سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
في حوار طويل عن "دولة اسمها الاتحاد السوفياتي" تنشره "الوسط" على حلقات . مراد غالب يتذكر : بريجنيف بكى أمامي بعد طرد الخبراء السوفيات وخروتشوف قال للسادات: "الوحدة العربية اكذوبة" 2
يواصل الدكتور مراد غالب، في حواره مع "الوسط"، الحديث عن ذكرياته عن الاتحاد السوفياتي الذي كان، وعن العلاقات المصرية - السوفياتية والعربية - السوفياتية. ويكشف غالب في الحلقة الثانية من الحوار معلومات مهمة عن علاقات الرئيس الراحل انور السادات مع السوفيات، وعن قراره طرد الخبراء السوفيات من مصر، كما يتطرق في هذه الحلقة الى تأثير الصراع الاميركي - السوفياتي في الشرق الاوسط على العلاقات العربية - العربية. وأهمية ما يقوله مراد غالب في ذكرياته هذه نابعة من ان الرجل شغل منصب سفير مصر في موسكو لمدة 10 سنوات، وانه عين في عهد الرئيس الراحل انور السادات وزيراً للخارجية ثم وزيراً للاعلام، وهو يتابع، حتى اليوم، ما يجري في الجمهوريات التي كانت تشكل الاتحاد السوفياتي، الى حد انه يعتبر من ابرز الخبراء المصريين في الشؤون السوفياتية والروسية. وفي ما يأتي الحلقة الثانية من ذكريات مراد غالب: عبر شرفة منزله الزجاجية المطلة على ملاعب الغولف بنادي الجزيرة الرياضي المصري بحي الزمالك حي الارستقراطية المصرية سرح الدكتور مراد غالب طويلاً قبل ان يصبّ لنا الشاي في طاقم من البورسلين الانكليزي الابيض المنقوش بورود صغيرة وردية وخضراء. بينما غطت الاريكة التي نجلس عليها مفارش شعبية روسية بألوان حمراء وبيضاء وسوداء، وعلت الحائط خلفنا ثلاث ايقونات ارثوذكسية روسية، وبدا الرجل وكأنه يتذكر امراً مؤلماً، فقد كان على وشك ان يبدأ معنا مرحلة جديدة من حواره الطويل عن علاقته بالسادات وعلاقة السادات بالسوفيات. همس الدكتور مراد: "بعد ان اصبحت وزيرا للخارجية عام 1971 استدعاني الرئيس الراحل انور السادات ذات مرة الى منزله، ففوجئت بوجود السفير السوفياتي سيرغي فينوغرادوف، واذا بالرئيس السادات يقول للسفير: "لقد عينت رجلكم وزيرا للخارجية" وفزعت من هول الموقف، لكنني انتظرت حتى انصرف السفير وقلت للرئيس: "لا ينبغي بروتوكوليا ان يستدعى وزير الخارجية ليحضر اجتماعا مع سفير، ثم كيف يمكن فهم حكاية "رجلكم" هذه، فهذا امر لا يحترمونه ثم انه يغضبني" فضحك السادات قائلا: "انكم معتادون على طريقة عبدالناصر، ولكن كل شيخ وله طريقة!!". ويضيف مراد غالب: "ربما كانت هذه الحكاية مثلا على استخدام السادات لتكتيكات صغيرة وكثيرة، لم يكن يعلم بحقيقتها سواه في ادارته للعلاقة مع السوفيات، بل ومع معاونيه ايضاً". ويروي غالب فصولاً جديدة عن علاقة مصر بالاتحاد السوفياتي. كيف كان موقف الاتحاد السوفياتي من فكرة عقد معاهدة التعاون والصداقة مع مصر في تموز يوليو 1971؟ - بعد ان قام السادات بحركة 15 ايار مايو عام 1971 اعترى قلق كبير موسكو، وكانت فكرة عقد المعاهدة مع مصر هي امتحان القيادة الجديدة، فيما اذا كانت على استعداد للمضي في علاقة التحالف مع روسيا. والكلام عن مجموعة علي صبري بوصفها مجموعة رجال موسكو في مصر، هو كلام سخيف رددته بعض الدوائر في القاهرة، الا ان الاتحاد السوفياتي لم يكن ينظر اليهم بهذه الصيغة، وانما - فقط - كانوا رجال الحكم في مصر الذين يُعرفون باتجاهاتهم. هل كانت موسكو مهتمة في ذلك الحين بتصنيف رجال الحكم في مصر؟ - طبيعي… هذا ليس شيئا قاصرا على الاتحاد السوفياتي، فهكذا الانكليز، وهكذا الفرنسيون والاميركان. ألم تر موسكو ان رجال الحكم الذين تحسبهم متحمسين للعلاقات المصرية - السوفياتية من مجموعة علي صبري ليس لهم اية ارضية جماهيرية في مصر؟ - موضوع الشعبية او الجماهيرية ينبغي النظر اليه بطريقة اخرى، فالمسؤول وهو في الحكم له شعبيته الضخمة، اما وهو خارج الحكم فالموضوع يختلف. انظر الى السادات نفسه لقد حقق شعبيته وهو في الحكم ولكن لدى طبقات وشرائح معينة.. وهكذا. "اكذوبة الوحدة العربية" كيف كان رد فعل السادات على طلب موسكو عقد المعاهدة؟ - حين جلس الرئيس نيكولاي بودغورني وجهاً لوجه امام السادات على طاولة المحادثات في القاهرة في تموز يوليو 1971، كانت اولى كلماته هي انه يحمل طلب الاتحاد السوفياتي بعقد معاهدة تعاون وصداقة مع مصر. وبهت السادات وان كان واصل استماعه لبودغورني وهو يهز رأسه، واحس بأن السوفيات غير مطمئنين اليه بعد حركة ايار مايو 1971التي أقصى فيها علي صبري ورجاله. وفي مداولات الوفد المصري عقب جلسة المحادثات الاولى، بدا السادات غاضباً جداً من الطلب السوفياتي، ونظر الي ّ طالباً التعليق، فقلت له: "يا ريس هذا امتحان… ولا بد ان ننظر اليه على هذا الاساس، لأن هذه المعاهدة بين قوة عظمى ودولة صغيرة هي عمل غير متكافىء، الا انه يعكس عدم اطمئنان موسكو"، ووافق السادات. وبالطبع حدثت ردة فعل سلبية في مصر لعقد هذه المعاهدة، حتى انني اضطررت الى القاء محاضرة في المخابرات العامة المصرية بدعوة من المشير احمد اسماعيل الذي كان مشرفاً على الجهاز وقتها، امام مجموعة من السفراء المصريين في محاولة للتفسير. وفي محاضرتي قلت: "اذا شققتم قلبي فأنا ضد هذه المعاهدة تماماً، ولكن ماذا نفعل؟ ليس لدينا مخرج اخر وليس لدينا مصدر آخر للتسليح، وليس لدينا وسيلة اخرى لادارة صراعنا مع اسرائيل سياسياً وعسكرياً". ولكن على رغم عقد هذه المعاهدة غير المتكافئة بناء على طلب الاتحاد السوفياتي، فقد ظلت العلاقة بين موسكو والسادات تسودها شكوك كبيرة، لماذا؟ - الشكوك كانت اكبر جداً من جانب السادات، وفي جلسات محادثات مع السوفيات كان يتحدث اليهم بمنتهى العصبية والعنف، حتى ان احد معاوني الزعيم السوفياتي بريجنيف قال لي: "نحن غير معتادين على ذلك، لقد كنا نجلس الى عبدالناصر ونتحاور حوار الند للند بكلام واضح وبروح الجنتلمان… ولكن يبدو ان المسألة اختلفت الآن"؟ الم تكن هناك ضرورة لانفعال السادات وغضبه على السوفيات؟ - إطلاقاً، لقد بدا كمن يريد ان يفتعل خلافاً. لكن الرئيس السادات كان جزءاً من القيادة الحاكمة ايام عبدالناصر وحضر معه جلسات محادثات كثيرة مع السوفيات، فهل كان اداؤه وقتها بالعصبية نفسها التي تتكلم عنها؟ - ابداً، لقد كان لطيفاً للغاية، حتى ان عبدالناصر عينه مسؤولاً عن الاتصال مع الجانب السوفياتي في مصر، بوصفه من اكثر رجاله حماساً للعلاقات المصرية - السوفياتية، ومن اكثر رجاله لطفاً مع الجانب السوفياتي. وعندما كان السادات رئيساً لمجلس الامة برلمان الوحدة ايام عبدالناصر قام بزيارة لموسكو، وهناك بادره الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف بمحاضرة طويلة عن "اكذوبة الوحدة العربية واكذوبة القومية" من زاوية نظرية ايديولوجية ماركسية، واستمع السادات لهذا الكلام دون ان ينبس ببنت شفة، ثم بعد ان عاد الى القاهرة، ابلغ في المطار ان الرئيس عبدالناصر يود ان يراه فوراً، وبمجرد ان دخل انور السادات على عبدالناصر، فوجيء بأنه يعلم كل شيء عما قاله خروتشوف له، وعنفه تعنيفاً شديداً لانه لم يرد، موضحاً ان الكياسة لا تكون في مثل هذه الامور!! وبعد هذا اللقاء العاصف شكا لي السادات قائلاً: "وماذا كنت افعل… لقد كان في جيبي طلبات تسليح، ولو احدثت توتراً ربما ما كنت حصلت على موافقة". فأجبته: "كان من الممكن ان ترد بحزم دون اثارة ازمة، فالرئىس عبدالناصر نفسه - عند اللزوم - كان يدخل معهم في معارك عنيفة". منذ عقد المعاهدة في تموز يوليو 1971، وحتى طرد الخبراء السوفيات في تموز يوليو 1972، ما هي النقاط التي مثلت الخط البياني الصاعد في تأزم العلاقات المصرية - السوفياتية؟ - السبب المعلن او المحطة النهائية، كان تلكؤ السوفيات في الوفاء بطلبات تسليح مصرية. ولكن ما ادى الى هذا - من وجهة نظري - كان سلسلة طويلة من الاحداث، بدأت بمساندة مصر للرئيس السوداني جعفر نميري في مواجهة انقلاب هاشم العطا الذي قام به الشيوعيون، بحيث بدأنا نؤخذ في نظر السوفيات بصورة النظام الذي يحارب الشيوعية في المنطقة. وليس في مصر، واذكر بعدها انني التقيت الرئيس انور السادات قبل طرد الخبراء بفترة وجيزة وبادرته قائلاً: "يا ريس لن اتحدث في موضوع موسكو، ولكنني سأتحدث في موضوع مصر، فمعظم الاجهزة المصرية الآن يسيطر عليها رجال ليسوا متحمسين للعلاقات المصرية - السوفياتية، وعلى العكس فهم يجاهرون بضرورة تجميد هذه العلاقات ووقفها، فيكف يكون هذا هو وضعنا ثم نطلب مزيداً من الاسلحة، وحين يتلكأ السوفيات نبدأ في الهجوم عليهم". وهنا رد السادات بانفعال واضح: "يا مراد انت لا تعرف، لقد اصبح الامن القومي المصري في خطر، الروس كانوا مع الاولاد الذين وضعتهم في السجن يقصد مجموعة علي صبري". وشعرت ان لا فائدة، فالسادات ما زال يشك في وقوف السوفيات خلف خصومه السياسيين، وذلك على رغم أنه هو الذي كسب المعركة، ووضع الاولاد - على حد تعبيره - في السجن. وللتدليل على صحة وجهة نظري، فقد استقبل الرئيس اليوغوسلافي الراحل جوزيف بروز تيتو وفداً رئاسياً مصرياً بقيادة السادات مطلع عام 1975 في بلغراد، وبادر السادات قائلاً: "لا بد ان تحسن علاقاتك مع السوفيات، انظر… لقد انشأوا في يوغوسلافيا تنظيماً شيوعياًِ يعمل ضدي، ووصل الامر الى تشكيل لجنة مركزية، يعني يريدون قلب نظام الحكم، ومع ذلك ظلت علاقتي بهم قائمة، لا بد ان تكون لك علاقات مع الولاياتالمتحدة الاميركية، ولا بد ان تحسن علاقاتك مع موسكو". واستخدم الرئيس تيتو تعبير "TWO RODS" او القضيبين اللذين يستخدمها الحداد في الامساك بشيء ساخن لوصف ضرورة العلاقة المتوازنة مع القوتين العظميين. بكى بريجنيف وكيف استقبل السوفيات قرار السادات بطرد الخبراء من مصر؟ - هذه كانت - بالنسبة اليهم - كارثة، واذكر ان الدكتور عزيز صدقي رئيس الوزراء المصري قام بعدها مباشرة بزيارة موسكو، وحضرت معه جلسة المحادثات مع ليونيد بريجنيف، الذي استقبلنا والدموع في عينيه وقال: "ماذا فعلنا بكم حتى تتسببون لنا في كل هذا؟ نحن حاربنا معكم، وامتزجت دماء جنودنا بدماء جنودكم، لقد كنا نخفي موتانا عن اعين الشعب السوفياتي، ونستقبل جثث جنودنا ليلا حتى لا يدري احد، وحتى نستطيع ان نواصل دورنا تجاهكم.. نحن بنينا لكم السد العالي… نحن ساعدناكم في ان تصبحوا دولة صناعية". كان بريجنيف في اشد حالات الألم.. وبعد ان انتهى من كلمته خيم على قاعة المحادثات سكون تام. كيف واجه عزيز صدقي الموقف؟ - كان الدكتور عزيز صدقي رجلاً "متفهما" جدا لطبيعة العلاقات المصرية - السوفياتية، فقد كان وزيرا للصناعة لسنوات طويلة، ويعلم حجم المساعدة الروسية لمصر، وقد قال كلاما معناه: انه جاء لكي يعطي دفعة جديدة تؤدي الى استمرار العلاقات واستمرار التعاون مع موسكو. هل كان كلام عزيز صدقي بمبادرة شخصية منه؟ - بالقطع لا.. فعلى رغم ان السادات قام بطرد الخبراء الا انه كان حريصا على استمرار العلاقة الطيبة مع السوفيات لانهم ما زالوا - حتى هذا الوقت - مصدر مساندة مصر الوحيد. وصولا الى حرب 1973، كيف استمرت العلاقة مع السوفيات بعد طرد الخبراء؟ - قام السادات بتعييني وزيرا للخارجية من اواخر ايلول سبتمبر 1971 الى ايلول سبتمبر 1972، اي انه اخرجني من الوزارة بعد طرد الخبراء بشهرين تقريباً، وبعدها بدأ يتحرك مع الاميركيين وأرسل حافظ اسماعيل مستشاره لشؤون الامن القومي ليلتقي هنري كيسينجر سرا في باريس. ولان حافظ اسماعيل رجل نظيف ووطني وامين فلم تسر الامور مع كيسينجر وقتها كما يريد، وهنا اعادني السادات مرة اخرى الى مقعد وزير الخارجية وقام بتعيين بعض الوزراء من اليساريين المصريين البارزين للمرة الاولى منذ الثورة مثل الدكتور فؤاد مرسي والدكتور اسماعيل صبري عبدالله، وذلك لطمأنة السوفيات ومحاولة اعادة المياه الى مجاريها!! الموضوع بالنسبة الى السادات كان تكتيكات صغيرة وللكثير منها طابع شخصي ومزاجي. كيف عينك السادات وزيرا للخارجية اصلا؟ - رشحني له مجموعة من المستشارين حوله، فأبدى حماساً شديدا وفوريا، عندما اتصل بي لابلاغي، شعرت ان هذه نهاية العلاقات المصرية - السوفياتية. لماذا شعرت بذلك، على رغم ان تعيينك وزيرا، وانت واحد من مهندسي العلاقات المصرية السوفياتية، يعتبر تدعيما لهذه العلاقات وليس انهاء لها؟ - شعرت بأن السادات لم يكن يريد تعييني وزيراً، بقدر ما كان يريد ابعادي عن موسكو، ولذلك خرجت من روسيا بأسرع ما يمكن، وبعد سنوات التقيت بعض المسؤولين الاميركيين من ضمنهم احد السفراء الاميركيين في مصر فسألوني: "لقد رصدنا خروجك السريع جدا من موسكو.. فكيف احسست بهذه الفورية ان العلاقات على وشك الانتهاء؟!". وأجبت: "اسألوا الرئيس السادات، فقد كان واضحا لي تماما انه منذ جاء الى الحكم يتحرك تحركا مقصودا لضرب العلاقة مع السوفيات والاتجاه نحو الاميركان. في تلك الفترة - ايضاً - دخل الرئيس السادات في مجموعة من المواجهات الداخلية، واحدة