في عزّ الازدهار اللبناني، كان المطرب وديع الصافي يشكل علامة فارقة كفيروز وصباح وغيرهما، فقد حمل في صوته الرقيق أجمل الاغاني الوطنية والعاطفية حيث صدّرها برحلاته الى آخر الدنيا، كما يقول، او بواسطة الاذاعات العربية والتسجيلات الموزعة في الاسواق. وبعد هجرة أو تهجير، اذا صح التعبير لسنوات عدة عن وطنه عاد وديع الى بيروت ليستقر فيها نهائياً. وكانت مناسبة لپ"الوسط" للالتقاء به وتسجيل ذكرياته الشخصية. وانت تستمع الى وديع الصافي يحدثك عن حياته وفنه وأولاده وزملائه من المطربين، هكذا، دفعة واحدة، تعلم لماذا ظل صاحب ذلك الصوت الضخم يفتقد الى هالة نجوم الغناء والطرب. فالهالة النجومية صناعة قبل اي شيء آخر، ولا تقوم الا على استبعاد البداهة والعفوية من شخصية من يسير في طريقها وطلبها. لكن وديع الصافي ما يزال في حديثه وتقديم نفسه "ابن ضيعة"، وكأنه لم يعش في مدينة ولم يسافر ويبتعد عن بلده وقريته. "جدي لأمي، يوسف جبرايل، ابو بشارة، كان شاعراً و"صوّيتاً" يقصد صاحب صوت ومغنٍ، قال وديع الذي يحب ان تناديه بپأبو فادي. ثم انتقل فوراً الى الحديث عن حفيده ليسرد قصة حياته: "إبن ابنتي حلو، يقلدني في أغنياتي الفصيحة ويجيد. ثم ان اعمامي وأخوالي كانوا ايضا صوّيتة، وأبرزهم خالي نمر. اما انا، المولود في قرية نيحا الشوف عام 1920 مع بداية الاحتلال الفرنسي، فكنت منذ طفولتي في الرابعة من عمري قادراً على القيام بمتطلبات عرسٍ بكامله وحدي. وطيلة مشواري الطويل مع الغناء والطرب والتلحين، غنيت من دون تعب وجهد. فأنا المطرب الوحيد الذي يغني وكأنه يتكلم. وفي مصر القاهرة، فيما كنت اغني مرة، سمعت واحداً من الحاضرين يصرخ: يا ريس يا مرفق، اي يا قادر. ومقدرتي آتية من موهبتي التي اعطاني اياها الله ومن تحسسي العميق للكلمة والنغم". ذكريات عبرت وأضاف: "كان والدي في سلك الدرك، وقد تنقلت إقامتنا بين قرى كثيرة من لبنان، اذكر منها جب جنين في البقاع ووادي الزينة وجونية… لم نستقر في بلدة او قرية، وحيثما حللت كنت اغني. ولأن كنيتنا العائلية هي فرنسيس، فقد توسط والدي لدى الفرنسيين وتمكن من تعليمنا مجاناً في مدارس ارسالية مخصصة لأبناء الأغنياء، اذ اقنعهم انه من اصل فرنسي. في الثالثة عشرة من عمري تركت المدرسة وكان والدي توفي ورحت اركض وأشقى لأغني لأطعم اخوتي الصغار. انا تعذبت كثيراً في طفولتي وصباي، وصعدت من بين الاشواك والصخور". وفي جلستنا في صالون منزله الواسع في الحازمية، كان حاضرا في الجلسة احد اصدقاء وديع الصافي يدعى سامي حبشي، الذي تدخل في الحديث قائلاً: "انا عملت في الصحافة من اجل الاستاذ وديع الذي منذ صباه شق طريقه بمجهوده الشخصي من دون مساعدة احد او رعايته. اعرفه ابدا حاملاً عوده على كتفه ومتنقلاً طلباً للغناء والعطاء، فهو من بيئة فقيرة، ولم يقلد في غنائه وألحانه احدا". البداية في الاذاعة ويتابع وديع: "كنت شديد الخفر حين تقدمت في السابعة عشرة من عمرى للاذاعة، فمثلت امام لجنة فاحصة من بين اعضائها البير اديب، ميشال خياط، سليم الحلو، محي الدين سلام والد نجاح سلام، وغنطوس الرامي. اخي توفيق كان شجعني كثيراً مما قلل من خوفي وخجلي، ففزت في المرتبة الاولى بين 45 طالباً تقدموا مثلي للعمل في الاذاعة. كنت اعزف على العود رفيقي الدائم، وغنيت اغانٍ من تلحيني، ومما اذكره ان ما غنيته ابكى بعض اعضاء اللجنة الفاحصة. لا لم انتسب الى معهد يدرّس الموسيقى، بل انني درست علوم النغم على نفسي وبالسليقة. كنت، منذ شبابي وما ازال، الحق بكل من لديه نغمة لكي اتعلمها منه، وأنا في هذا المجال مدرسة اجتمعت فيها شتى اصناف الألحان التي التقطها من على شفاه الناس وطورتها وصببتها في قالب