الجولة الثالثة من مفاوضات السلام بين الحكومة السودانية و "الثوار الجنوبيين" عقدت في ابوجا نيجريا بهدف ايجاد حل سلمي لمشكلة جنوب السودان في الفترة بين 26 ايار مايو و4 حزيران يونيو 1992، أسفرت عن خطوات متواضعة لكنها لم تؤد الى ايجاد صيغة نهائية لتسوية المشكلة، ولا حتى الى اعلان وقف لاطلاق النار في الجنوب السوداني. وهذه الجولة انعقدت بعد تجربتين فاشلتين من المفاوضات الاولى في اديس ابابا والثانية في نيروبي. فبعد 10 ايام من المفاوضات الشاقة بين وفد الحكومة السودانية برئاسة محمد الامين خليفة ووفدي "الحركة الشعبية لتحرير السودان" - اللذين اتحدا في أبوجا - وباشراف الحكومة النيجيرية، تم التوصل الى اتفاق حول الامورالرئيسية الآتية التي عبر عنها البيان الختامي الصادر عن المؤتمر: 1- اتفق الجانبان على ان الخلاف القائم "لا يمكن حله الا عن طريق التفاوض ولذلك وافقا على استمرار النقاش تحت رعاية الرئيس النيجيري بابانغيدا حتى بعد انتهاء رئاسته لمنظمة الوحدة الافريقية. ويقر الطرفان بأن السودان متعدد الاعراق واللغات والاديان كما يقران بالتنوع في السودان والحاجة الى العمل في اتجاه اجراءات مؤسسية وسياسية للتعامل مع هذا التنوع مسترشدين بالتجربة النيجيرية. 2- اتفق الطرفان على العمل على اقامة فترة انتقالية تهدف اساساً الى تهدئة المخاوف وبناء الثقة بين اطراف النزاع وضمان توزيع السلطات بطريقة تمكن الاطراف من التطور في جو سلام نسبي. ورأى الجانبان العودة الى قيادتيهما لاجراء مشاورات في شأن فرض تحديد بنية ونوعية الاجراءات الانتقالية المطلوبة اضافة الى التأكد من رغبات الشعب المعني فيما بعد". 3- وأقر الاجتماع ايضاً بأن طرفي النزاع يعترفان بالحاجة الى قسمة عادلة للثروة القومية، وبأن الاجراءات الانتقالية يجب ان تشمل اقامة لجنة مشتركة لتوزيع الدخل العام للدولة، واتفقا على الاستفادة من الفترة الانتقالية لاعادة توطين المتأثرين بالحرب، ودعم جهود توفير مناخ صالح للوصول الى اعادة الثقة بين المواطنين. 4- اتفق الجانبان على الاجتماع مجدداً في موعد تحدده نيجيريا لمناقشة قضية التسوية السياسية الموقتة خلال الفترة الانتقالية. ويمكن تسجيل الملاحظات الرئيسية الآتية على هذا الاتفاق: 1- هذه هي المرة الاولى التي توقع فيها الحكومة السودانية والثوار الجنوبيون على وثيقة مشتركة البيان المشترك منذ بدء الحرب في جنوب السودان عام 1983. 2- "الحركة الشعبية لتحرير السودان" - الممثلة للثوار الجنوبيين - ذهبت الى ابوجا وهي منقسمة الى فريقين فريق جناح توريت بزعامة العقيد جون قرنق وفريق جناح الناصر بزعامة رياك مشار ولام اكول يحمل كل منهما ورقة عمل، فاذا بالحركة تتوحد - نتيجة مساعي نيجيريا - في مؤتمر ابوجا ويصدر عن ذلك بيان يعلن التوحيد وقعه وليام نون باني رئيس وفد مجموعة توريت ولام اكول رئيس وفد مجموعة الناصر. وقال باني ل "الوسط": لقد عاد المنشقون الى الاصل وقبلوا الجلوس تحت مظلة الحركة الشعبية وتحت رئاستي، بحكم اقدميتي العسكرية وخبرتي السياسية. ولقد قبلنا التوحد بعد ان فشلنا في اقناع وفد الحكومة السودانية، الذي حضر الى ابوجا، بتحكيم دستور علماني في بلد متعدد الديانات والاعراق. وفشل الوفد الحكومي، بالمقابل، في اقناعنا بصوابية تحكيم الشريعة الاسلامية". اما رئيس وفد "الناصر" لام اكول فقال ل "الوسط": "نحن الذين كسبنا الجولة. فقد كان خيارنا الاوحد هو الانفصال، وتقرير المصير. ووافق الطرف الثاني - يقصد مجموعة توريت بزعامة قرنق - على التنازل عن كل اطروحاته السابقة بتحرير كل السودان، ولهذا عاد هؤلاء ليرددوا معنا نغمة تقرير المصير والانفصال". 