شكل اجتماع واشنطن حول نزع السلاح والأمن في الشرق الأوسط حدثا مهما بل تاريخيا في حد ذاته: فللمرة الأولى يلتقي معا ممثلو دول عربية عدة وإسرائيل لمناقشة كيفية الحد من انتشار الأسلحة ووقف سابق التسلح وضبط الأمن في الشرق الأوسط وتبادل المعلومات حول استيراد السلاح واتخاذ إجراءات وخطوات "لبناء الثقة" على الصعيد العسكري والأمني بين الجانبين. هذا الاجتماع استمر 4 أيام من 11 إلى 14 أيار - مايو - الجاري وعقد برعاية أميركية - روسية، في مقر وزارة الخارجية الأميركية، بحضور ممثلين عن 13 دولة عربية وإسرائيل، إضافة إلى ممثلين عن أميركا وروسياوالصين والسوق الأوروبية المشتركة وكندا وتركيا واليابان والهند وأوكرانيا, وهذا الاجتماع - الذي يحمل رسميا اسم لقاء مجموعة العمل الخاصة بالأمن ونزع السلاح في الشرق الأوسط - يدخل في إطار المفاوضات المتعددة الأطراف التي تسير في خط مواز لمفاوضات السلام الثنائية العربية - الإسرائيلية. وتقول الأوساط الأميركية بحذر: "لم نصل بعد مرحلة المفاوضات الحقيقية، فالأمر يتعلق بمؤتمر خبراء عليهم أن يحللوا التجارب السابقة في مجال نزع السلاح، ولا سيما التجارب الناجحة بين السوفيات والأميركيين، واستخلاص ما هو مفيد منها لتنمية إجراءات الثقة بين العرب والإسرائيليين". وتضيف المصادر الأميركية: "كان اجتماع واشنطن بداية جيدة. لقد تكلم الإسرائيليون إلى العرب خلال هذه الأيام الأربعة أكثر مما فعلوا خلال أربعين عاما. بل أن إحدى الدول العربية اقترحت أن يكون هناك قدر أكبر من الشفافية في دول المنطقة وأعطت معلومات عن مستورداتها من الأسلحة". الرسالة واضحة، فواشنطن تعتبر أن مجرد انعقاد مثل هذا الاجتماع هو بحد ذاته مهم، ولكن لا يجوز أن نتوقع منه نتائج واقعية ملموسة على الفور، وحدود هذا التمرين يمكن قياسها بسرعة شديدة إذ نستنتج أولا غياب ثلاث قوى عسكرية رئيسية في المنطقة عن هذه المحادثات، وفي طليعتها سورية التي اعتبرت أن حضورها غير مستحب طالما لم يتحقق أي تقدم مهم في إطار مفاوضات السلام الثنائية، وما لم يدرج على جدول أعمال المباحثات حول نزع السلاح موضوع القوة النووية الإسرائيلية، يليها العراق الذي لم توجه إليه الدعوة ولا يزال مستبعدا عن كل المحادثات، في حين قامت الأممالمتحدة بتدمير منهجي لترسانته، ومن ثم إيران التي لم تدع بدورها مع أن نشاطها العسكري الأخير يثير حذرا متناميا في واشنطن. لبنان من جهته، مقتفيا خطى الموقف السوري، قرر عدم المشاركة في هذه المفاوضات التي استبعد عنها الفلسطينيون على رغم أنهم طالبوا بالمشاركة بصورة غير رسمية. وقد برر مصدر في وزارة الخارجية الأميركية عدم إشراك الفلسطينيين في المفاوضات بقوله: "سنتكلم على جيوش وأساطيل على أناس يصنعون السلاح ويحركون قواتهم العسكرية، وكل ذلك لا يعني الفلسطينيين". وهذا موقف يمكن اعتباره متناقضا مع الطريقة التي تقدم بها الولاياتالمتحدة هذه المفاوضات، إذ تلح على أن الأمر يتعلق قبل كل شيء بنماذج إجراءات الثقة التي يمكن أن تتخذ بين العرب والإسرائيليين لتفادي الأزمات الخطيرة