثلاثة اشهر. ومنذ بداية العام 1992 عاد الوضع الجنوبي الى ما كان عليه قبل عشر سنوات، مع فارقين: اولهما ان الذي يقود المقاومة هو حزب الله وليس منظمة التحرير، وثانيهما ان منظمة التحرير كانت تتمتع بغطاء الاتحاد السوفياتي وبدعم عربي يحمي ظهرها، وهذا غير متوافر في الوقت الراهن. صحيح ان الخيار صعب بين منطق الدولة ومنطق الثورة. ومن البديهي ان يتشبث الشعب اللبناني بحقه في مقاومة المحتل بكل الوسائل. ومن الظلم ان يخضع العالم في نهاية القرن العشرين لمنطق القوة بدل اثبات منطق الحق. ولكن الصحيح ايضاً ان التوازن الاستراتيجي بين العرب واسرائيل مختل، وان التضامن العربي ولو بحده الادنى مفقود، وان لبنان اصبح على حافة الانهيار ولم يعد يتحمل التجاذب الاقليمي على ارضه. لقد اختار العرب، على رغم خلافاتهم القديمة والمستجدة، استراتيجية التفاوض مع اسرائيل بدل استراتيجية المواجهة. وقد اتخذت الولاياتالمتحدة قراراً حاسماً بضرورة اغلاق ملف حزب الله في الجنوب بالوسائل السلمية عن طريق سورية، وألا يتم اغلاقه عسكرياً عن طريق اسرائيل. وتبدو المقاومة المحقة في المطلق وكأنها ضرب من المقامرة في الواقع. وقد تكون سياسة تبريد جبهة الجنوب كافية موقتاً لسحب الذريعة السهلة من يد حكومة شامير، لكنها لن تكون كافية لانهاء مأساة الانسان الجنوبي واستعادة الارض اللبنانيةالمحتلة واستبعاد الحرب المدمرة. الحل الوحيد ان يعود الجنوب مسؤولية لبنانية وان ينتشر الجيش اللبناني محل حزب الله بانتظار ان تبسط الدولة اللبنانية سيادتها على كامل اراضيها بعد انسحاب الجيش الاسرائيلي عملاً بقرارات الشرعية الدولية. ويفترض هذا الحل قراراً لبنانياً شجاعاً بتكليف الجيش اللبناني من دون سواه بمهمة الحفاظ على الامن في الجنوب، والدفاع عن الارض في وجه الاعتداءات الاسرائيلية، وفتح باب التطوع امام المقاتلين للانخراط في المؤسسة العسكرية، وضبط كل سلاح غير شرعي من كل المواطنين. ويحتاج هذا القرار اللبناني الى تغطية عربية جريئة من خلال انعقاد قمة عربية موسعة يدعو اليها الرئيسان حافظ الاسد وحسني مبارك ويعمل لها الملك حسين. او على اقل تقدير من خلال قمة عربية مصغرة تضم دول الطوق العربي ومنظمة التحرير الفلسطينية. بعد ثلاثة عشر عاماً ما زال كلام الياس سركيس الى ياسر عرفات ينطبق بالتمام على حزب الله لتجنب الكارثة. صدقوه، "وحدها الشرعية اللبنانية، على ضعفها، تقدر ان تحمي المقاومة وأرض لبنان". × سياسي وكاتب لبناني