التعامل مع المرحلة الانتقالية في سورية    إحباط تهريب (1.3) طن "حشيش" و(136) طنًا من نبات القات المخدر    بناء الأسرة ودور مراكز الرعاية الصحية الأولية    معرض الكتاب بجدة كنت هناك    جمعية(عازم) بعسير تحتفل بجائزة التميّز الوطنية بعد غدٍ الإثنين    البديوي: إحراق مستشفى كمال عدوان في غزة جريمة إسرائيلية جديدة في حق الشعب الفلسطيني    مراكز العمليات الأمنية الموحدة (911) نموذج مثالي لتعزيز الأمن والخدمات الإنسانية    الفريق الفتحاوي يواصل تدريباته بمعسكر قطر ويستعد لمواجهة الخليج الودية    الهلال يُعلن مدة غياب ياسر الشهراني    جوائز الجلوب سوكر: رونالدو وجيسوس ونيمار والعين الأفضل    ضبط 23194 مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود.. وترحيل 9904    الأونروا : تضرر 88 % من المباني المدرسية في قطاع غزة    زلزال بقوة 5.6 درجة يضرب الفلبين    بلدية محافظة الاسياح تطرح فرصتين استثمارية في مجال الصناعية والتجارية    حاويات شحن مزودة بنظام GPS    سديم "رأس الحصان" من سماء أبوظبي    أمانة القصيم توقع عقد تشغيل وصيانة شبكات ومباشرة مواقع تجمعات السيول    مهرجان الحمضيات التاسع يستقبل زوّاره لتسويق منتجاته في مطلع يناير بمحافظة الحريق    «سوليوود» يُطلق استفتاءً لاختيار «الأفضل» في السينما محليًا وعربيًا خلال 2024    بعد وصوله لأقرب نقطة للشمس.. ماذا حدث للمسبار «باركر» ؟    الصين تخفض الرسوم الجمركية على الإيثان والمعادن المعاد تدويرها    الفرصة مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    انخفاض سعر صرف الروبل أمام الدولار واليورو    المكسيك.. 8 قتلى و27 جريحاً إثر تصادم حافلة وشاحنة    أدبي جازان يشارك بمعرض للتصوير والكتب على الشارع الثقافي    دبي.. تفكيك شبكة دولية خططت ل«غسل» 641 مليون درهم !    رينارد وكاساس.. من يسعد كل الناس    «الجوير».. موهبة الأخضر تهدد «جلال»    ابتسامة ووعيد «يطل».. من يفرح الليلة    رئيس الشورى اليمني: نثمن الدعم السعودي المستمر لليمن    مكي آل سالم يشعل ليل مكة بأمسية أدبية استثنائية    جازان تتوج بطلات المملكة في اختراق الضاحية ضمن فعاليات الشتاء    الرويلي يرأس اجتماع اللجنة العسكرية السعودية التركية المشتركة    مدرب ليفربول لا يهتم بالتوقعات العالية لفريقه في الدوري الإنجليزي    لخدمة أكثر من (28) مليون هوية رقمية.. منصة «أبشر» حلول رقمية تسابق الزمن    رئيس هيئة الأركان العامة يلتقي وزير دفاع تركيا    السعودية تقدم دعمًا اقتصاديًا جديدًا بقيمة 500 مليون دولار للجمهورية اليمنية    وزير «الشؤون الإسلامية»: المملكة تواصل نشر قيم الإسلام السمحة    خطيب الحرم: التعصب مرض كريه يزدري المخالف    مآل قيمة معارف الإخباريين والقُصّاص    الصندوق السعودي للتنمية يموّل مستشفى الملك سلمان التخصصي في زامبيا    مهرجان الرياض للمسرح يبدع ويختتم دورته الثانية ويعلن أسماء الفائزين    عبقرية النص.. «المولد» أنموذجاً    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    أميّة الذكاء الاصطناعي.. تحدٍّ صامت يهدد مجتمعاتنا    نائب أمير مكة يفتتح ملتقى مآثر الشيخ بن حميد    «كليتك».. كيف تحميها؟    3 أطعمة تسبب التسمم عند حفظها في الثلاجة    فِي مَعْنى السُّؤَالِ    دراسة تتوصل إلى سبب المشي أثناء النوم    ثروة حيوانية    تحذير من أدوية إنقاص الوزن    ضرورة إصدار تصاريح لوسيطات الزواج    رفاهية الاختيار    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    حلاوةُ ولاةِ الأمر    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شامير يريد "الحل المستحيل" للمشكلة الفلسطينية والسادات هو "الحاضر الغائب" في المفاوضات الحالية
