تنشر "الحياة" نص المحاضرة التي أعدّها أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية السيد محمود عباس أبو مازن للندوة الأخيرة التي عقدت في اطار المؤتمر السادس لدار "الحياة" الذي عقد في عمان بين 20 و22 الجاري. وحالت التطورات الأمنية المتسارعة اثر عملية الباص في غزة، يوم الاثنين، دون تمكن "أبو مازن" من الوصول الى العاصمة الأردنية، بسبب اغلاق الاسرائيليين لجميع الطرق ومنافذ العبور. وقد قرأت المحاضرة بالنيابة عنه. بدأت مشاريع السلام والتسويات تطرح - بشكل جدي - في منطقة الشرق الاوسط بعد حرب حزيران 1967، ومع انها اشتملت على مراحل مختلفة كان لكل مرحلة منها صفاتها وسماتها المختلفة، الا ان اساسها القانوني بقي ثابتا لا يتغير متمثلاً بقرار مجلس الامن 242، والقرار 338، الذي تضمن بعض الاضافات الاجرائية للقرار الاول. في جميع تلك المراحل لم يكن الرأي العام العربي جاهزا او مستعداً لقبول اي نوع من التسويات السياسية لانه رأى في حينه - ولا زال بعضه يرى حتى الآن - ان مثل هذه التسويات لا تؤدي الغرض ولا تحقق الاهداف ولا تلبي الحد الادنى لمطالب الشعوب العربية وبخاصة الشعب الفلسطيني. واذا كانت الثورة الفلسطينية لا زالت في بداياتها عندما انفجرت حرب حزيران يونيو 1967، بحيث لم تتمكن من لفت انظار العالم بشكل واضح الى مأساة الشعب الفلسطيني، الا انها استمرت وخاضت نضالات طويلة وشاقة وقدمت التضحيات الجسام حتى استطاعت فرض ادخال الشعب الفلسطيني الى خارطة العالم السياسي بعد ان عاش مجبراً خارجها لعقود طويلة. ومن الجدير بالذكر ان انكار وجود الشعب الفلسطيني على ارضه بدأ عندما زار ثيودور هرتزل ارض فلسطين وقرر في حينه التخلص من الفلسطينيين ليتاح له تطبيق مقولته الشهيرة ان فلسطين "ارض بلا شعب لشعب بلا ارض". وقد تواتر هذا الموقف في وعد بلفور ومن ثم في صك الانتداب الصادر عن عصبة الامم ثم تأكد بعد نكبة فلسطين التي حولت هذه القضية من قضية سياسية الى قضية انسانية. لهذا كان لا بد للشعب الفلسطيني من خوض النضال بكافة اشكاله بهدف لفت انظار العالم الى قضيته العادلة ومأساته التي لم يسبق لها نظير. وكانت نتيجة هذا النضال الذي قادته منظمة التحرير الفلسطينية، التي انشئت عام 1964، وحركة فتح التي انطلقت ثورتها في 1/1/1965، ان اجبرت العالم على ان يلتفت الى الوضع في الشرق الاوسط ويتبين اسباب وابعاد ودوافع هذه البؤرة المشتعلة والمتفجرة. وبالرغم من الاعتراضات عليها وعدم قبولها فإن التسويات السياسية والمشاريع السلمية بقيت مطروحة ولم تتوقف على مدى ثلث قرن من الزمن خاصة بعد ما رافقها وما تبعها من تداعيات واحداث عسكرية وحروب شاملة او محدودة تلك الحروب التي فرضت على العالم القناعة بضرورة الجلوس الى طاولة المفاوضات لوضع حد للتدهور الامني ومعالجة اسس المشكلة وجذورها والوصول الى حل لها. ان استمرار المقاومة الفلسطينية في نضالها من جهة، ووقوع احداث اخرى بدءاً من حرب الاستنزاف، واحداث ايلول وحرب اكتوبر الشهيرة وانفجار الاوضاع في لبنان ودخول الجيش السوري اليها والاحتلال الاسرائيلي للجنوب عام 1978، واجتياح بيروت