10.1 تريليونات قيمة سوق الأوراق المالية    1% انخفاضا بأسعار الفائدة خلال 2024    تستضيفه السعودية وينطلق اليوم.. وزراء الأمن السيبراني العرب يناقشون الإستراتيجية والتمارين المشتركة    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    البرهان يستقبل نائب وزير الخارجية    كاساس: دفاع اليمن صعب المباراة    قدام.. كلنا معاك يا «الأخضر»    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    إحالة ممارسين صحيين للجهات المختصة    جواز السفر السعودي.. تطورات ومراحل تاريخية    حوار «بين ثقافتين» يستعرض إبداعات سعودية عراقية    5 منعطفات مؤثرة في مسيرة «الطفل المعجزة» ذي ال 64 عاماً    التحذير من منتحلي المؤسسات الخيرية    لمن القرن ال21.. أمريكا أم الصين؟    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    استشهاد العشرات في غزة.. قوات الاحتلال تستهدف المستشفيات والمنازل    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    مترو الرياض    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    مشاهدة المباريات ضمن فعاليات شتاء طنطورة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    الأمير فيصل بن سلمان يوجه بإطلاق اسم «عبد الله النعيم» على القاعة الثقافية بمكتبة الملك فهد    جمعية المودة تُطلق استراتيجية 2030 وخطة تنفيذية تُبرز تجربة الأسرة السعودية    نائب أمير الشرقية يفتتح المبنى الجديد لبلدية القطيف ويقيم مأدبة غداء لأهالي المحافظة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    المملكة واليمن تتفقان على تأسيس 3 شركات للطاقة والاتصالات والمعارض    اليوم العالمي للغة العربية يؤكد أهمية اللغة العربية في تشكيل الهوية والثقافة العربية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    طقس بارد إلى شديد البرودة على معظم مناطق المملكة    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    المملكة ترحب بتبني الأمم المتحدة قراراً بشأن فلسطين    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    وصول طلائع الدفعة الثانية من ضيوف الملك للمدينة المنورة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في حوار غير فني مليء بذكريات الطفولة والشباب - عادل إمام لپ"الوسط": كنت مبهوراً بالحركات السرية فانخرطت في صفوف "الاخوان" و... الشيوعيين !
نشر في الحياة يوم 09 - 03 - 1992


"عبدالناصر ملأ دنيا شبابي وشغل شلة الحارة"
"انا انسان لا املك الا موهبتي وهي التي اوصلتني الى النجومية"
"بيرم التونسي هو امير الشعراء الحقيقي والجبروتي مؤرخ صاحب وجهة نظر"
"الجينز هو الزي الموحد الذي اعتمدته الجماهير فارتديته في جميع افلامي"
هذا حديث ليس كغيره من الاحاديث الصحافية التي تعوّد على اجرائها الفنان عادل امام، انه لقاء يفصح فيه النجم العربي عن جوانب شخصيته ويعكسها على مرايا اسئلة الحوار. نادراً ما تحدث عن الفن، ونادراً ماسألناه عنه.
فقط.. اخترنا - ووافق - ان يكون اداء المتحاور، وحركة المحاور في مربع البحث عن مكونات نفس النجم الذي شغل الناس واصبح رمزاً لبطولة "من كل نوع"!!
قلنا:
لا تنظر خلفك في غضب. كل ما نطلبه ان تتطلع بتأمل لفترة الشباب الاول، فانظر ماذا ترى؟
اجاب:
- حكايتي في سطر واحد: انا انسان ليس لي واسطة سوى موهبتي! كثيرون اخذوا بيدي وساعدوني في مشوار حياتي، لكن لانهم ادركوا انني موهوب. لم اصبح عادل امام بالكارت او الواسطة.
انظر لأي مؤسسة او شركة، أو مصلحة حكومية في بعض البلدان العربية، تجدها تدار على اسس عائلية شبه قبلية.
ابناء الاطباء يدخلون كلية الطب، ويصبحون اطباء، واساتذة في الجامعة.. والبنت او الولد منذ نعومة اظافرهما يعرفان انهما سيشتغلان في "شركة بابي"!