نشر في الحياة يوم 30 - 03 - 1992

الطريق طويل متعرج معقد والسير فيه يمتد الى الامام حيناً ويلتف الى هذا الجانب او ذاك. وفي كثير من الاحيان يدور حول نفسه او يرتد الى الوراء. ويمر الزمن منذ وعد بلفور 1917 الى يومنا هذا وتتغير الحقائق والنظم والحكومات ولكن يستمر الصراع على رغم تغير مسمياته وتشعب ابعاده واطرافه المحلية والاقليمية والدولية، ويتصاعد الصراع بدلاً من ان ُيخب او يُحتوي، الا من ومضات مثل الشهب يبرق منها امل السلام قبل ان يحترق، وتلمع فرص سانحة ثم ُتهدر لأنها لا تحقق حلم هذا الطرف او ذاك. هذا الكفاح الطويل بين الحركة العربية والحركة الصهيونية يكاد يكون حصاده الوحيد تراكم الفرص الضائعة وتصاعد الشكوك والمخاوف والاتهامات المتبادلة.
وقد جربنا وجرب العالم معنا جميع وسائل التسوية السلمية، من "لجان تحقيق" الى "لجان استماع" الى استخدام الوسطاء الدوليين من الكونت برنادوت الى رالف بنش والسفير يارنغ وآخرين.
واستنفدنا وسائل التسوية السلمية الواردة في الباب السادس من ميثاق الامم المتحدة دون ان تحقق نجاحاً كبيراً او تسوية ثابتة، واستحدث لنا نظام قوات حفظ السلام والقوات المتعددة، وامتلأت اضابير الامم المتحدة، سواء في مجلس الامن او الجمعية العامة بمئات التوصيات والقرارات من اجل تسوية النزاع في الشرق الاوسط، فلم تحقق الا فترات قصيرة من الهدوء المتأهب لمزيد من التصعيد، وتتوارى الآمال في امكان الوصول الى حل سلمي مقبول ويتحرك الصراع الى نوع من الصراعات الممتدة تتغير فيها موازين القوى وتتعدد مسارح الصراع وخلفية كل منها، ويلد الصراع الاصلي صراعات ثانوية تغطي احياناً على جوهر الخلاف، وندخل في دوائر خبيثة مفرغة لا تحقق السلام والاستقرار، وقد بلور البعض هذه الحالة النفسية اليائسة من امكان الوصول الى سلام معقول الى ايديولوجية جديدة قديمة هي فلسفة "الرفض". وبدلاً من مواجهة الواقع في الزمن التاريخي الحاضر لجأت الاطراف الى اسلوب التأجيل، اما كسباً للوقت لترسيخ الاحتلال كما يدعو غلاة الرافضين في اسرائيل او سعياً لظروف احسن يأساً من امكان الوصول الى حل عادل كما يرى بعض العرب.
واكتسبت ايديولوجية "الرفض" مزيداً من الشرعية بالالتجاء الى تطويع الفكر الديني ليخدم الاهداف السياسية المتطرفة واتفق من يطلقوا على انفسهم لقب "الاصوليين" من الجانبين على رفض السلام بالهروب الى الماضي والاختباء في كهوف الايديولوجيات والى صنع عالم وهمي من النعوت والصفات يرفض افكار العدالة وقواعد التعايش الدولي المعاصر.
وبدأ الامر وكأن الصراع اصبح حالة طبيعية مستمرة تعودت عليها الاطراف المتنازعة وهيأت نفسها عسكرياً وسياسياً ونفسياً لمزيد من الصراع والتأهب لمعركة مقبلة. وهكذا استمرت الامور حتى تم الالتقاء في مؤتمر السلام في مدريد، وبدلاً من الصدام المسلح او الحرب الباردة، او معارك الاستنزاف اجتمعت الاطراف في مدريد وواشنطن وموسكو في تقابل للمفاوضة والمناظرة، والسعي السلمي لايجاد حل للنزاع.