والنزاعات وليس للتفاوض في المرحلة الراهنة على خفض القوى العسكرية في المنطقة. والواقع أن الخبراء يدركون جيدا إن إجراءات الثقة تتعلق بالسياسة وبالديبلوماسية أكثر مما تتعلق بعدد القوات المسلحة والسلاح. وثمة تناقض آخر، إذ يبدو أن الأميركيين والإسرائيليين مصممون على قصر هذه المفاوضات على مسائل الأسلحة التقليدية بحيث لا تشمل أسلحة الدمار الشامل والأسلحة النووية والجرثومية والكيماوية، وان كان المسؤولون الأميركيون يقولون أنه "يجب عدم استبعاد طرح أي موضوع، لكن ينبغي تحديد كيفية طرحه". والسبب واضح بالنسبة ألي الإسرائيليين فهم يرفضون أي بحث يتناول قوتهم النووية، أما بالنسبة إلى الأميركيين فهم يعتقدون أن المسائل النووية والكيماوية يجب أن تعالج خارج المفاوضات في إطار آخر مقصور على الدول الكبرى ومن خلال رؤية عالمية تتجاوز المواقف الإقليمية. اتفاق الخمسة الكبار والواقع أنه في التاسع والعشرين من أيار مايو 1991 أطلق الرئيس جورج بوش اقتراحات حول نزع السلاح في الشرق الأوسط، وكانت الخطة الأميركية تقضي بأن تجتمع الدول الخمس الكبرى الولاياتالمتحدةوروسياوفرنسا وبريطانيا والصين وأن تتفق على قواعد تحد من بيع الأسلحة والتكنولوجيا العسكرية التي من شأنها أن تزعزع الاستقرار في المنطقة، وبصورة أدق كان بوش يدعو إلى وقف إمدادات الصواريخ عابرة القارات والى منع إنتاج المواد التي يمكن أن تستخدم في صنع الأسلحة النووية، ومنع استيرادها، والى إخضاع جميع المنشآت النووية في المنطقة لقرابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، كما كان يدعو دول المنطقة إلى الانضمام فورا إلى المعاهدة حول الأسلحة الكيماوية التي تم التفاوض عليها في جنيف والى تعزيز الإجراءات التي تحظر استخدام الأسلحة البيولوجية. وعى اثر هذه الاقتراحات، وابتداء من تموز يوليو 1991 اجتمع الخمسة الكبار مرارا، وخلال الاجتماعات التي عقدوها في باريس ولندن وواشنطن اتفقوا على نقاط عدة: - أولا: كونهم مصدري السلاح الرئيسيين، فهم يتحملون مسؤولية سياسية خاصة في هذا المجال تفرض عليهم مجتمعين أن يسهموا في استقرار الشرق الأوسط. - ثانيا: يجب أن يتبادلوا المعلومات بصورة نظامية حول مبيعات السلاح. - ثالثا: ضرورة التشاور والتباحث حول ما إذا كانت بعض صفقات الأسلحة الضخمة مناسبة أم لا. وبعد أن تم الاتفاق على ذلك ركزوا على أن ليس في نيتهم أن يشكلوا اتحادا احتكاريا لتصدر الأسلحة، واقروا بأن أصعب ما سيواجههم هو التوصل معا إلى تحديد قواعد دقيقة وفعالة في هذا المجال. في 25 آذار مارس الماضي، اثر إرجاء أحد الاجتماعات للمرة الثانية، اعترف ريجينالد بارتولوميو نائب وزير الخارجية الأميركية لشؤون الأمن الدولي: "ليس ثمة اتفاق بين الخمسة الكبار بنسبة 100 في المئة حول الاقتراح الأميركي بحظر مبيعات صواريخ أرض - أرض إلى الشرق الأوسط، وثمة تفاوت في وجهات النظر حول تبادل المعلومات بشأن مبيعات السلاح إلى هذه المنطقة". والواقع أن واشنطن ترغب في أن يتم تبادل المعلومات قبل التوقيع النهائي على الصفقات وهذا ما لم تقبل