لقد نقلنا قوانين الوراثة الطبيعية، الى كل مجال في حياتنا، حتى اصبح هناك ما يمكن تسميته بالوراثة الوظيفية!
من اجل هذا، لا اتوسط ابداً لأي هاوي تمثيل يأتيني كي اساعده في شق طريقه، فقط اقول له: اذهب وادخل معهد التمثيل، وقدم اوراقك لنقابة الممثلين، فأنا لا اعرف ما اذا كنت ممثلاً جيدا أم لا، فموهبتك هي التي تعلن عن نفسها. واداؤك هو الذي يفصح عن ذاته.
مرآة الشباب
و… … …
- تسألني ان اتطلع في مرآة الشباب الاول…
فالعام 1949 عرف مولدي في شارع السيدة عائشة بحي الخليفة "احد احياء القاهرة الشعبية في حصن قلعة صلاح الدين".
"غبشة" ضبابية تلف طفولتي التي لا اتذكر منها سوى الحارة، ورفاق اللعب، وأسرتي "الفلاحية" النازحة من قلب ريف الدقهلية، وبالتحديد من قرية "شها" بجوار المنصورة، وأبي محمد امام موظف بسيط جداً في وزارة الداخلية، ووالدتي امية لا تقرأ ولا تكتب.
كان بيت اسرتنا شديد الشبه بما صوره نجيب محفوظ في الثلاثية، والذي كان سي السيد كمثل السيد احمد عبدالجواد في قصر الشوق، ولكنه لم يكن سي السيد المزواج او "الهلاس"، وانما كان سي السيد الذي يحكم بيته بشمولية حقيقية!!
لم يكن لدي مفتاح خاص استعمله للمنزل، ولا اعتقد ان هذا كان لوناً من الوان الكبت، وانما كان نوعاً من تقاليد والدي التي كنت احرص على التقيد بها. فحين اخرج لا بد ان استأذن، ولا تأخير بعد التاسعة. كان هذا هو دستور العلاقة داخل منزل محمد امام، المسلم السني حافظ القرآن والموظف في وزارة الداخلية.
ثم مررت بمنعطف من نوعية المنعطفات، التي يطلق عليها في حياة الافراد والامم لقب "تاريخي"!
وتمثل ذلك المنعطف في انتقال عائلة محمد امام الى حي الحلمية وهو حي مصري بجوار القلعة كانت تقطنه الطبقة الوسطى في ذلك الوقت، وبعض الاغنياء، ومن شوارعه المشهورة شارع محمد علي.
اقترن انتقالنا الى الحي الجديد بدخولي الى المرحلة الثانوية، وكنت درست في مدرسة "بنبا قادن" الابتدائية، ثم التحقت بمدرسة بنبا قادن الثانوية.
في المرحلة الثانوية عرفت ما تعني كلمة "شاب". فشخصيتي ظهرت، وصارت لي مجموعة صغيرة من وجهات النظر في كل شيء، ظهرت زمرتي او شلتي، وجمعنا الحب والتنافس على كل شيء. من يقرأ كتابا، ومن يفوز بنظرة من فتاة تعلقت بها قلوب افراد الشلة طويلاً.. وهكذا.
واذكر ان احد ابناء حي مجاور ضرب واحداً من افراد شلتنا، فذهبنا جميعاً لنؤدبه، وتقدمت الصفوف للنيل من الفتى الصغير. وفي لمح البصر، وجدته يخلع ملابسه حتى اصبح عارياً تقريباً، ثم اخرج موسا حاداً تبرق شفرته كحد السيف في الافلام، واخذ يقطع جلده امامي.. وزاغت عيناي من الدهشة والرعب وسمعت صوتاً داخلياً في صدري، الذي كان يرتفع وينخفض بسرعة واضطراب، يقول: "اذا كان صاحبنا يفعل بنفسه هكذا، اذاً فماذا هو فاعل بك يا واد يا عدول؟!!".
ولم ادر بنفسي الا وانا اطلق ساقي للريح، والتفت حولي بعدما وصلت الى منطقة آمنة، فوجدت باقي افراد الشلة معي يلهثون من الجري وقد تقطعت انفاسهم!!
هل كان هذا المشهد هو النهاية الطبيعية لكل مواجهاتك ايام الشباب؟
- لا.. كان استثناء، فقد تعلمت - في ما بعد - كيف احصل على اي حق ضائع، وبالقوة.