فلماذا لجأت كل الاطراف المعنية الى قبول الدعوة الاميركية - السوفياتية وتحت رعاية القطب الاكبر الاميركي والقطب الآخر الذي بدأ سوفياتياً وتحول قبل اجتماعات موسكو الى قطب روسي؟
لماذا رفضت الاطراف منطق ومبررات الرفض واقبلت على انتهاج اسلوب المفاوضات؟ وما هو السر الحقيقي الذي احدث هذا التغيير التاريخي؟ وكيف تغير الحال بعيداً عن "ميدان القتال" الى "ميدان المفاوضة"؟ فهل تغيرت المباراة ام تغير المتبارون ام تغيرت قواعد "اللعبة السياسية" حتى تذهب الاطراف - متمنعة او مقبلة - بكل ارادتها الى ميدان الديبلوماسية الثنائية والمتعددة، للسعي لتسوية النزاع؟ وما هي الشروط والقيود والمفاهيم والتطمينات التي طرحتها اميركا بتأييد روسي ودولي فجعلت الاطراف ترفض ان تقول "لا"، اي ترفض الرفض وتدخل الى عمليات السلام - وهي بدورها - عمليات صعبة ومتعددة والرؤية فيها محدودة في احسن الاحوال؟ وما هو الاطار العام لهذه المفاوضات وما هي معالم الطريق وضمانات السلامة وما هي مخاطر السير في هذا الدرب الذي لا نرى منه الا خطوط البداية ولكننا لا ندري بيقين الى اين ستقودنا خطانا، وهل سيتحقق سلام شامل ومقبول ام اننا نستدرج الى سراب جديد؟ هل نحن ضحايا وهم جديد وحلم لا يمكن ان يتحقق؟
مئات الاسئلة وعلامات الاستفهام والتعجب وجمل اعتراضية واشتراطية، وفيضان من الحجج والحجج المضادة.
الداخل في هذا الطريق يصبح مثل الحائر في متاهات ارض غير مكتشفة وطرق غير ممهدة او مرسومةويحتاج الى دليل حتى يستطيع ان يطرق السبيل بحيث يتبين الى اين يسير وماذا يحقق؟
"خسرنا الحرب وخسرنا السلام"
علينا ان نحاول ان نتعرف على الظاهر والغائب والمستتر والمستور في عالم المفاوضة والمساومة والبحث عن السلام.
ان عالمنا يمر اليوم بتغيرات دولية جوهرية سريعة الخطى عميقة الاثر والنظام الدولي يعاد تشكيله وتطوير قواعده ولا احد يعلم بدقة صورة النظام الجديد الذي لم تكتمل ولادته بل هو ينمو ويضع قوالبه نتيجة لتفاعل داخلي وخارجي في دول ونظم العالم. هذا التغير ليس مجرد تزايد في الكم والمقدار بل يشمل تغييراً في النوع والقواعد والقيم، ونحن جميعاً في دول الشرق الاوسط وشعوبه لا نمثل الا جزءاً من هذه الثورة العالمية التي تنطلق بنا وحولنا، ونجد انفسنا في هذه الثورة نمثل جزءاً من الفعل ومن الفاعل ومن المفعول به.
ان التعدد على قوالب راسخة من الفكر نستعيدها وكأنها حقائق لا يأتيها الخطأ والتغير جعل الكثير منا يستبدل الفكر الذي يقوم على الشك والنقد والبحث عن السبب والنتيجة وإلى تسمية منظومة الاجابات الجاهزة والجمل الانشائية وفنون الكلامولوجيا على انها تمثل فكراً بدلاً من ان نراها على حقيقتها كنوع من العدسات المضللة التي تحجب الرؤية وتحد من النظر. ونتيجة لذلك اصبح من الصعب على الكثيرين ان يكتشفوا ما هو "بديهي". وقد اصبحنا نشاهد بعض المفكرين يرددون ما هو بديهي" وكأنهم اكتشفوا نظرية علمية جديدة لم يسبقهم اليها احد، ان النظرة غير التحليلية لتطورات السياسة جعلتنا في كثير من الاحوال نضل الطريق الى رؤية ما هو ظاهر وسافر خصوصاً اذا كان من النوع السهل الممتنع.
ولإدراك هذه البديهية دعنا نتذكر انه منذ اقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة لمشروع تقسيم فلسطين 1947 لم يعرض على الامم المتحدة او خارجها اي مشروع متكامل للمفاوضة بين الطرف العربي والطرف الاسرائيلي لتسوية النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي والنزاع العربي - الاسرائيلي بجميع ابعاده.