وجعلت منها لحناً لأغنية. اما الآلة الموسيقية التي استخدمتها في ذلك كله، فهي العود الذي يعتبر أب الآلات الموسيقية الشرقية وسيدها. وعلى العود وضعت الحاني كلها، فالعواد اي عازف العود هو الملحن. اما الكمنجاتي عازف الكمنجا فلا يمكن ان يضع الحاناً على آلته. منذ بدايتي في الغناء احببت الكلمة الجميلة وتعلقت بها. وفي الاذاعة كانت هنالك رقابة شديدة على كلمات الاغاني. وأذكر من شعراء الاغنية الذين غنيت كلماتهم، نقولا بسترس وغنطوس الرامي وبهاء الدين الزهير واسعد السبعلي ومارون كرم. في مطلع الخمسينات اشتهرت اغنية "عاللوما" ثم اتبعتها بأغنية "يا اختي نجوم الليل". وآنذاك كنا نؤدي اغنياتنا مباشرة على الهواء من وراء الميكروفون. ومرة في اثناء تأديتي لأغنية اخطأت، فنطحني ميشال خياطة. التسجيل بدأ في اذاعة الشرق الادنى في الفينيسيا بمنطقة الزيتونة. والمسؤولون في هذه الاذاعة كانوا يشترون منا، نحن المغنون والملحنون، اعمالنا ويمتلكونها ويتصرفون بها. والمطربون اللبنانيون كلهم اشتغلوا آنذاك في الشرق الادنى قبل ان تتوقف في اواسط الخمسينات. الهجرة الاولى إبان احداث 1958 التي حصلت في لبنان هاجرت الى اميركا حيث اقمت حفلات غنائية، ومنها انتقلت الى افريقيا وفرنسا طلباً للعمل والغناء. وبعد عودتي حاولوا اقناعي بالاشتراك في المهرجانات الفولكلورية التي بدأت تقام في بعلبك. جورج طعمة، مدير مكتب سكة الحديد، وهو صديق لي من أقنعني بالاشتراك في تلك المهرجانات التي كان الاخوان رحباني يعدانها. هي صباح من غنت آنذاك الى جانبي في مغناتي "موسم العز" و"دواليب الهوا" من تأليف الرحبانيين. وفي بعلبك كان صوتي، بقوة الرب، يهز اعمدة القلعة، هذا ما قيل آنذاك في الصحف. تأسيس فرقة "الأنوار" في العام 1960 أسسنا، انا وتوفيق الباشا وسعيد فريحة ومروان ووديعة جرار، "فرقة الانوار" الفنية الفولكلورية التي كانت تضم ما يقارب المئة والخمسين عاملا في شتى ميادين الفن، من الغناء والعزف الى الرقص الى التأليف المسرحي الغنائي. وقد اقمنا حفلات في كازينو لبنان وبيت الدين… ثم انتقلنا لتقديم عروض في الاردنوباريس ومصر، حيث كان شيوخ الأزهر يحضرون ويستمعون الى صوت وديع الصافي من خلف ستار. ومن اولئك الشيوخ الشيخ الكبير مصطفى اسماعيل. قبل ان تبدأ الحرب اللبنانية التي هجرتني سنوات طويلة الى خارج لبنان، كانوا بدأوا بمحاربتي والوقوف في وجه فني، لأنني كنت اشكل مدرسة لا تضاهى ولا تجارى، لا أحب ان اسمي احداً ممن حاربوني وأرادوا اسكات صوتي. ولكنني بقوة الربّ صمدت ووصلت الى مبتغاي. سنوات غربتي في اثناء الحرب قضيتها كلها حزيناً كئيباًَ، وكم من مرة كنت اغص بالبكاء وانا اغني. في بداية الحرب توجهت الى مصر وأقمت فيها حفلات غنائية ثم انتقلت الى لندن، الى ان استقر بي المقام بين العام 1979 والعام 1991 في باريس. وفي اثناء هذه السنوات كلها عدت مرة واحدة الى لبنان لمدة سنة… كم قرفت من الغربة ومقتها، فأورثتني امراضا كثيرة. كنت أدخن فأجبرت على الاقلاع عن التدخين، لا حفاظاً على صوتي الذي لا يؤثر فيه شيء، بل على صحتي. اخيراً التفتت الدولة الى وديع الصافي فوهبته وساماً تقديرياً ودكتوراه فخرية، وأقيمت لذلك حفلة في البيكاديللي ببيروت، تحدث فيها الشاعر الكبير سعيد عقل. والآن يتحدثون عن احتمال بعث مهرجانات بعلبك لأشارك فيها. لكنني حتى الآن اعتقد ان مثل هذا الامر ما يزال صعباً. وها أنذا الآن مقيم في لبنان لن أبرحه بعد ان جلت بصوتي في معظم انحاء العالم، فغنيت في البرازيل وايران والاتحاد السوفياتي وفي كثرة من البلدان الافريقية وفي البلدان العربية كلها تقريباً، انا الذي طلعت من بين اشواك جبال لبنان وصخورها".