عندما كنت اعود الى المنزل، واكتشف ضياع احدى حاجاتي، كان ابي يقابلني بنظرة مترعة بالطيبة ومليئة بالحزم معاً، ويصر عليّ ان انزل لآخذ حقي بيدي، واستعيد ما فقدت!
هل هذا مبدأ يثبت صحته في جميع الحالات الفردية والجماعية؟
- ربما يصدق على الغالبية الغالبة من المواقف الفردية، ولكن على مستوى الامم او الشعوب هناك عناصر كثيرة جداً تحكم المسلك الجماعي وينبغي مراعاتها.
مع شلة الحلمية.. ما هو نوع الحوارات التي كانت تجري بينكم؟
- كنا نتكلم عن عبدالناصر!!. لقد كان يملأ حياتنا ويشغلنا بشكل غريب، حتى ونحن نتكلم عن كرة القدم، كان موقفنا من اهمية الرياضة كأولوية اجتماعية يتأثر جداً بأولوياته التي حددها لنفسه او لبلده!
ومن كثرة اهتمامي بمثل هذه الامور العامة نقلني ابي الى مدرسة ثانوية في الاسكندرية ليبعدني عن الشلة، فكانت المدرسة الوحيدة التي قبلتني هي المدرسة المرقسية، يضحك لانها كانت تقبل كل الطلاب مهما كان مستواهم، وبعدها دخلت كلية الزراعة في جامعة القاهرة.
وفي كل هذه الاماكن استمر عبدالناصر هو الموضوع الوحيد، بعضنا دخل منظمة الشباب التابعة للاتحاد الاشتراكي العربي "تنظيم عبدالناصر السياسي"، وبعضنا كان معارضاً للثورة، ومازلت اذكر اثنين من شلتنا في الحلمية تم اعدامهما في قضايا اقطاع، فقد كانت الشلة متنوعة اجتماعياً جداً، والخلاصة ان عبدالناصر والخلاف معه او الاقتناع به كان الموضوع السائد سيادة كاسحة.
وماذا كنتم تقرأون؟
- يضحك بدأت شلتي بمذكرات إيفا - التي تعرفونها طبعاً - ثم بالروايات البوليسية لأرسين لوبين، ام انا - شخصيا - فكانت قراءتي تختلف وكانت هوايتي الاساسية التاريخ، كان الموضوع رقم واحد في قائمة اهتمامي بالقراءة، حينما كنت اتسلم كتب المقررات الدراسية في بداية العام الدراسي، كان كتاب التاريخ صديقي الذي أختلي به لأقرأه كاملاً في اليوم الاول!
مازالت صور كثيرة محفورة في مخيلتي، وتمثل انطباعي الاول عن شخصيات التاريخ المصري.
وايضاً كانت لي وجهة نظر، فلم أر - مثلما كان الكتاب يقول - ان الفرنسيين في حملتهم على مصر كانوا مجرد غزاة مستعمرين، وانما شعرت بمدى الاضافة الحضارية التي حققوها لمصر.
وكذلك محمد علي لم أر - كما كان الكتاب يقول - انه - فقط - حاكم غير مصري، ولكنني احسست ان هذا الرجل قدم لمصر واضاف لها الكثير جداً.
يسرح طويلاً... عبدالرحمن الجبرتي مؤرخ مصر الاشهر مازلت اذكر نصوصاً من مؤلفه "عجائب الآثار في التراجم والاخبار".. تصور حال مصر قبل الحملة الفرنسية ومحمد علي، الناس الذين يدفنون موتاهم في بيوتهم، الطاعون الموسمي والاوبئة، امور كثيرة تؤكد - جميعها - حجم الاضافة الحضارية التي حدثت.
ومما أذكره من نصوص الجبرتي "حضر الفرنسيون الى مصر.. وكان مع البعض منهم نساؤهم، وكن يخرجن الى الشوارع حاسرات الوجوه، لابسات الفساتين وسط الضحك والقهقهة ومداعبة المكاريه اي الحمارة بفتح الحاء".