فبعد رفض الدول العربية والقيادة الفلسطينية لمشروع التقسيم وفشل العرب في الحصول من الولايات المتحدة والأمم المتحدة على ضمانات لتنفيذ مشروع التقسيم المرفوض بآلية تضمن صيانة الحقوق الفلسطينية، قام العرب بحرب 1948 وتحملوا تبعاتها على رغم ان التنظيمات الاسرائيلية العسكرية كانت تهاجم المدن والقرى الفلسطينية منذ اواخر 1947. واستخدمت الحركة الصهيونية خطب العرب الرافضة لمشروع التقسيم كمبرر لتصوير العرب بصورة رافضة معتدية، فخسرنا الحرب وخسرنا الدعوة للسلام ولم يتبق من الجزء الفلسطيني في مشروع التقسيم في يد العرب الا 29 في المئة من مساحة فلسطين ونشأت مشكلة اللاجئين الفلسطينيين. وهكذا سبب الرفض العربي لمواجهة الواقع والتعامل ايجابياً معه خسارة تفوق خسارتهم في مشروع التقسيم. وكان من الممكن ان يحتج العرب على مشروع التقسيم ولكنهم يعلنون احترامهم للشرعية الدولية - ولو كانت ظالمة - اذا وفرت الامم المتحدة ضمانات لحقوق الشعب الفلسطيني في الجزء المخصص لقيام الدولة اليهودية، كما نص على ذلك في مشروع التقسيم.
كيسنجر وكارتر
وتحول السعي العربي بعد ذلك للمفاوضة على اتفاقات الهدنة بين كل دولة عربية مجاورة واسرائيل. وكانت خطوط الهدنة والمناطق المنزوعة السلاح بين الطرفين تمثل تكريساً غير مباشر - وان كان حقيقيا - لتوسع اسرائيل ارضياً وعلى رغم ان اتفاقات الهدنة كانت تنص على انها ترتيب موقت الى حين قيام السلام الدائم، فقد انكر العرب ان محادثات الهدنة تمثل "مفاوضات" لأنها مجرد محادثات عسكرية بين عسكريين. ودخلت الدول العربية في صراع طويل في دوائر الامم المتحدة لتنفيذ قرار التقسيم الذي رفضوه قبلاً، وادى هذا الجهد العربي المتأخر الى قيام "لجنة التوفيق الفلسطينية، وهي قائمة منذ 1949 وحتى يومنا هذا للتوفيق بين الاطراف عن طريق ممثلين للولايات المتحدة وفرنسا وتركيا، وبدأت بما يعرف بمفاوضات لوزان سنة 1949 وهي مستمرة الى اليوم تردد ضمان القرارات السنوية التي تستصدرها الجمعية العامة من دون اي مردود حقيقي. وعلى رغم المجهود الضخم لهذه اللجنة فان وضع اسرائيل الراهن لم يتغير. وعمد العرب، نظراً الى حالة الاحباط، في اجتماع قصر شايوه للأمم المتحدة سنة 1950، الى اتخاذ قرار بمقاطعة التحادث مع الاسرائيليين. وبدلاً من كشف التعنت الاسرائيلي اتاح المسلك العربي الغاضب في تصرفاته المجال لاسرائيل للمبالغة في اظهار العرب في صورة متخلفة.
ومنذ قيام لجنة التوفيق 1949 الى صدور قرار مجلس الامن 242 في تشرين الثاني نوفمبر 1967 كانت المفاوضات والمحادثات والوساطة تركز على جوانب محدودة من النزاع وليس جميع جوانب النزاع. وكان المفهوم العربي للقرار 242 ان يقتصر على تسوية آثار عدوان 1967، على رغم ان هذا العدوان انتهى الى احتلال اسرائيل لكل اراضي فلسطين واراض مصرية وسورية واردنية.
ومنذ عدوان حزيران يونيو 1967 استمرت الجهود الدولية لتطبيق القرار 242 عن طريق مجهودات السكرتير العام ولجان من اعضاء مجلس الامن ومحادثات السفير يارنغ. ثم قامت حرب تشرين الاول اكتوبر 1973، والقرار 338، ثم اجتماع مؤتمر السلام الاول في جنيف في 21 كانون الاول ديسمبر 1973 وحضرته مصر والاردن وامتنعت سورية في آخر لحظة. ويلاحظ ان مؤتمر جنيف لم يتطرق الى دعوة الفلسطينيين او مناقشة قضيتهم.