عام 1982، والحرب العراقية - الايرانية، وانطلاقة الانتفاضة الفلسطينية في الاراضي المحتلة عام 1987، وحرب الخليج الثانية عام 1990، كل ذلك زاد المجتمع الدولي اصراراً على انعاش عملية السلام واضاف براهين اخرى الى قناعات صناع القرار في العالم ليسيروا على هذا النهج ويصروا عليه حتى النهاية. وهكذا نرى ان جميع هذه الاحداث تواكبت مع اشكال مختلفة من التحرك السياسي لدعم نظرية السلام الشامل وتأكيد ضرورة الالتزام بالمرجعية الدولية للوصول بالعملية السلمية الى هدفها. وقد بدأ هذا التحرك ببعثة غونار يارنغ في عام 1969، الى المنطقة مطالباً الاطراف المعنية بضرورة العمل الحثيث لتنفيذ القرار 242. وعلى ضوء هذا التحرك قدمت الادارة الاميركية مشروعها للحل، ذلك المشروع الذي سمي في ما بعد بمشروع روجرز في 25/5/1970، والذي لم يصادف اي نجاح يذكر، الامر الذي جعل عملية السلام برمتها تعود الى ادراج الاممالمتحدة وتدخل في حالة من الجمود والشلل. وجاءت حرب اكتوبر لتضيف قراراً جديداً الى القرار 242، وهو القرار 338، الذي حمل معه آلية العمل السياسي بالتفاوض بين الاطراف المعنية تحت رعاية مناسبة هي رعاية اميركا والاتحاد السوفياتي. من جهتنا وقفنا في منتصف الطريق، فلا نحن قبلنا الدعوة لمؤتمر جنيف لاننا لم ندع في الاصل، ولم نرفض صراحة كلا القرارين، وانما اكتفينا باشارة واضحة من المجلس الوطني تقول بأننا نريد ان نبني سلطتنا المستقلة على اي شبر من ارضنا يتحرر او تنسحب اسرائيل منه. عقد مؤتمر جنيف يوم 22/12/1973، الذي دعت اليه الدولتان العظميان، وحضرته كل من مصر والاردن وامتنعت سورية عن ذلك، وقد انتهى هذا المؤتمر الى الفشل. ودخلت العملية مرة اخرى فى حالة الجمود. وظهر اثر ذلك خلاف عنيف بين مصر وسورية شريكتي حرب اكتوبر، ودخلتا في دورة من تبادل الاتهامات وقنابل التخوين. وظهرت بشكل جلي محاور التحالف ومظاهر الاختلاف في الوطن العربي، وعدنا الى نقطة الصفر بانهيار العمل العربي المشترك. في هذه الاثناء برزت على السطح مساع منفردة من قبل الادارة الاميركية قادها هنري كيسنجر الذي سار بعملية السلام بشكل أحادى الطرف بحيث تعامل مع الاطراف المعنية كل على حدة، تأكيداً على فصل المسار العربي الواحد الموحد الى مسارات مختلفة وفي احيان كثيرة متناقضة. وجاءت مبادرة الرئيس السادات بزيارة القدس يوم 19/11/1977، والمحادثات الثنائية مع الاسرائيليين ومن ثم قمة كامب ديفيد الاولى التي اشعلت نار الفرقة في العالم العربي، فكانت قمة بغداد التي حسمت الامر باعلان القطيعة مع مصر ومحاولة عزلها بسبب عقدها اتفاق كامب ديفيد 17/9/1978، مع اسرائيل برعاية ادارة الرئيس جيمي كارتر. وفي عام 1981، عقدت قمة عربية في مدينة فاس المغربية، وتميزت هذه القمة باقتراح سياسي واضح قدمه الملك الامير فهد في حينه، الا انه لم يكتب لهذه القمة النجاح وتم تأجيلها الى وقت غير محدد. لكنه نتيجة لظروف وعوامل جديدة استؤنفت اعمال القمة في الفترة الواقعة بين 6 9/9/1982، ومن اهم هذه العوامل: 1- العدوان الاسرائيلي على لبنان في حزيران 1982. 2- خروج قوات الثورة الفلسطينية من لبنان. 