3- برز خلاف اساسي بين المتفاوضين السودانيين حول تفسير بعض ما ورد في البيان الختامي، خصوصاً ما يتعلق بما يعقب الفترة الانتقالية. وقال السيد محمد الامين خليفة رئيس الوفد السوداني ان ما اشار اليه البيان هو "التأكد من رغبات الشعب السوداني كله، وليس اجراء استفتاء في جنوب البلاد على تقرير المصير". فيما قال الناطق باسم الوفد الموحد ل "الحركة الشعبية" ريتشارد مولا ان المطلوب هو "اجراء استفتاء في نهاية الفترة الانتقالية"، في حين امتنع وزير الداخلية النيجيري الدكتور تونجي اولا كونجو عن تفسير هذه النقطة. الخلافات الجوهرية الامور التي كانت مثار خلاف في وجهات النظر خلال مفاوضات السلام في ابوجا طاولت القضايا الجوهرية والقضايا الاجرائية في آن معاً. وبدأت هذه الجولة الثالثة وهي تحمل معطيات فشلها في داخلها. وفد الحكومة السودانية اعلن قبل بدء المفاوضات انه لن يساوم على وحدة التراب السوداني، ولن يتراجع عن النهج الاسلامي الذي يطبقه نظام الفريق عمر البشير، مؤكداً تمسكه بتطبيق نظام الفيدرالية، كنمط للحكم في السودان. ذلك ان الحكومة السودانية تعتقد ان الموقف العسكري يميل لصالحها بعد استرداد الجيش السوداني معظم المدن والحاميات التي كانت تسيطر عليها قوات العقيد جون قرنق. ابرز القضايا الجوهرية التي اختلف عليها السودانيون في "ابوجا" هي الآتية: 1- الهوية السودانية، يرى الوفد الرسمي السوداني ان الهوية السودانية عبارة عن خليط من انتماءات ثلاثة: الاسلام والعروبة والافريقية. في حين يرى وفدا الحركة الشعبية ان الانتماء الافريقي هو السمة الوحيدة للهوية السودانية. ويبرر الجنوبيون، قبل الانشقاق وبعده، هذا الطرح الآحادي بقولهم: ان الاسلام والعروبة من الامور الوافدة التي حملها الى السودان الفاتحون العرب الذين نزلوا السودان في حملة محمد علي مطلع القرن الثامن عشر 1820. ولهذا يصر جون قرنق على مبدأ فصل الدين عن الدولة، وعلى تطبيق نظام علماني يتيح للاثنيات السودانية، غير المسلمة، فرصة التعايش. 2- الوحدة الوطنية: الوفد السوداني الرسمي ووفد توريت بزعامة جون قرنق اتفقا في "ابوجا" على وحدة التراب السوداني، في مستهل المفاوضات، ولكن من وجهتي نظر مختلفتين. فالوفد الرسمي رفع شعار الوطن السوداني الواحد منادياً بتطبيق خيار الفيدرالية، التي تستثني الجنوب من تطبيق الشريعة وتتيح للخرطوم مواصلة تطبيق تجربة اسلمة الدولة. في حين تمسك وفد العقيد قرنق بشعار سودان علماني موحد في بداية المفاوضات. وفي الوقت نفسه رفع وفد "الناصر" بزعامة لام اكول، قبل مفاوضات ابوجا وخلالها، شعار الانفصال معتبراً "ان الخرطوم لن تتراجع عن تطبيق الشريعة في الجنوب الذي تستثنيه مرحلياً، لتعود وتنقض عليه لاحقاً، والاستثناء مجرد تكتيك مرحلي". كما قال ل "الوسط" في آذار مارس الماضي. 3- المساواة في المواطنة: يؤكد الوفد الرسمي السوداني ان ليس هناك اية تفرقة بين المواطنين السودانيين بسبب اللون والدين والثقافة، في حين يجمع وفدا الحركة، قبل الانشقاق وبعد توحدهما في ابوجا، على وجود هذه التفرقة ويضربان امثلة كثيرة على وجودها بين ابناء السودان الواحد. ولذا اعتبرا "التفرقة العنصرية" من الاسباب الرئيسية التي قادتهما الى قبول فكرة الانفصال قبولها يعتبر تغيراً كبيراً في اطروحات قرنق وشعاراته والمناداة بحق تقرير المصير للجنوبيين. 