ان الجهود الدولية منذ عام 1973 فشلت في وضع الابعاد المختلفة لهذا الصراع في اطار للمفاوضة او في جر الاطراف الى الاشتراك في عملية المفاوضات. ونجحت حكومات اسرائيل المتتابعة في المراوغة والتهرب من اي عملية مفاوضات شاملة مع كل الاطراف العربية وكل المواضيع الاساسية التي تلم بابعاد النزاع. هذا التهرب من الجلوس على مائدة المفاوضات اتاح لاسرائيل مزيداً من الوقت تستغله في تثبيت وتعميق احتلالها للاراضي والموارد العربية وفي تغيير التكوين السكاني والاقتصادي والامني للاراضي القريبة بشبكة متزايدة من المستوطنات تفتت بها وحدة التراب الفلسطيني وتعمل كعنصر ضغط ضد اعادة الاراضي العربية في مقابل السلام.
ويلاحظ ان الدكتور هنري كيسنجر لم يكن يرغب في الوصول الى حل شامل بين العرب واسرائيل، بل كان يفضل الخطوات الجزئية التدريجية لأنها تتيح لاسرائيل ترجيحاً وثقلاً في عملية المفاوضات، فاكتفى بسياسة فض الاشتباك. وحاول الرئيس كارتر، بصدق، ان يحرك الاحتلال الاسرائيلي ولكنه قوبل بمقاومة شديدة من اسرائيل.
السادات "الحاضر الغائب"
وبدأ تغير الوضع الراهن بين العرب واسرائيل حين بادر الرئيس السادات بتحركه الجريء وتمكن من تغيير قواعد وممارسات اللعبة.
ان زيارة السادات للقدس وُبعد رؤيته بالنسبة لتقديره لدور الاتحاد السوفياتي قد اثار خلافات وانقسامات عربية عميقة، الا ان الفكر العربي السياسي يحتاج الى اعادة تقدير لمبادرة السادات. وعلينا ان نعترف بأنه كان "الحاضر الغائب" في مدريد ثم في واشنطن ولولا مبادرته لما اخذت عملية السلام صورتها الحالية.
وجاءت سنوات ريغان وتغير المسلك الاميركي من اسرائيل وضاعت ثماني سنوات بداية في عملية "السلام في الجليل" وهو كناية عن دخول القوات الاسرائيلية الى لبنان ووصولها الى ضواحي بيروت واخراج قوات منظمة التحرير من لبنان. وحين بدأ احتلال لبنان عام 1982 كان وزير الخارجية الاميركي الكسندر هيغ يومئ بعينيه تشجيعاً لاسرائيل بينما يردد بلسانه حثه لاسرائيل الانسحاب من لبنان. وهكذا مع تغير الرئاسة الاميركية يتغير موقف ودور اميركا في هذا النزاع.
ومضت بقية فترة حكم الرئيس ريغان في محاولات ضعيفة من قبل وزير خارجيته شولتز لوضع اطار للمفاوضات. ومرة اخرى لم تكلل بالنجاح، هذا الوقت الضائع في البحث عن شكلية واطار المفاوضات اتاح لسياسة حزب الليكود ترسيخ وتوسيع سياسة الاستيطان في الجولان والمناطق الفلسطينية المحتلة.
وجاء الرئيس بوش الى الرئاسة وحاول وزير الخارجية جيمس بيكر في مثابرة بدء العمل على تحريك المفاوضات، الا انها لم تنجح في نهاية المطاف لأن اسحق شامير تمكن من التهرب من قبضة المفاوضات واصبحت خطة سياسة شامير واضحة في كسب الوقت عن طريق التهرب من اية مفاوضات جادة ووضع العراقيل في طريقها مع تكثيف الاستيطان في الاراضي المحتلة واستغلال هجرة اليهود السوفيات كوسيلة لضم الاراضي المحتلة بطريقة الزحف الحثيث المتواصل، حتى تقوم حقائق جديدة تبدد آمال الفلسطينيين في اقامة وطن قومي لهم.