كان اسلوب الجبرتي في الوصف غريباً، ولكنه لذيذ في آن واحد، فقد كانت له عين حضارية ناقدة، فحين تؤكد رواياته التاريخية انه كان ضد المستعمر، تظهر عنده اشارات متعددة تفيد اعجابه بالاضافات الحضارية، ومنها مثلاً وصفه لتقديم سليمان الحلبي الى المحاكمة بعد اغتياله لكليبر قائد الحملة بعد نابليون، فقد توقف باندهاش واعجاب طويلين امام فكرة احضار الفرنسيين لمحام يترافع عن الحلبي!
لعلها قضية، وقد طرحها استاذ التاريخ المصري المعروف الدكتور عبدالعظيم رمضان وتساءل هل يكون المؤرخ مجرد ناقل او صاحب وجهة نظر؟ وانا افضل ان يكون المؤرخ صاحب وجهة نظر.
لقطة مقربة اخرى زووم لأبيك. ماذا كانت نوعية حواراته معك؟
- ابي كان صديقاً لدوداً لي في مرحلة اشباب، ثم اصبح اليوم صديقاً حبيباً حنوناً ألوذ به وألتمس حكمته. كل همه كان الحفاظ على بيته. تملكته خشية كبيرة وانا في المرحلة الثانوية، ان اتورط في امر يعرضني للخطر، وبالذات من السياسة.
كان يراقبني وانا مبهور بالحركات السرية، وكان يشفق من ان تسحبني احداها الى أتون لا ابصر خطورته، كل ما هو تحت الارض Under Ground كان يشغلني، ويستوعب كل طاقتي ورغبتي في المغامرة او البطولة!
بمقدار ما انخرطت في جماعات تنتمي للاخوان، بمقدار ما عملت في جماعات تنتمي للشيوعيين.
وكنت اشعر بحجم الانزعاج الهائل في قسمات وجه ابي ونبرات صوته حين يجد عندي كتباً عن الثورة الصينية او كارل ماركس..!
وعندما اصطدم عبدالناصر بالشيوعيين وبدأ يقبض عليهم، دخل ابي الى غرفتي واستولى على كل كتبي واحرقها، ثم اكل هذا المناضل الجالس امامك - الآن - علقة تتحدث عنها الركبان!
في منزل محمد امام.. ما هو الموقف الذي انفتح خلاله باب غرفتك فجأة.. فأرعبك؟
- امي هي التي فعلت.
في اي موقف؟
- صعب جداً ان اقول لك!!!
في ماذا كان ابوك يحدثك؟
- في الدين.
كان لي خال يتصور الجميع انه منفلت، ويكلمني ابي كثيراً عن افعاله، الا ان الامر تغير بعدما تاب واصبح عضواً في احدى الجماعات الصوفية.
كنت احب خالي جداً، وكان يحبني، وفي يوم ضمني الى احدى هذه الجماعات الصوفية، ولكنني - بطبعي - اميل الى مناقشة اي شيء، وكل شيء، ولا اعترف بما يراه الناس من حولي مسلمات يقينية، كنت اخجل من كل شيء الا المناقشة، كنت في عز المراهقة، وعندما كنت اذهب الى دار سينما وهبي في السيدة زينب بجوارنا، وارى راقصة في احد الافلام، اشيح بوجهي خجلاً، اما مع شيخ الجماعة لم اكن اعرف الخجل، ناقشته في كل شيء، حتى اصبح الرجل يستثقل دمي.
نظرت طويلاً الى مشهد رجال بشوارب - ضمنهم خالي الذي كنت اعتبره مثلاً اعلى - ينحنون على يد شيخ الطريقة المربرة السمينة كرغيف طالع لتوه من الفرن، ويقبلونها.
ولم تعجبني الحكاية، فاليد الوحيدة التي اقبلها باقتناع وباستمتاع - ايضاً - هي يد ابي، اما يد الرجل اياه فلم تكن تمثل بالنسبة لي اكثر من مجرد يد "ملظلظة" فحسب!! المهم… كرهني الرجل، وصار يحدجني بنظرات غير مريحة وتجاهلته في البداية… ثم انصرفت عنه.
عودة الى ابيك… لم تقل لي في ماذا كان يناقشك؟
- كان ابي يحب الوفد، ويحب مصطفى النحاس.