به سائر الدول الكبرى. في الثالث من حزيران يونيو 1991 وبعد أيام من تصريح جورج بوش اقترح الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران بدوره "خطة السيطرة على السلاح ونزع السلاح" تقوم على حظر الأسلحة الكيماوية والجرثومية وعلى التشدد في مكافحة انتشار الأسلحة النووية لإعطاء المثل الصالح قامت فرنسا بتوقيع معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية وأوقفت تجاربها النووية وعلى السيطرة على مبيعات السلاح على أساس إقليمي. وقال مصدر فرنسي مسؤول ل"الوسط" شارحا ذلك: "إن مبيعات الأسلحة التقليدية يجب ألا تتناقض مع السعي إلى توازن القوى في حده الأدنى، مع احترام حق كل دولة في الأمن". وأخيرا في كانون الأول ديسمبر 1991 قررت الأممالمتحدة أن تدرس إنشاء سجل دولي لمبيعات السلاح تدون فيه بصورة رسمية كل الصفقات المعقودة بين الدول الأعضاء، وقد بدأت مجموعة من الخبراء تجتمع لتحديد الشروط التقنية لهذا المشروع الذي لقي دعما واسعا في المنظمة الدولية والذي يقتضي ضبطه وإتمامه وقتا طويلا وجهودا مضنية. ما هي النتيجة التي سنخرج بها من كل هذه المباحثات والخطط والمناورات الديبلوماسية لصالح نزع السلاح؟ لكي نفهم جيدا ما هو الوضع الحالي لهذا الملف من الضروري التمييز بين أسلحة الدمار الشامل أسلحة نووية وكيماوية والصواريخ أرض - أرض، والأسلحة التقليدية. *الأسلحة النووية: ثمة اتفاق بين الدول الكبرى حول هذا الموضوع لدعم معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وتعزيز سلطة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهي كلها، ما عدا الصين، مصممة على ممارسة كل الضغوط لتأخير تحول البلدان التي يغريها امتلاك السلاح النووي، إلى بلدان نووية. وفي الشرق الأوسط تبقى المشكلة الكبرى مشكلة الترسانة النووية الإسرائيلية، وإذا استمرت هذه الترسانة بواسطة الدعم الأميركي خارج المفاوضات، فما من نظام موثوق به لعدم انتشار الأسلحة النووية يمكن أن يعمل بنجاح. *الأسلحة الكيماوية: المعاهدة التي تحظر الأسلحة الكيماوية والتي تم التفاوض بشأنها في جنيف جاهزة عمليا وستنشر قريبا، والأرجح أن معظم الدول الأعضاء في الأممالمتحدة ستوقعها. وفي الشرق الأوسط سيتوقف كل شيء على الإمكانات الواقعية للرقابة محليا، سواء في إسرائيل أو في الدول العربية. *الصواريخ أرض - أرض: إن الاختلافات بين الدول الخمس الكبرى حول هذا الموضوع كبيرة، فالولاياتالمتحدةوفرنسا وبريطانيا متفقة في ما بينها على تطبيق نظام قاس جدا، والروس في هذا المجال حققوا تقدما مهما في ضبط انتشار الصواريخ، ولا سيما إزاء الشرق الأوسط، ولكن الصعوبة تكمن في انتشار الصواريخ القصيرة المدى في أنحاء مختلفة من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق انتشارا تصعب رقابته. وفي خطر انتقال علمائهم ومهندسيهم إلى بلدان تريد أن تستغل كفاءاتهم في إنتاج الصواريخ عن طريق إغرائهم بأموال طائلة. أما الصين فإنها الأكثر تحفظا، وما زالت تعتبر أن بيع صواريخ أرض - أرض يمكن أن يدر عليها مالا وفيرا ويفتح