4- المشاركة في السلطة: ترى الخرطوم ان اعتماد صيغة الفيدرالية كنظام سياسي، تحقق مبدأ المشاركة في السلطة. وترى مجموعة "الناصر" الانشقاقيون ان المشاركة التي تطرحها حكومة البشير غير عادلة ولا تنصف الجنوبيين. وتقول مجموعة "توريت" بزعامة قرنق ان المشاركة الحقة يمكن ان تتحقق حين يطبق السودان نظاماً علمانياً. وقد طرأ تغير كبير على اطروحات وفد قرنق، ولربما برز التغير في الايام الاولى لمفاوضات السلام ولم يكن قفزة نوعية في مواقف قرنق، حين أعلن وليم نون باني رئيس وفد توريت "ان تقسيم السودان خير من انهياره"... 5- النظام السياسي: اختارت الحكومة السودانية صيغة المؤتمرات الشعبية، كنظام سياسي وسطي بين التعددية الحزبية ونظام الحزب الواحد. في حين ان مجموعة "توريت" كانت تطالب باعتماد الديموقراطية التعددية في كل السودان، قبل ان تختار الانفصال في ابوجا حديثاً. اما مجموعة "الناصر" فترى ان لا بديل من الديموقراطية المطلقة، شرط وجود احزاب تؤمن بالديموقراطية وتمارسها. ولتعذر تطبيق هذا الخيار في الشمال السوداني المتجه نحو تكريس تجربة اسلمة الدولة، رفع الانشقاقيون فكرة الانفصال. 6- اقتسام الثروة الطبيعية: اتفقت الاطراف السودانية الثلاثة على ضرورة اعلان مواطن الثروات في السودان، وتحديد هذه المواطن ثم تقسيمها بصورة عادلة، مع الاخذ بالاعتبار جغرافية الثروة الطبيعية، وبكلام آخر اجبار الخرطوم على الاعتراف، علانية، بوجود مواطن الثروة الطبيعية في الجنوب الغني بالموارد والطاقات الخام. 7- النظام القضائي: تتمسك الحكومة السودانية ب "اسلامية الدولة السودانية" وتطبيق الشرعية في الشمال. وترى مجموعة "توريت" ان الحل الامثل يكمن في تطبيق نظام علماني. في حين ترى مجموعة "الناصر" الانشقاقيون ان الامر لا يعنيها باعتبار انها تطرح الانفصال كحل نهائي لمشكلة جنوب السودان، وتعترف للشماليين بحقهم في تطبيق الشريعة الاسلامية. 8- مشاركة الحركة الشعبية في النظام: ذهب الوفد الرسمي السوداني الى "ابوجا" وفي جعبته خطة متكاملة تفصيلية عن كيفية مشاركة الحركة الشعبية لتحرير السودان في الحكومة المركزية وفي حكومات الولايات حكومات الاقاليم. وطرح رؤية الخرطوم الخاصة باستيعاب القوات المسلحة السودانية لمقاتلي الحركة الشعبية، بعد التوصل الى اتفاق نهائي بين الحركة والنظام السوداني. وتعتمد خطة الاستيعاب على اعادة تأهيل قوات العقيد قرنق وتوزيعها على مشاريع نتاجية وطنية ناجحة. في حين أصرت مجموعة "توريت" على ضرورة استيعاب قواتها في الجيش السوداني، اسوة باتفاقية اديس ابابا عام 1972. في حين ترى مجموعة "الناصر" ان طرحها الانفصالي يسقط هذا الامر من المواضيع المطروحة للنقاش. 9- الترتيبات الانتقالية: تطالب مجموعة "توريت"، في حال التوصل الى اتفاق سلام، بفترة انتقالية تشرف على الجنوب السوداني خلالها قوات الاممالمتحدة ومنظمة الوحدة الافريقية وبعض الدول الصديقة بهدف التحضير لاستفتاء على تقرير المصير. اما الحكومة السودانية فتشترط التوصل الى اتفاق سلام قبل قبول فكرة الفترة الانتقالية. وسبق للحكومة السودانية ان رحبت بفكرة الفترة الانتقالية، من خلال اعلان فرانكفورت الذي وقعته الخرطوم مع لام اكول قبل اشهر قليلة. وتستبعد الحكومة السودانية نهائياً مبدأ مشاركة اطراف دولية او اقليمية في حفظ السلام في الجنوب. اما مجموعة "الناصر" فتقبل بصيغة وسطية للانتقالية من اجل التحضير لاستفتاء يتيح للجنوبيين فرصة تقرير مصيرهم بأنفسهم. 