وهل احببت - انت - الوفد؟
- كنت احبه، بمعنى معين، هو شغفي بالمواقف الكبيرة، والرائدة، فما زلت اذكر كيف كان الكبار يرددون لنا مقولة النحاس: من اجل مصر وقعت المعاهدة وباسم مصر الغيتها"، حبي للوفد كان حبي للخطب!
كنت اموت في المظاهرات، يضحك لا لشيء الا لانها تعطل المدارس بالطبع.
ما هو نوع المظاهرات التي خرجت فيها؟
- اغربها، كانت وقت دراستي الجامعية، فقد تغيبت يوماً عن الجامعة - لا اذكر لماذا - وذهبت في اليوم التالي لاعلم ان زملائي خرجوا في مظاهرة ضد عبدالكريم قاسم، وحزنت جداً لانها فاتتني، واصريت ان نخرج في مظاهرة جديدة، لان مظاهرة الامس فاتتني!!
ماذا كنت تقرأ وقتها في الصحف؟
- كل شيء… والصحف وقتها كانت وسيلة حقيقية للثقافة، فإذا نظرت الى يوميات جريدة الاخبار - وقتها - ستجد ان كتابها جميعاً عمالقة: طه حسين، والعقاد، وكامل الشناوي… فأي مصدر للمعرفة يمكن ان يفضل هذا المصدر!
لقطة شاملة اخيرة للحلمية… كيف تتذكرها الآن؟
- الحلمية لها عبير خاص، فعندما يلتقي اثنان من سكانها حتى اذا لم تربطهما معرفة سابقة، تجد شيئاً خاصاً يشد كل منهما الى الآخر، وكأن الدم يحن. شكل الحي كان جميلاً وبيوته لها حدائق صغيرة معتنى بها جداً، وارجاؤه كانت نظيفة.
وجمال الحي كان لأن كثافة السكان فيه - وقتها كانت قليلة حيث "شلل" الشباب كانت تنتشر في ارجاء المكان الذي فيه لبسنا "البنطلونات" الطويلة، وتعلمنا الوقوف على النواصي، وحيث اسسنا فرق كرة القدم التي كانت المنافسة تشتعل بينها الى حد هائل.
كانت الحلمية صورة مصغرة لمصر، ولحياتها السياسية والفكرية، فيها مقر رسمي للاخوان المسلمين، ومندوبون للحركات الشيوعية، فيها تجار وموظفون وعمال وارستقراطيون.
ثم ان الحي يقع في المنطقة القديمة من القاهرة، فلو خرجت من شارع الحلمية قليلاً، تجد مسجد السلطان حسن، ومسجد الرفاعي، وقلعة صلاح الدين، وفي الناحية الاخرى يجاورنا مسجد السيدة زينب… كان للحي علاقة بالتاريخ الذي كنت تشم رائحته في كل شيء.
اذكر من جيراني الدكتور ماهر فهمي وهو طبيب بيطري وهو صديقي حتى الآن، ومن كثرة ما تلازمنا كان اهل الحي يظنون اننا شقيقان.
واذكر من جيراننا ايضاً الشيخ محمد الغزالي، وكان شكله وطريقته - بالضبط كما هو الآن - لم يتغير ابداً، كان يجري وراءنا ويلعننا لاننا كنا نلعب كرة قدم امام بيته.
في الحلمية، كانت كرة القدم هي المرادف لكلمة رياضة، ولكن في المدارس والجامعة كنت العب كرة الطاولة والكرة الطائرة.
امضيت اوقاتاً طويلة جداً في الشارع، وكان المدرسة التي تعلمت فيها الاحساس بالناس.
شعرت باحتياجي لاشياء كثيرة، فالملابس كانت يا دوب، ولم تكن لدي دراجة، وذات يوم جاء صاحب لي الى المدرسة ومعه دراجة جديدة تلمع وتبرق، وتساءلت لماذا يستطيع شراء هذه الدراجة ولا استطيع انا، ووجدت نفسي امتطي صهوة دراجته واذهب الى منزلي… ماذا اسمي هذا؟… هل هو عمل مشروع؟… هل هو عمل غير مشروع؟
لا اعرف… ولكنه كان - ولا شك - تلبية لاحتياج داخلي كبير وليد الشعور بالذات والشعور بالآخرين.