منها كانت غير مفهومة لأنها كانت ضد الخط الذي يتبناه في العلاقة مع الاتحاد السوفياتي، وهي المواجهة مع الفريق اول محمد صادق وزير الحربية السابق والذي كان ضد العلاقات المصرية - السوفياتية ايضا، فلماذا اصطدم به وهو يمثل الخط نفسه؟! - عندما قرر السادات طرد الخبراء، زارني الفريق اول محمد صادق وزير الحربية، وهو صديقي وبلدياتي من محافظة الشرقية وقال لي: "الدور عليّه"!! محمد صادق كان يلعب دائما ورقة ان الوجود السوفياتي هو اقلال من شأن العسكرية المصرية، ولا بد من انهائه ، فلما قام انور السادات بطرد الخبراء، كان هذا بمثابة سحب للسجادة من تحت قدمي محمد صادق الذي كانت القوات المسلحة تلتف حوله، وهو امر لم يكن السادات يريده بعدما تخلص من الوجود السوفياتي. هل أثر كل هذا على استمرار الدعم العسكري السوفياتي لمصر وصولا الى حرب 1973؟ - كان السوفيات - على رغم كل شيء - حريصين للغاية على استمرار العلاقة حماية لمصالحهم الاستراتيجية، وكانوا قبل طرد الخبراء بثلاثة اشهر اي في نيسان ابريل 1972 وافقوا على مطلب السادات بمنح مصر سلاحا للردع - وهو هاجس مزمن - طرحته القيادة العسكرية في مصر من ايام عبدالناصر، وعلى رغم ان بريجنيف قال للسادات اثناء زيارته الى موسكو في نيسان ابريل: "ان الاتحاد السوفياتي لا يود تصعيد سباق التسلح لأن ذلك سيزيد من احتمالات المواجهة مع الاميركان، وعلى رغم هذا فنحن نفكر في اعطائكم صاروخ ارض - ارض سيمثل سلاحاً رادعا تماماً تستطيعون الاعتماد عليه". كان هذا هو الصاروخ الذي عرف اثناء حرب الخليج باسم "سكود" واسمه الروسي "فولجا". ولكن بريجنيف شرح للسادات ان الاشكال في هذا الصاروخ انه محمل برأس نووية، ويحتاج الى وقت لتغيير رأسه برأس تقليدية بوزن مخالف، وبالتالي يجري الفنيون الروس تجارب عليه لتغيير الايرودايناميك الخاص به. ومن هنا كان ذهولي حين قرر السادات طرد الخبراء، لأنني تصورت ان هذا سيمنع السوفيات من منح مصر سلاح الردع، خصوصا انه كان يصرح لمعاونيه في هذه المرحلة بأنه "سيمسح السوفيات مسحاً من المنطقة"!! الا ان السوفيات على رغم كل شيء منحوا مصر سلاح الردع واستمروا في اداء دورهم حفاظا على مصالحهم الاستراتيجية وما اسموه - وقتها - دورهم التاريخي. دعنا ننظر الى اداء الرئيس السادات في ادارته للعلاقة مع السوفيات من زاوية اخرى، ألم يكن ضغطه عليهم بطرد الخبراء، ثم بتهديده ان يمسحهم مسحاً من المنطقة وسيلة ناجحة لدفعهم للاسراع بتزويده بما يريد من سلاح حفاظاً على مصالحهم الاستراتيجية؟ - نعم... ربما كان يقصد هذا، فقد كان يتعمد ترديد تهديداته للسوفيات امام رجال مصريين او عرب يعرف انهم سينقلون هذا الكلام الى القيادة السوفياتية. وماذا كان انطباع السوفيات ازاء الاداء الجيد للقوات المسلحة المصرية في حرب 1973؟ - كانوا في قمة السعادة، وبدوا وكأنهم - اخيراً - ردوا الاعتبار للعسكرية السوفياتية والسلاح السوفياتي. لو تأملت ملامح الكسي كوسيغين في زيارته لمصر في 15 تشرين الاول اكتوبر 1973 لشعرت فوراً ان الرجل بالغ السعادة. اكثر من هذا، قام كوليكوف رئيس اركان حرب الجيش السوفياتي والذي كان يصحب كوسيغين بتسليم السادات الصور التي التقطتها الاقمار الصناعية السوفياتية للتحرك الاسرائيلي لاحداث الثغرة، وطرح عليه فكرة ضرب مطار العريش الذي كانت تصل اليه الامدادات الاميركية وتتحرك مباشرة تجاه نقطة المفصل بين الجيشين المصريين الثاني والثالث لاحداث الثغرة، ولكن السادات رفض الفكرة، فاقترح عليه كوليكوف توجيه قصف مدفعي مصري مركز الى منطقة تحرك الاسرائيليين.الا ان السادات قرر استخدام سلاح الردع صواريخ "فولجا" بعدما بدأت الثغرة بالفعل. ثم سارت الاحداث في الطريق الذي رسمه السادات وبدا تماماً ان الدور السوفياتي انتهى في المنطقة بعد مؤتمر جنيف الذي حضره ممثلو الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي في كانون الاول ديسمبر 1973 لتنفيذ القرار 338. وظهر ان السادات يريد الحل اميركياً فقط. السوفيات اضطهدوا المسلمين لنتحدث عن العلاقات السوفياتية - العربية بشكل عام. ما تقويمك لها؟ - علاقات العرب بالاتحاد السوفياتي بدأت منذ فترة طويلة بعلاقات مع اليمن في العشرينات، ثم بزيارة الملك فيصل وقتها كان اميراً لموسكو، وقد قفز خاطر في ذهني اثناء زيارة الامير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي الى الاتحاد السوفياتي، وهو ان الامير سعود لابد كان يستحضر في ذهنه بعض اقوال ابيه عن هذه البلاد قبل ان يزورها. وكانت الامبراطورية الروسية تعتبر ان الخليج هو بمثابة قناة السويس للامبراطورية الروسية. كما ان الاسلام، بمقدار الصدام بينه وبين الايديولوجية الشيوعية، كان عاملاً يضاعف اهتمام روسيا بهذه المنطقة، فالكثير من مناطق الاتحاد السوفياتي اسلامية، والكثير من مناطق مصالحها عندنا پاسلامية واضطر السوفيات لان يروجوا لبعض اقوال نسبوها الى لينين منها: "عليكم ان تفرقوا بين الدين الاسلامي والاديان الاخرى، لانه دين الشعوب تحت السيطرة الاستعمارية التي تعاني الاضطهاد". ولكن هذا الكلام - عملياً - لم يتحقق منه شيء على ارضية الواقع. فقد تعرضت جميع الاديان للاضطهاد في الاتحاد السوفياتي، بما فيها الاسلام، واصبح محرماً على اي مسلم يصلي ويذهب الى الجامع ان يتبوأ منصباً كبيراً. الاهتمام بالاسلام عندهم كان اهتماماً جغرافياً سياسياً، بمعنى وجود جمهوريات القوقاز في وسط آسيا، ووجود ايران في بطن الاتحاد السوفياتي والعلاقات التاريخية مع افغانستان، والارتباط الوجداني بين المسلمين في العالم كافة وبين منطقة آسيا الوسطى السوفياتية التي ظهر فيها اهم علماء المسلمين، البخاري والفارابي وابن سينا. هناك رأي يقول ان السياسة السوفياتية تجاه العرب في الخمسينيات والستينيات اسهمت في تأجيج ما اطلق عليه الحرب الباردة العربية، وان تغييرها بل وربما غيابها الفعلي - الان - يتيح فرصة لتطور علاقات عربية - عربية على اسس جديدة. هل تؤيد هذا الرأي؟ - بلا شك ادى وجود الاتحاد السوفياتي في منطقة الشرق الاوسط، وازدهار علاقاته ببعض الانظمة العربية، الى اثارة الانقسام بين العرب ما بين معسكر محافظ او تقليدي ومعسكر ثوري او تقدمي، وبالتالي ادى الى حرب باردة عربية - عربية. لكن هناك ضرورة لدراسة ظاهرة الانقسام العربي، لكي نعلم انها دائماً موجودة ولكنها تسحب على نفسها في كل سياق تاريخي او زمني غطاء سياسياً معيناً. ففي وقت معاهدة كامب دايفيد - مثلا - بدت الدول العربية وكأنها كلهاپضد كامب دايفيد، ولكن الحقيقة ان الانقسام كان كامناً داخل هذا الموقف ايضاً، فهناك من كان ضد كامب دايفيد لان هناك تعارضاً في مصالحه مع ما يحدث او ان هناك تناقضاً بين سياسته الفعلية او المعلنة وبين ما تم انجازه في كامب دايفيد، وهناك من كان يؤيد كامب دايفيد ويحبذها ولكن الضرورات والمصالح والسلامة الذاتية كانت تفرض عليه ان يتظاهر بمعارضتها، ثم جاءت حرب الخليج لتمثل نقطة ثالثة من نقاط الانقسام العربي، وترددت مقومات الانقسام بدرجات متفاوتة بين ارجاء العالم العربي كله. هل كان يدخل في حساباتك عندما كنت سفيراً لمصر في الاتحادپلسوفياتي ووزيراً لخارجية مصر ان من مضار العلاقات السوفياتية - المصرية زيادة فرص الانقسام العربي وزيادة فرص الحرب الباردة العربية - العربية؟ - بالطبع كنا مدركين لهذا البعد تماماً، ولكن ماذا كان يمكن ان نفعل؟، لقد تعرضنا للغارة الشهيرة في 28 شباط فبراير عام 1955 من الاسرائيليين في غزة، وكان علينا ان نبحث عن مصدر للسلاح، فذهبنا الى الاتحاد السوفياتي، وعملنا نوعاً من الموازنة بين النتائج الايجابية والنتائج السلبية فوجدنا ان النتائج الايجابية بالنسبة لنا - في توقيت معين - اكثر، وكان عبدالناصر يعي ذلك تماماً. ادارة العلاقات المصرية - السوفياتية لم تكن بسيطة، فهي كانت علاقات مركبة ومعقدة، فموسكو عاصمة دولة عظمى والقاهرة عاصمة دولة صغيرة، والاولى مؤمنة بالشيوعية العالمية والثانية مؤمنة بالقومية العربية، والاتحاد السوفياتي يعتبر نفسه سنداً للقوى الشيوعية الاخرى بما فيها الشيوعيون المصريون، والنظام في مصر قد تتعارض مصالحه مع هذه القوة بل وقد تصل، ووصلت فعلاً الى الاصطدام. كل يوم كنا نحتاج الى تقدير موقف لهذه العلاقة المعقدة، ولحساب ايجابياتها في مواجهة سلبياتها. الايتام يتحدث كثيرون عن تأثير انهيار الاتحاد السوفياتي على العالم العربي من منظور ان العرب اصبحوا ايتام الاتحاد السوفياتي، هل توافق على ذلك، وما تقويمك لطبيعة هذا التأثير؟ - منذ ذهبت الى موسكو لاعمل كسكرتير ثالث في سفارتنا عام 1953، وأنا اشارك في عملية استكشاف، فقد كانت مصر ترغب في معرفة الى اي مدى يستطيع السوفيات ان يساعدونا في مرحلة تحرر وطني ضد الاستعمار الفرنسي والوجود البريطاني والقواعد العسكرية والاحلاف وخلافه. ولم يكن هذا دور موسكو معنا فقط ولكنه امتد الى كل العالم الثالث في افريقيا وآسيا واميركا اللاتينية، ومن الافكار الاساسية التي كانت تسود عملية الاستكشاف الكبيرة من مصر الى الاتحاد السوفياتي، ان المعركة ليست سياسية فقط تسعى الى مجرد الاستقلال السياسي، وانما تعتبر التطور الاقتصادي والتنمية الاجتماعية والتعليمية عملية اساسية ومرتبطة تماماً بالمحافظة على هذا الاستقلال، وهنا دخل الاتحاد السوفياتي مجال المساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية في العالم الثالث، وكذلك دخل مجال التسلح كعامل اساسي في المواجهة الكبرى بين حركات التحرير والاستعمار القديم. وفي اطار عالم تسوده القطبية الثنائية والحرب الباردة، كان عامل ظهور