10- وقف اطلاق النار: لا ترغب الحكومة السودانية، التي يميل الميزان العسكري لصالحها، في التوقيع على اتفاق لوقف اطلاق النار. اما مجموعتا "الحركة الشعبية"، فتطالبان بوقف لاطلاق النار كخطوة اولى في اي مشروع سلام مع الخرطوم. جولة جديدة خلال اسابيع؟ بعد انتهاء مؤتمر ابوجا صرح محمد الامين خليفة ل "الوسط"، ان "الحكومة السودانية فوضت الحكومة النيجيرية مواصلة الجهود لعقد جولة جديدة من مفاوضات السلام. وأتمنى ان تكون الحركة الشعبية مستعدة فعلاً للسلام". اما رئيس وفد الحركة الشعبية فقد صافح رئيس الوفد السوداني الرسمي وقال له: "اتمنى ان تتنازلوا قليلاً في الجولات المقبلة". وهكذا عادت الكرة مجدداً الى ساحة الرئيس النيجيري بابانغيدا. وهذا يدفعنا الى التوقف عند المبادرة النيجيرية. الواقع ان المبادرة النيجيرية، المعروفة "بمبادرة بابانغيدا"، بدأت كفكرة في ديسمبر كانون الاول 1990 خلال الزيارة التي قام بها الرئيس السوداني البشير الى نيجيريا. وخلال عشاء رسمي اقامه الرئيس ابراهيم بابانغيدا لضيفه السوداني في مدينة كانو، عاصمة شمال نجيريا المسلم، اشاد البشير بالنظام الفيدرالي الذي مكن نجيريا من التغلب على مشكلة الانفصال في اقليم بيافرا، وطالب البشير الرئيس بابانغيدا بتوظيف ثقل بلاده السياسي، وتجاربها الماضية الناجحة في التغلب على الانفصال، لحل مشكلة جنوب السودان. ورحب الرئيس النيجري بالفكرة، ما يرضي طموحه كرئيس حالي لمنظمة الوحدة الافريقية، وأعلن عن نيته وضع برنامج عملي لتنفيذ الفكرة التي تبلورت لاحقاً تحت اسم "مبادرة بابانغيدا". واستعان الرئيس النيجيري بالسفير المتقاعد اولو سانو سفير نيجيريا السابق في اديس ابابا في مطلع السبعينات وممثلها في منظمة الوحدة الافريقية، ما اتاح له فرصة حضور جلسات العمل التي ادت الى اتفاقية اديس ابابا للسلام بين حركة انيانيا - واحد - في جنوب السودان والرئيس جعفر نميري. واستدعت المرحلة الاولى من المبادرة النيجيرية قيام مبعوث بابانغيدا، السفير اولو سانو، برحلات مكوكية، خلال ايار مايو وحزيران يونيو العام 1991، بين لاغوس والخرطوم بلغت 7 رحلات، وما بين لاغوس ونيروبي بلغت 9 مرات، حيث التقى الرئيس السوداني البشير ووزير خارجيته علي سحلول اضافة الى محمد الامين خليفة، كما التقى المبعوث النيجيري جون قرنق مرات ثلاثاً لام اكول الى جانب عدد من كبار قادة الحركة وهذا مهّد الطريق الى مؤتمر ابوجا. وفي النهاية، وعلى رغم النتائج المحدودة التي تحققت في ابوجا، فقد استطاعت نيجيريا حفظ ماء وجه المؤتمر، وقدمت ورقة تفصيلية خاصة بها للدراسة، نصت على حتمية استئناف اللقاءات "بعد اسابيع" لمواصلة الحوار. وتتطرق ورقة العمل هذه الى تجربة نيجيريا في الحكم والنظام السياسي والقضائي. وتسلمت الوفود السودانية ورقة العمل لعرضها على قياداتها السياسية ودراستها بدقة. بعد ذلك ستتم الدعوة الى جولة جديدة من المفاوضات، في فترة الاشهر الستة المتبقية من ولاية بابانغيدا، الذي لن يشارك في دورة جديدة من الانتخابات الرئاسية في بلاده. ان الفرصة متاحة امام كل الاطراف لاستغلال مهاراتها وخبراتها العسكرية والسياسية، استعداداً للجولة المقبلة التي قد تشهد متغيرات جذرية، او تعيد الامور الى نقطة الصفر.