مرآة الفن
بطل الشارع والجينز هو النموذج الذي طرحته في شكل ثورة كاملة على شكل البطل الكلاسيكي في السينما العربية، كيف تشكلت داخلك هذه الصورة الجديدة؟
- الممثل الحقيقي يخرج الشيء الموجود هنا يشير الى قلبه، مروراً بهنا يشير الى دماغه.
يعني يخرج ما في القلب، بسيطرة عقلية.
انت كرسام تعرف كيف تعبر العينان عن حالات المشاعر المختلفة التي يمر بها الانسان، ووظيفتي كممثل ان اسيطر على هذه المشاعر عقلياً لتخدم نصاً ودوراً العبه.
انظر في المرآة امامك، ماذا تقول عيناك؟
تقول ما في قلبي مباشرة، لانني الآن لا امثل!
في افلام زمان كانت هناك انماط يتقولب فيها الممثل. نمط الافندي، يلبس الطربوش ويلمع شعره ويثبت قرنفلة في عروة سترته. ونمط العامل الذي لا يعرف طريقة في الحديث سوى ان "يطجن".
كل هذه انماط لا تنقل صورة الناس الحقيقيين، ولا تعبر عنهم.
"الجينز" هو الزي الموحد الذي اختارته الجماهير، لم تفرضه الحكومة، ولم يجبرنا عليه اتجاه، جميع الطبقات ترتديه، وكل الاعمار، ولذا لبسته في كل افلامي.
مم يضحك الناس في عالمنا العربي اليوم؟
- الضحك هو الضحك، كما ان اللحمة هي اللحمة، والفراخ هي الفراخ!
ولكن الضحك كعنصر يتأثر بالعوامل المحيطة، فما نضحك عليه بالامس قد لا يضحكنا اليوم.
فرنانديل او شابلن او الريحاني لا يضحكوننا اليوم.
زمان لم يكن "الفوشيا" لوناً مطروحاً في حياتنا الاجتماعية، واليوم اصبح معروفاً.
كان الكوميدي في الماضي اما عبيطاً او فيلسوفاً. اما الآن فانا كوميدي، وأنت كوميدي، وكل من يمشي في الشاعر كوميدي، الضحكة بالامس كانت تصدر بتلقائية وبساطة، وتعرف طريقها بنفسها، من اين تصدر والى من تصل، وكيف.
في الماضي كان المسرح للخاصة تقريباً، اما اليوم فيجلس امامي في صف واحد استاذ الجامعة والعامل.
ليس هناك ما يسمى الضحك الرخيص والضحك الهادف. فما دام البني آدم المتفرج ضحك، فهو ضحك بسبب او لهدف، فالضحك لا يأتي من فراغ.
ما هي العوامل التي شكلت قدرتك على السخرية؟
- الشارع المصري. لقد رأيت اشخاصاً وحوادث واشياء كثيرة جداً وهضمتها داخلي تماماً، ثم ان السخرية موهبة من عند الله.
في الماضي كانت السخرية نشاطاً يومياً امارسه في الذهاب والاياب وعلى طوب الأرض، وكنت اعود الى البيت محملاً بشعوري بتأنيب الضمير، وأسمع هاجساً يتردد صوته في جنبات نفسي: "ايه قلة الأدب اللي انا عملتها دي؟!".
من هم اكبر ضحايا سخريتك؟
-لآ لا تنظر اليّ على انني سفاح كوميدي!
اذاً من هم الذين كان لهم نصيب الأسد من سخريتك؟
- المدرسون!، ولو انهم حين فهموني… احبوني جداً، كنت اقلدهم جميعاً، ولعمري ما تصورت ان اكون ممثلاً محترفاً، كنت - احياناً - اكتب روايات كاملة وأعد لها الخشبة، وأضع ميكياجاً، وآتي بأولاد من زملائي لا يفهمون شيئاً وأضعهم حولي، وأمثل مخاطباً كل منهم بعض الوقت!