ومنذ ثلاثة اعوام قام الاستاذ كونر كروز اوبراين الديبلوماسي والخبير في الشؤون الدولية بدراسة للمشكلة، وبعد استقراء للاتجاهات السائدة بين الاتجاهات الاسرائيلية والفلسطينية نشر كتاباً اسمه "الحصار" عرض فيه لمواقف الطرفين ولكنه توصل الى ان القضية اصبحت تراجيدية مثل المآسي الاغريقية، لأن المشكلة اصبحت لا حل لها ولا يمكن وضعها في اطار تفاوضي، وأي حل مقترح سوف تنتج عنه مآسي اليمة، وان استمرار الوضع كما هو عليه الحال هو اخف الاضرار واكثرها انسانية، اي الرضوخ والقبول بالواقع. هذه النتيجة التي توصل اليها اوبراين هي النتيجة نفسها التي يسعى اليها شامير، وهي الوصول بالقضية الفلسطينية الى الوضع الذي تصبح فيه مستحيلة الحل الا من ترتيبات للحكم الاداري الذاتي بحيث يتحقق لاسرائيل السيطرة الفعلية على كل اراضي فلسطين، من دون اتهامها بالاحتلال ومن دون حاجة لاعلان ضم الاراضي رسمياً.
واذا تحقق ذلك تدريجياً فسوف يقتصر النزاع على ايجاد حلول للعلاقات بين اسرائيل وكل دولة عربية على حدة، وتتحول القضية الفلسطينية الى قضية الاقلية الفلسطينية في دولة اسرائيل الكبرى التي تضم دولة اسرائيل داخل الخط الاخضر اي حدود عام 1967 والاراضي الفلسطينية المحتلة والتي تسيطر عليها المستوطنات.
ثم توالت الاحداث منذ مأساة احتلال العراق للكويت وتدخل النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة لانهاء هذا الاحتلال والى ارساء قواعد جديدة تتكشف يوما بعد يوم، وتشير الى مرحلة جديدة في تاريخ المنطقة، ويمثل اجتماع مدريد برعاية بوش وغورباتشوف نوع التغيرات الجديدة في الشرق الاوسط وفي السياسة الدولية.
وفي نهاية هذه السطور فان اي منصف لا يستطيع الا ان يقرر بأن المفاوضات الثنائية والمفاوضات المتعددة الاطراف تمثل في حد ذاتها، وبغض النظر عن الاسباب والدواعي التي حدت بكل الاطراف للمشاركة فيها، نجاحاً ديبلوماسياً فريداً لم يتحقق في السابق بالنسبة لهذه القضية المعقدة. فهذه هي المرة الاولى منذ عام 1947 تشترك كل الاطراف وعلى رأسهم الفلسطينيون في مناقشة كل المواضيع الرئيسية التي تهم جميع الاطراف ويشترك في المفاوضات الدول الرئيسية في العالم.
ان هذا الاطار التفاوضي - على رغم ما فيه من قيود وحدود، وعلى رغم الاساليب التكتيكية والاستراتيجية التي سوف تلجأ اليها الاطراف - يمثل مجالا حيوياً للوصول الى مصالحة تاريخية اذا استمرت قوة الدفع الدولية، خصوصاً الاميركية، في تعبئة الجهود الدولية لارساء هذه المصالحة وكشف الاطراف التي تعرقل حركة السلام.
وقبل ان نسرع باستقراء المستقبل، تفاؤلاً او تشاؤماً، فلنكن مثلما يقول الكاتب الفلسطيني اميل حبيبي في حالة "تشاؤل"، اي ما بين التشاؤم والتفاؤل فنتعلم اصول المفاوضات وقواعد اللعبة الدولية المعاصرة، وعلينا ان نعي انه لا يكفي لنا ان نكون اصحاب حق بل يجب ان نجيد الدفاع عن حقنا وان نحسن وسائل الحصول عليه.
ان الكفاح عن طريق المفاوضات وباستخدام لغة ووسائل العصر مهمة شاقة تحتاج الى صقل وعلم ومثابرة ومواجهة حقيقية مع الواقع حتى نعي اغواره، الظاهر منها والغائب، المستتر والمستور، بحيث نشارك ايجابياً في تطويع المفاوضات وضبط خطاها لتحقق لنا السلام الشامل والمقبول.
* المتحدث الرسمي في عهد الرئيس الراحل انور السادات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.