الأسواق أمام أسلحتها الأخرى. وثمة مشكلة أخرى هي مشكلة التعاون الوثيق بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل في مجال الصواريخ عامة، وهذا ما يوطد قوة إسرائيل في موضوع صواريخ أرض - أرض وفي موضوع التكنولوجيا المضادة للصواريخ عابرة القارات. *الأسلحة التقليدية: هذا الملف هو الأكثر تعقيدا، والتقدم في شأنه هو في الواقع تقدم ضئيل جدا. النيات المعلنة غير قابلة لمناقشة، ولكن الواقع ينقض كل يوم هذه النيات. وتبقى منطقة الشرق الأوسط أول مستورد للسلاح في العالم. فمنذ انتهاء حرب الخليج تضاعفت المشتريات وتجاوزت صفقات الأسلحة الجديدة عشرات مليارات بلايين الدولارات، وتقدر قيمة الصفقات التي عقدتها الولاياتالمتحدة في المنطقة مع إسرائيل ومصر والكويت ودول أخرى بأكثر من 20 مليار بليون دولار. ويقول نائب وزير الخارجية الأميركية، ريجينالد بارتولوميو: "ان مبيعات السلاح، ومن ضمنها المبيعات إلى الشرق الأوسط تتيح للولايات المتحدة أن تساعد حلفائها في الدفاع عن أنفسهم. وتشجع التعاون الإقليمي، وتسهل المفاوضات السياسية بتدعيم الأنظمة المستعدة لمواجهة المخاطر بغية تحقيق السلام". ويضيف جازما "إن الإدارة الأميركية لن تدعم أبدا سياسة تحظر مبيعات الأسلحة الضرورية لأمن حلفائنا ولمصالحنا الوطنية". ومن جهة أخرى قررت وزارة الدفاع الأميركية أن تدعم ماليا حملة مبيعات الأسلحة الأميركية إلى الخارج، وكمثل له دلالته، في الوقت الذي بدأت فيه واشنطن المباحثات العربية - الإسرائيلية حول نزع السلاح كانت شركتا ماكدونال دوغلاس وجنرال ديناميكس تتنافسان على بيع إسرائيل 60 طائرة من طراز "ف - 18" أو "ف - 16". وروسيا من جهتها ليست مقصرة في هذا المجال فمبيعات السلاح لا يمكن التخلي عنها بسهولة لأنها توفر العملة الصعبة. والصناعة العسكرية ما زالت واحدة من أقوى الصناعات في البلاد، ومشاريع تحويلها إلى صناعات مدنية ليست على وشك الإنجاز. لقد أعلن الرئيس الروسي بوريس يلتسين قبل فترة وجيزة: "ن مبيعات السلاح ضرورة بالنسبة إلينا... والأسلحة الروسية شعبية جدا في العالم وهي تجد الزبائن بسهولة". ومنذ أسابيع عرضت موسكو على ماليزيا طائرات من طراز ميغ 29 بسعر يوازي ثلث سعر طائرة غربية معادلة لها... وقد أثار التفاوض هلعا في صفوف الصناعيين الأميركيين والأوروبيين، ومن الواضح أن التنافس بين الشرق والغرب في موضوع مبيعات الأسلحة يستمر على أشده. والتحرك الذي تقوده موسكو في اتجاه دول الخليج يشهد على ذلك ويتضمن استعداد روسيا لتقديم التكنولوجيا العسكرية المتطورة بكلفة زهيدة. وفي مثل هذه الأوضاع كيف تستطيع فرنسا التي تمر مبيعاتها من السلاح في أزمة، وبريطانيا والصين أو سائر مصدري السلاح الصغار أن يقبلوا بالتزام إجراءات تحد من بيع الأسلحة؟ وكيف تستطيع دول العالم الثالث، ولا سيما دول الشرق الأوسط أن تقلص مشترياتها من السلاح أو تنزع سلاحها؟ ان المفاوضات حول الحد من انتشار الأسلحة في الشرق الأوسط تبدو وكأنها انطلقت متعثرة. *خبير عسكري فرنسي في الشؤون الاستراتيجية وقضايا الشرق الأوسط.