كل ذلك كان في "بنبا قادن" الثانوية، لم تكن مسرحيات بالمعنى المفهوم، ولكنها اشبه بالمواقف، اذكر منها مثلاً موقف "كمساري" يطارد راكباً في حافلة عامة لا يريد دفع ثمن التذكرة، وكان اداء هذا المشهد يستغرق ساعة كاملة.
في بنبا قادن كان الناظر مصطفى خلف مغرماً جداً بما اقدمه، وطلب مني في مرات عديدة ان اؤدي مشاهد من هذه النوعية في حفلات للمدرسة.
اما في كلية الزراعة، فحاولت تقديم مسرحيات باللغة العربية الفصحى مثل "كليبر" او "أحمس الاول" او بعض اعمال "تشيكوف"… ولدهشتي كان الناس "يفطسون" من الضحك!!!
وعلى رغم انني قمت بتمثيل بعض الادوار في مسرحيات الريحاني التي كنا نقدمها في مسرح الكلية، مثل شخصية تادرس في مسرحية الدنيا على كف عفريت، الا اني لم احب مسرحيات الريحاني، لأنها كتبت لتناسب اداءه فقط وشخصيته فقط.
اذاً الشارع المصري هو الذي علمك الكوميديا، فما هو اكثر ما يضحكك فيه؟
- اشياء كثيرة وصغيرة، خناقة يمكن ان تقوم بين اثنين على مقهى، بسبب بسيط وتستعمل فيها كل العوامل التراثية والفلسفية التي يمكن ان يتخيلها الانسان، من امثال شعبية الى قصص الى امثلة الى قياسات منطقية تميت من الضحك.
ولكن اكثر حادثة عامة اضحكتني كانت ان الشعب المصري خرج عن بكرة ابيه في منتصف الستينات لاستقبال خروتشوف، ثم خرج عن بكرة ابيه في منتصف السبعينات لاستقبال نيكسون، هل يعني هذا ان الشعب "أريب" و"عويط"، ام يعني انه حضاري ومصلحي؟… لا اعرف… ولكنها على اي حال مفارقة مضحكة جداً.
مرآة الجيل
نقلة هائلة بين الحلمية 1956 و1992… فكيف ترى الجيل الجديد؟
- الطموح محدود، والاحباط كبير. ربما كان السبب في نظرة الاجيال القديمة اليهم بوصفهم اقل.
كان حسني مبارك معبراً جداً في خطاب له في ذكرى عبدالناصر حين قال انه كان زعيماً لأنه كان يعتقد في الاجيال المقبلة والشبان، وهذا الاعتقاد الغائب الآن هو الذي اوصل الجيل الحالي لأن يكون طموحه محدوداً واحباطه كبيراً.
كل جيل عليه ان يتحمل مسؤولياته ويربي نفسه، ويصنع رموزه وعبقرياته، وهناك من احترفوا تأميم المستقبل مطبقين شعار "ام كلثوم لن تتكرر" في كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ولكن الحقيقة التي تهزم كل الحقائق في هذا السياق هي ان معظم ابناء جيلي امضوا اجمل سنوات عمرهم من 9 الى 11 عاماً في خنادق المواجهة بعد 1967، وبالتالي ضاعت فرصة جيل كامل في تقديم رموزه المبدعة في السياسة والاقتصاد والثقافة والفن لهدف يسمو فوق اي هدف، وبالتالي فان الفراغ الحادث حالياً، لا يعني - اطلاقاً - انه دائم.
في ظني ان هذا هو المفتاح الذي يمكن ان يخرج الجيل المصري الحالي عبره الى طموح اكبر واحباط اقل. ويتخلص من اتكاليته على الدولة في كل شيء ويشارك في تشكيل مجتمعه واختيار حكومته عبر تساؤل: هل تصنع الحكومة ام ان الحكومة تصنعك؟
حين يحدث هذا سيختفي التطرف ذلك الوحش الجديد الذي يحاصر الجيل الحالي في مصر.
فالتطرف نتيجة اقتصادية واجتماعية، وخطورته انه يضع شبابنا في دائرة مغلقة، التفكير مطوق فيها تماماً.
التطرف يحاول ان يصبغ كل شيء ولو كان الشباب مستغلاً في العمل، ومنجذباً الى دور عام لن يتطرف… اكرر لن يتطرف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.