قوة العالم الثالث والمساندة السوفياتية لها مصدر ازعاج كبير للغرب. اما الآن فنحن نواجه موقفاً مغايراً في عالم جديد، فلم تعد هناك مواجهة بين الكبار شرقاً وغرباً ولم يعد هناك سباق تسلح بين الاثنين. المواجهة تحولت الى تعاون، وحل توازن المصالح محل توازن الرعب وتوازن القوى. النظام العالمي الجديد تشكله الثورة العلمية والتكنولوجية الجديدة، مثلما خلقت الثورة الصناعية الاولى النظام العالمي القديم، وخلقت - بالتبعية - آلة حرب معينة، والاستعمار كوسيلة للحصول على المواد الخام وتأمين طرق المواصلات. وعلى مستوى النظرية السياسية خلقت الشيوعية والاشتراكية كرد فعل للرأسمالية. اما الآن فان من يسيطر على النظام العالمي الجديد هو الذي يتحكم في التكنولوجيا. فلا يكلمني احد عن ان الاتحاد السوفياتي تركنا، او ان العرب هم ايتام الاتحاد السوفياتي بعد الانهيار، وانما العرب هم ايتام وضعيتهم ومكانتهم من التكنولوجيا الجديدة والتقدم العلمي. ولكن هناك من يرى في هذا الشكل الجديد من التعامل بين العرب وموسكو جانبا ايجابيا، وهو انه فرض على العرب مواجهة واقعهم، دون ان يعتمدوا - دائما - على مساندة حليف يأتيهم من وراء البحار؟ - نعم بمقدار اعتمادنا على انفسنا بمقدار ما نحظى بمكان معتبر من الثورة العلمية والتكنولوجية، القوى الصاعدة في عالم اليوم مثل اليابان والمانيا واوروبا الموحدة هي قوى اعتمدت على نفسها وحققت مكانتها، وهذا ما يحكم النظام العالمي الجديد. هل خسر العرب كثيرا، في تقديرك، من اجراء تغيير السياسة السوفياتية تجاه الصراع العربي - الاسرائيلي؟ - ما هي عناصر التغيير التي تسأل عنها؟ عناصر الصراع العربي - الاسرائيلي - بالنسبة الى الروس الآن هي اعادة العلاقات مع اسرائيل، هجرة اليهود السوفيات، المساعدة على تثبيت النفوذ الاميركي في المنطقة بدلا من مقاومته؟ - لا استطيع ان اقول انهم يساعدون النفوذ الاميركي في المنطقة، واعتقد انه حتى روسيا وليس الاتحاد السوفياتي - تاريخيا - ضد سيطرة القوى الغربية على هذه المنطقة، ونظرة واحدة الى الصراع الانكليزي - الروسي حول ايران وممرات خيبر والدردنيل والقرم تؤكد هذه الحقيقة الاستراتيجية بالنسبة للروس. وبالتالي لا يمكن القول انهم يساعدون الاميركان على السيطرة لكنهم يطبقون مقولة "مكره اخاك لا بطل" فهم غير قادرين على الدخول في سباق او منافسة، ومن ثم يتعاملون بواقعية مع معطيات عالم اليوم، ومع معطيات وضعيتهم الذاتية في سلم التقدم التكنولوجي من جهة، وفي ظروفهم الاقتصادية من جهة اخرى. هل يستطيع العرب معاونة الروس في تجاوز محنتهم الاقتصادية، وهل هناك ضرورة عربية للقيام بذلك؟ - هناك فكر مصري، وفكر عربي يقول بمعاونة الروس ليس من باب ان يقف في مواجهة اميركا او الغرب ولكن لتحقيق فكرة ان يكون النظام العالمي الجديد اقل ظلما لك واكثر عدالة. ومن جانب الضرورة العربية للقيام بذلك، لا بد ان نقرر ان معاونة العرب للروس لن تكون معاونة ايديولوجية او سياسية، وانما هي تحقق مصالح للطرفين، فنحن نريد روسيا والجمهوريات المستقلة الاخرى كسوق، ونريد تصريف بضائعنا، ونريد الازدهار لمؤسساتنا الاقتصادية. الاسبوع المقبل: الحلقة الثالثة