"دولة كان اسمها الاتحاد السوفياتي". الدكتور مراد غالب الذي ارتبط اسمه بالاتحاد السوفياتي سنوات طويلة، حين كان سفيراً لمصر في موسكو ثم وزيراً للخارجية في عهد الرئيس الراحل انور السادات، يتذكر هذه الدولة العظمى ورجالاتها وزعماءها وتجربتها واخطاءها. وهو يتطرق، في هذه الحلقة الثالثة من الحوار الذي اجرته معه "الوسط" الى المرحلة التي سبقت انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاءه كدولة، ويتناول اسباب ذلك. ويتابع مراد غالب، حتى اليوم، ما يجري في الجمهوريات التي كانت تشكل الاتحاد السوفياتي ويعتبر احد ابرز الخبراء المصريين في شؤون هذه الجمهوريات. وفي ما يأتي الحلقة الثالثة من ذكريات مراد غالب: * شتان ما بين صورة الاتحاد السوفياتي الآن وقد انتهى كدولة وككيان موحد وكفكرة - وصورته عندما تعاملتم معه عن قرب كسفير لمصر في موسكو وكوزير خارجية مصر. ما الذي ادى الى نهاية الاتحاد السوفياتي من واقع خبرتكم في الشؤون السوفياتية. هل الافكار نفسها؟ ام الجمود النظري؟ ام الخلل في التطبيق؟ - من دون شك نقلت ثورة 1917 روسيا والامبراطورية الروسية من موقع الى موقع آخر مغاير تماماً، واذا اجلنا الحديث عن الاخطاء والخطايا، لا بد ان نعترف انها حررت الانسان السوفياتي، الذي كان يباع رقيقاً مع ارضه في ظل نظام اقطاعي فريد في قسوته. الثورات، عموماً، تحدث تغييراً ضخماً في حياة البشر، وبالذات ثورة بهذا الحجم مبنية على اساس ايديولوجي اعلنت انها تنتصر للانسان لو حريته الاجتماعية - الاقتصادية. ولكن ما حدث هو انها اقامت نظاماً ديكتاتورياً شمولياً عنيفاً للغاية، وانا افهم هذا في مراحلها الاولى تاريخياً، لمواجهة اعدائها، او خصومها، او اصحاب المصالح التي ضربتها، خصوصاً ان الاتحاد السوفياتي هوجم من جميع الجهات وقت الثورة، وواجه حرباً اهلية، واحتمالات التدخل الاجنبي، ولكن ان يتحول الامر الى مجموعة من المتمصلحين تركب الثورة وتبني مثل هذا البناء الديكتاتوري فهذا غير مفهوم، واستمراره غير مبرر. ان الإشكال الذي حدث في الاتحاد السوفياتي هو ان المجموعة التي ركبت الثورة لم تعرف متى يجب ان تنهي ديكتاتورية الثورة، ليعيش المواطن في ظل الديموقراطية. على اية حال لم نشهد ثورة في التاريخ قامت بهذا، وبالتالي استسلمت الثورة الشيوعية لعمليات البطش والتنكيل لكي تواجه اعداءها الكثيرين من جهة، ولكي تدخل سباقاً مع الزمن لمعالجة التخلف العلمي والاجتماعي البشع الذي خلفته روسيا القيصرية من جهة اخرى. عندما بدأ الاتحاد السوفياتي تنفيذ خطته الخمسية الاولى، نجح عام 1929 في اللحاق بمستوى الدول الاوروبية، ولكن بتضحيات مخيفة واعمال اقل ما توصف به انها غير انسانية. * ما هي مشاهداتك او انطباعاتك الشخصية عن هذه الطبقة التي ركبت الثورة؟ - كانوا شيوعيين يؤمنون بالدرجة الاولى بأنهم يجب ان يصبحوا دولة عظمى تدخل مع الولاياتالمتحدة الاميركية في سباق تسلح وفي سباق علمي. وفي مرحلة من المراحل ايام الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف، كان الماريشال غريتشكو يقول لي بفخر: "لقد اصبحنا متعادلين مع الاميركان في مستوى التسليح وحجمه"! كانوا ينظرون الى كوكبنا باعتباره شيئاً تتناصفه القوتان العظميان. اما عن ثمن هذا الهاجس المدمر في ذهن السوفيات فكان مستوى معيشة متدنياً للغاية، واقل من الدول الشيوعية الاوروبية، حتى ان تشيكوسلوفاكيا حين قامت بثورتها الكبرى على الشيوعية عام 1968 بقيادة دوبتشيك كان السوفيات - وحتى قادتهم - يتساءلون: "لماذا يثور التشيكيون، انهم يعيشون افضل منا؟". وأذكر انني حين ذهبت الى موسكو عام 1953 لأعمل في السفارة المصرية، أخذت اتساءل بدهشة: أهذا هو النظام الاشتراكي الذي يتحدثون عنه". جحافل من الناس تسير في الشوارع مرتدية نوعاً واحداً من المعاطف الصفيقة النسيج والكئيبة اللون! ولما ذهبت الى "البولشوي" كي اشاهد باليه جيزيل في ثاني ايام وصولي الى موسكو، وجدت نفسي امام قطعة رفيعة من الفن، واحساس مبهر بالجمال والألوان، فزادت حدة تساؤلاتي: "أهؤلاء هم انفسهم الذين اراهم في الشوارع؟". ان ما قصم ظهر المجتمع السوفياتي، هو الهاجس الذي عاشوا في اسره يتكلمون عن ضرورة ان يكونوا "قوة عظمى". وللتدليل على صحة هذا الاعتقاد ان ستالين طرح في المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي السوفياتي نظرية ان السوق العالمية تنقسم الى سوق رأسمالية وسوق اشتراكية، وان ظهور السوق الاشتراكية الكبيرة اصبح يعني تقلصاً في الرأسمالية، وان الصراع المقبل سيكون بين الرأسماليين انفسهم بصعود المانياواليابان. لقد عاشوا يحلمون بأن يكونوا قوة عظمى ولم يحاول احد ولم يجرؤ احد على توجيه انتقاد الى الاشتراكية ذلك الصنم المقدس الذي لا يمس! * تحدثت طويلاً عن التقدم العلمي الذي ارادوا احرازه، ولكن المؤرخ السوفياتي اليكسي فاسيليف يقول: "فلتذهب الى الجحيم دولة عظمى لا توفر لمواطنيها قرص الاسبيرين عندما يعاني من الانفلونزا". ما تفسيرك لوضع دولة تحقق انجازات تكنولوجية باهرة في مجال التسلح وغزو الفضاء، بينما تتضاءل هذه الانجازات في كثير من قطاعات الحياة المدنية؟ - هذا ناجم عن الخلل في ترتيب الاولويات، فلم تكن حياة الانسان ومستوى معيشته امراً وارداً ابداً وسط الاندفاع المحموم وراء فكرة الدولة العظمى. لقد ذهبت الى موسكو في البداية سكرتيراً ثالثاً في السفارة المصرية، وكان عزيز باشا المصري هو السفير، وكنت وعزيز باشا ذات مرة نركب سيارة تاكسي، واذا بسائقها يجأر بالشكوى لنا، قائلاً: "تصوروا كيف نعيش؟ أليس العمال عندكم يعيشون افضل منا؟ ان مرتبي 400 روبل وكان الروبل القديم وقتها وهذا المرتب لا يكفي ان اشتري لابنتي حذاء تضعه في قدميها، انظروا الى مرتب اي جنرال ستجدانه 1500 روبل، ثم يقولون لنا ان هذه حكومة عمال!!". كان بعض الزعماء السوفيات متنبهين الى هذا، واذكر ان مازاروف، احد اعضاء المكتب السياسي للحزب، قال لي: "هناك 50 مليون مواطن سوفياتي لا يكفيهم دخلهم لأن يبقوا على قيد الحياة!!". بهذا المعنى ايضاً كان بريجنيف يحدثني بعد حرب 1967 قائلاً: "انتم لم تحاربوا، نحن كنا مربوطين على المدافع في الحرب العالمية الثانية، وحينما كان احدنا يحصل على قطعة من الزبد بحجم القرش صاغ كان يعتبر انه حصل على وليمة، لا تكلمونا مقارنين مساعداتنا لكم بمساعدات اميركا لاسرائيل، فنحن نقتسم معكم رغيف خبزنا". اريد ان اقول انهم كانوا يحسون بالمصاعب الداخلية ويحاولون حلها، ولكن في اطار الأيديولوجية وفي اطار النظام الشمولي، واهم من ذلك في اطار رغبتهم واحساسهم وسعيهم لأن يكونوا قوة عظمى، بغض النظر عن الثمن الذي يدفعونه نتيجة هذا السعي. ستالين ذبح عالماً مسلماً * هل يمثل هذا المسلك جحوداً نظرياً أم خللاً في التطبيق؟ - لا نستطيع الفصل بين النظرية والتطبيق، فالديكتاتورية حتى لو اسمت نفسها "ديكتاتورية البروليتاريا" هي في النهاية ديكتاتورية. التطبيق الاشتراكي الذي حدث في الاتحاد السوفياتي مشوه تماماً بعامل الديكتاتورية، بالاضافة الى ان النظرية نفسها تحوي مشاكل ضخمة، ومنها موقفها من الدين او القومية. والذين حكموا الاتحاد السوفياتي وقالوا بعدم القومية هم اكثر الناس تطرفاً في الوطنية وبالذات في الحزب الشيوعي السوفياتي. والذين حكموا الاتحاد السوفياتي ليحلوا الشيوعية محل الدين، فشلوا لأن الدين ظل موجوداً حتى اتيحت له فرصة الظهور بعد الانهيار الشيوعي. كنت استمع - همساً - من الكثيرين، وبالذات في الجمهوريات المسلمة الى مقولة: "لقد حاولوا ان ينشئوا ديناً مبنياً على المادية، ولم يحلوا القضية من الاساس، فمن الذي اوجد هذه الكمية الهائلة من المادة التي تملأ الكون من حولنا". هذا الطرح كان يجعلني اراجع كثيراً افكاري عن الصراع الانساني، فهو صراع بين عناصر ومكونات معينة، لا تسفر ولا تؤدي وظيفتها الا مع "التوازن". المجتمعات الانسانية تتكون من الكثير من العناصر والمكونات، وتظل هذه المكونات في حالة صراع اجتماعي، الى ان تستقر ويصبح كل منها ممثلاً في المجتمع وراضياً، وهذا ما يوصلنا الى الديموقراطية كعملية اساسية في المجتمع، اما افكار الغاء الدين كأحد مكونات الحياة، او الغاء فئة اجتماعية قسراً فهي افكار ضد الناموس الانساني، وضد العمليات الطبيعية التي نعيش في اطارها، وقد ذكرت بعضاً من افكاري هذه في مناقشات متتالية في مراكز ابحاث ودراسات سوفياتية، اهمها في اوزبكستان التي انفعل الحضور فيها بهذه الافكار كثيراً. وكمثال للجمود الشيوعي في موضوع الدين فإن ستالين ذبح عالماً مسلماً تترياً لمجرد شعوره بأن افكار هذا العالم المنفتح تهدد الشيوعية في عقر دارها. وأعود الى القومية، وأقول ان النزاع الصيني - السوفياتي ابرز الى اي حد تتبدى العصبية الوطنية الروسية، في الوقت الذي يدّعون فيه من وجهة النظر الشيوعية انهم غير مؤمنين سوى بالأممية البروليتارية، فقد وصف الصينيون ثورة المجر عام 1956 بأنها تفجير للوطنية في حدها الاقصى افرزته السوفياتية الدولة العظمى الأم. * لفترة طويلة لم يكن هناك ما يدل على ازمة حقيقية في التكامل القومي بين وحدات الاتحاد السوفياتي، وفجأة انفجرت الازمة، بحيث اصبح التفكك هو التعبير الواقعي عن حال هذا الاتحاد اليوم، هل لمست اية مقدمات لهذا اثناء فترة وجودك في الاتحاد السوفياتي؟ - كانت كل المقدمات في شكل الهمس، فلم يكن هناك سماح بالمناقشة في امور كهذه، كنت اشعر بهذا بالذات عند القوقازيين، وفي المرة الاولى التي جاءت فيها فرقة رضا لتقدم عروضها في موسكو رأيت مجموعات من القوقاز يأتون بأبنائهم لمشاهدة العروض، ولما سألتهم عن سبب هذا الاقبال، اجابوا بأن هذه فرقة من المسلمين. * تذكر حكاية "الهمس" كثيراً، كيف كنت تؤدي عملك كديبلوماسي في عاصمة يخاف فيها الناس من الكلام؟ - كان اتقاني للغة الروسية ييسر الامر كثيراً، ثم معرفتي ب "كود" العلاقات الاجتماعية هناك، فإذا جلست الى شخص جلسة خاصة، ثم افشيت ما قيل اكون حكمت على نفسي بأن اواجه مقاطعة اجتماعية شاملة، وفقدان كل مصادر معلوماتي. حوار مع اندروبوف * هل كنت تشعر بسطوة جهاز الامن السوفياتي، وباتساع دائرته باستمرار لتشمل كل شيء؟ - الاحساس بهذا موجود في كل لحظة، ولكنهم كانوا يبررون ذلك بأنهم في حالة صراع مع الولاياتالمتحدة وانهم يعيشون في مستوى معيشة اقل من الاميركان بكثير، وبالتالي ينبغي ان يمنعوا محاولة الدعايات الغربية النفاذ اليهم، ولا يكون ذلك الا بسيطرة كاملة للأمن!! وفي حديث لي مع اندروبوف عام 1966 قبل ان يصبح رئيساً لجهاز المخابرات ومن بعدها رئيساً للبلاد، قال لي: "لقد آن الاوان كي نعطي هذا الشعب حقه، فالسيطرة على افكار الشعب كانت سهلة ايام ستالين، فهناك محطة اذاعة واحدة، وهناك امكانية لتركيب ميكروفون في كل بيت وكل حجرة، لنقول لهم اناء الليل واطراف النهار انهم يعيشون في افضل مستوى معيشة، وان الرأسماليين مصاصو دماء، وان الرأسمالية سحقت الانسان ايام الثورة الصناعية، وفجرت الاطفال بالديناميت في المناجم، وبالتالي كانت التعمية سهلة، اما الآن فهناك 120 الف شخص يغادرون الاتحاد السوفياتي سنوياً في زيارات ورحلات، وهناك حركة تجارية وثقافية حول العالم، ويأتي الاباء ليقصوا للابناء كيف يعيش العالم بسعادة في ما وراء البحار، ولم يعد من الممكن اخفاء شيء، وفي المستقبل سيزداد الامر صعوبة حين يستقبل كل مواطن في تلفازه ارسال الاقمار الصناعية ويكتشف الحقيقة التي اخفيت عنه طويلاً!!". * هل تعتقد ان التغيير في الاتحاد السوفياتي بدأ من اندروبوف؟ - نعم هذا دقيق جداً، فقد اصبح اندروبوف بعد فترة وجيزة مسؤولاً عن "كي. جي. بي" المخابرات السوفياتية. وكانت امامه صورة الوضع كاملة، مأساة الاقتصاد السوفياتي، ومأساة الشعوب السوفياتية، وبالتالي كان اكثر الذين يعرفون الحقيقة، واكثر الذين يعرفون الحلول. * أنت تفسر اصلاحية اندروبوف بأنه كان رئيساً لجهاز "كي. جي. بي" وبالتالي يعلم ما يعلمه الآخرون، فبماذا تفسر انضمام رئيس "كي. جي. بي" ياناييف في محاولة الانقلاب الفاشلة على غورباتشوف في آب اغسطس 1991؟ - انقلاب ياناييف لم يكن مبنياً على معرفة بالحقيقة، بقدر ما كان مبنياً على فرضية خاطئة تقول بأن الشعب ضاق ذرعاً بالبيرسترويكا بعدما انخفض مستوى معيشته اكثر، والدليل على ذلك تركهم لشخص مثل يلتسين يفعل ما يريد، فهم لم ينظموا التدخل او السيطرة اعتماداً على الفرضية الخاطئة السابق ذكرها. ال "كي. جي. بي" كان منقسماً ايضاً، وقد تصور قادة الانقلاب ان مجرد اقصاء شخص رئيس الدولة، مثلما حدث مع خروتشوف من قبل، هو أمر يحل كل شيء، ونسوا حجم التغيير الذي اصاب نفسية المواطن السوفياتي، والوزن النسبي لقيمة الحرية عنده بعد البيرسترويكا. * يرى بعض المحللين ان الاتحاد السوفياتي لم يكن سوى صورة جديدة للامبراطورية الروسية المتوسعة حولها، هل وجدت ما يؤكد التفوق الروسي داخل الاتحاد السوفياتي من قبل؟ - من دون شك جمهورية روسيا هي اساس الاتحاد السوفياتي، وقوة الدولة في الاتحاد تأتي من روسيا وأوكرانيا وكازاخستان. ومن هنا، كان حرص الاتحاد السوفياتي، ليضمن تماسكه، ان يجعل كل الجمهوريات ممثلة في قياداته، فستالين كان من جورجيا، وبودغورني كان من اوكرانيا، ومازاروف كان من روسيا البيضاء، وميكويان كان من ارمينيا، وعلى رغم هذا فان الثقل النوعي لروسيا في بناء الاتحاد السوفياتي كان اكبر من اية جمهورية اخرى، فهم يعتبرون انهم قدموا لهذا الاتحاد كل الرموز الثقافية والعلمية والموسيقية التي يزهو بها. سؤال باسترناك الخطير * انتهى الاتحاد السوفياتي بعدما كان دولة عظمى خرجت من الحرب العالمية الثانية على رأس معسكر عالمي قادر على منافسة المعسكر الغربي. هل توقعت في اي وقت خلال عملك في الاتحاد السوفياتي مثل هذا المصير الذي يواجهه الآن؟ - ليس بهذه الصورة بالطبع، كانت كل الجدليات التي شاركت فيها تمس الديموقراطية كعملية ضرورية في الحزب أولاً وفي المجتمع ثانياً، ثم الاقتصاد السوفياتي ومدى قدرته على تحمل سباق التسلح. كنت اتوقع ان يغير الاتحاد السوفياتي نفسه، ولكن التغيير حدث اسرع وأقرب بكثير جداً مما تصورت، وحدث بشكل ثوري وليس اصلاحياً، كنت اتصور ايضاً ان يكون التغيير داخل الحزب، فاذا به يمسح هذا الحزب. * مع من كنت تفضل مناقشة مثل هذه الافكار اثناء وجودك في الاتحاد السوفياتي؟ - الفئات الاهم عندي كانوا الكتاب والمجموعات المثقفة، وكان منهم بوريس باسترناك، مثلاً، الذي طرح في روايته "دكتور زيفاغو" سؤالاً خطيراً جداً، حول اذا كانت الثورة تستحق كل هذه التضحيات، وكان يرى ان هذه الثورة سحقت الانسان السوفياتي، وجعلته انساناً اصطناعياً، وعندما التقيت بوريس باسترناك، دار بيننا حوار طويل عن الحرية، رددت خلاله على مسامعه مقولة لطاغور مؤداها "ان اسوار السجن بشعة ولكن اسوار العقل ابشع". ومن حديث باسترناك ارى انه لم يكن رأسمالياً، ولكنه - فقط - كان يريد حرية مناقشة، وشكلاً من اشكال الديموقراطية داخل المجتمع، ولكنه لم يكن يطمح الى تغيير جذري، او يسأل نفسه كيف نحطم كل هذا ونبني شيئاً جديداً، لم يكن باسترناك يحلم بشيء كالذي فعله غورباتشوف ابداً! من اصدقائي المثقفين ايضاً كان الشاعر يجفيني يفتوشنكو الذي كان يزورني باستمرار في مبنى السفارة، وهو اصلاً من عائلة كانت تتاجر في السكر ابان حكم القياصرة، ومعروف ان تجار السكر كانوا من الطبقات الثرية في المجتمع الروسي، ولذا كان مقر السفارة فخماً للغاية، وقد زار يفتوشنكو القاهرة 1968، وعندما عاد الى موسكو سألته عن اهم انطباعاته فقال لي: "الشبه الشديد بين الهرم والحزب الشيوعي السوفياتي، فكلاهما يثير فيك اقصى الفضول لتصعد الى قمته، فاذا ما صعدت الى القمة لن تجد شيئاً!!". * بهذا المعنى فان الفنون التي بهرت بها في بداية تعرفك الى موسكو، كالباليه، هي فنون نظامية جماعية، اما عندما التقيت الفنانين على المستوى الفردي وجدتهم ضد النظام؟ - النظام او "السيستم" لا يقدم فنانين، فهو لم يقدم تشايكوفسكي، ولا ريمسكي كورساكوف، ولا دستويفسكي، الذي ظهروا وابدعوا قبل ان تظهر الشيوعية. ولكن هذا النظام بطبيعته الديكتاتورية كان يمثل قيوداً في بعض الاحيان، حتى على تناول او دراسة ابداعات بعض المبدعين بحجة تضادها مع فكر النظام الشيوعي. فأعمال دستويفسكي، مثلاً، كانت محرمة حتى الستينات. وأذكر ان الفريق عزيز المصري سفير مصر في موسكو ذهب للقاء اندريه غروميكو وزير الخارجية، واذا بالحديث بين الرجلين يتحول الى حديث ادبي أخاذ، وفجأة سأل غروميكو الفريق عزيز المصري: "ما الذي يعجبك في الادب الروسي؟" فأجابه: "اعمال دستويفسكي" فاندهش غروميكو جداً وقال: "ولكن دستويفسكي لا يكتب من اجل الشعب!" فرد عزيز المصري: "ولكنه يصور الجنون الروسي اروع تصوير!!" وانهى غروميكو المقابلة التي كانت الاخيرة بينه وبين الفريق عزيز المصري! وما دمنا نتحدث عن الثقافة وموقف المثقفين داخل النظام الشيوعي اذكر ان وزيرة الثقافة السوفياتية السابقة قالت لي عام 1970: "انني اتولى اصعب مهمة في مجلس الوزراء، وهي احباط وتهدئة بركان المثقفين!!". سياسة غورباتشوف ماذا كان تقييمك لسياسة غورباتشوف الجديدة في بدايتها. هل نظرت اليها كبداية تراجع ام محاولة للمواجهة بأساليب جديدة؟ - كنت سعيداً جداً باختيارات غورباتشوف، وأرى ان الانسانية ستتوقف طويلاً امام ما قدمه هذا الرجل لها، بدءاً من المضي في طريق القضاء على المواجهة النووية بين العملاقين، واحلال افكار التعاون محل الصراع، واعلاء افكار حقوق الانسان واطلاق القوى الديموقراطية الجديدة، هذا الرجل غير النظام العالمي كله واوجد فكراً جديداً ورؤية جديدة، ولكن متاعبه الداخلية قللت من اهمية انجازه. * هل الخلل في سياسات غورباتشوف الداخلية جاء من مضمونها ام من اساليب تنفيذها؟ - ما حدث في الاتحاد السوفياتي في نهاية عهد غورباتشوف شديد الشبه بما اعقب الثورة البولشفية مباشرة، فقد صاحبها مجموعة من الانهيارات والمجاعات، وتفككت الامبراطورية مثلما يتفكك الاتحاد الآن، وبعد ذلك ظهرت وسائل القمع والسيطرة لتحتوي الموقف تحت لافتة ايديولوجية جديدة هي ديكتاتورية البروليتاريا، وهو ما يمكن ان يحدث في الاتحاد السوفياتي الآن بصيغة اخرى حين تفرض الحاجة الاقتصادية تجمع الاتحاد في شكل ما يتيح الاعتماد المتبادل لجمهورياته بعضها على بعض. نعم، الشبه شديد بين ما جرى في الاتحاد السوفياتي قبل انتهاء هذه الدولة، وما اعقب الثورة البولشفية، حتى الاتهامات لغورباتشوف بأنه عميل اميركي او لشيفردنادزه بأنه عميل صهيوني، هي مماثلة لاتهام لينين بأنه عميل الماني، أتى به الألمان في قطار مصفح ليعقد صلحاً منفرداً بعد الحرب العالمية الاولى. * وماذا عن رؤيتك الشخصية لغورباتشوف. بماذا يختلف عن خروتشوف وبريجنيف واندروبوف وتشرنينكو؟ - عندما كنت في الاتحاد السوفياتي كان غورباتشوف صغيراً يبلغ من العمر حوالي 32 عاماً، ويعيش في شمال القوقاز، وهو يمثل جيلاً جديداً، تعرفت على فكره من خلال اكثر من نموذج كانوا جميعاً يشتركون في ان الاتحاد السوفياتي لا يستطيع ان يتحمل اكثر من ذلك، ولا يستطيع ان يتقدم بهذا الحمل، وعليه ان يتخلى عن الكثير من سياساته والتزاماته حتى يدخل مرحلة جديدة تتوافق مع النظام العالمي الجديد الذي تشكله ثورة العلم والتكنولوجيا... ثورة الهندسة الوراثية وثورة المعلومات والنظام الاقتصادي الذي اخترق بالسوق العالمية الحدود القومية والوطنية. * ما هي اللحظة المحددة التي تصورت عندها ان نظام القطبية الثنائية انتهى؟ - عندما بدأ غورباتشوف يطرح نظريته حول ضرورة احلال توازن المصالح محل توازن القوى، واحلال التعاون محل المواجهة. * هل تتصور امكان استقرار نظام عالمي جديد احادي القطب لتهيمن عليه الولاياتالمتحدة؟ - انا مؤمن بأننا نعيش مرحلة انتقالية بين نظام ثنائي القطبية ساد العالم بعد الحرب العالمية الثانية وبين نظام آخر يتشكل الآن ولكن ملامحه وقسماته النهائية لم تتحدد بعد. فاذا كانت الشيوعية انهارت، فإن الرأسمالية لم تحل مشاكلها بعد، وحسم شكل العالم الجديد ستقرره القوى الصاعدة وهي اليابانوالمانيا واوروبا الموحدة. الاسبوع المقبل: الحلقة الاخيرة