3- مشروع الرئيس الاميركي رونالد ريغان 2/9/1982، الذي اكد على ان حل مشكلة الشرق الاوسط يجب ان يتم عبر مفاوضات تنطوي على مبادلة الارض بالسلام، وهذه المبادلة منصوص عليها في قرار مجلس الامن ذي الرقم 242. وان المادة الخاصة بالانسحاب في القرار تنطبق على كل الجبهات بما في ذلك الضفة الغربية وقطاع غزة. والقدس غير مجزأة ووضعها النهائي يجب ان يتقرر بالتفاوض. لاسرائيل الحق في الوجود بسلام وراء حدود آمنة. ولها الحق في مطالبة جاراتها بالاعتراف بهذه الحقائق. ان على اسرائيل ان توضح ان الامن الذي تتطلع اليه لا يمكن تحقيقه الا من خلال سلام حقيقي، سلام يتطلب شهامة وبعد نظر وشجاعة. اما مشروع الملك فهد الذي اعتمد في القمة لحل عادل وشامل للقضية الفلسطينية فقد نص على الأسس الآتية: 1 انسحاب اسرائيل من جميع الاراضي التي احتلتها عام 1967 بما فيها القدس العربية. 2 ازالة المستعمرات التي اقامتها اسرائيل في الاراضي العربية بعد عام 1967. 3 ضمان حرية العبادة وممارسة الشعائر الدينية لجميع الاديان في الاماكن المقدسة. 4 تأكيد حق الشعب الفلسطيني بالعودة وتعويض من لا يرغب بها. 5 تخضع الضفة الغربية وقطاع غزة لفترة انتقالية تحت اشراف الاممالمتحدة ولمدة لا تزيد عن بضعة اشهر. 6 قيام الدولة الفلسطينية بعاصمتها القدس. 7 تقوم الاممالمتحدة او بعض الدول الاعضاء فيها بضمان تنفيذ تلك المبادئ. 8 يضع مجلس الامن الدولي ضمانات السلام بين جميع دول المنطقة بما فيها الدولة الفلسطينية المستقلة. لم تحقق هاتان المبادرتان اية نتائج ايجابية، بل على العكس تماماً فقد كان من ابرز نتائجهما الانشقاق في منظمة التحرير الفلسطينية الذي أدى الى مزيد من التباعد والخلاف في الساحة الفلسطينية، كما أدى الى وأد مساعي العملية السلمية الى حين. وزاد الطين بلة الحرب العراقية الايرانية التي استمرت اكثر من سبع سنوات. خلال هذه المراحل التي استمرت حوالي ربع قرن، حصل تغيير في الرأي العام العربي الذي بدأ يميل نحو القبول بصيغة المفاوضات ويجنح باتجاه الحلول السلمية، بعد ان توصل الى نتيجة مفادها ان محصلة أي حرب هي الجلوس الى طاولة المفاوضات من اجل التوصل الى حلول، ولم تعد مستهجنة تلك الدعوات التي انطلقت من عدد من الجهات الرسمية العربية، وانتقلت الى وسائل الاعلام والمؤسسات الشعبية بشكل خجول وحذر، وشيئاً فشيئاً بدأ يتكون رأي عام عربي يقبل بالتسويات السياسية. ولكن استمرت اجواء المنظمات الفلسطينية تعيش في حالة الرفض لأية تسوية وبخاصة القبول بالقرارين 242، 338، بسبب ان هذين القرارين يتسمان بسمعة سيئة وغير مقبولة، كذلك فإنهما ثقيلان جداً على الاذن الفلسطينية. بالمقابل بدأ الرأي العام العالمي يشعر بمأساة الشعب الفلسطيني ويتقبل المقولات الفلسطينية العقلانية الداعية الى تحقيق وتطبيق الشرعية الدولية والاعتراف بالحقوق السياسية المشروعة للشعب الفلسطيني. لم تكن المؤسسة السياسية الاسرائيلية مستعدة لاعادة النظر في ما وطنت عليه العزم بإنكار وجود الشعب الفلسطيني على ارض فلسطين في أي وقت، وذلك لإنكار اية حقوق يمكن ان يطالب بها. ولكن بدأت في مرحلة معينة تبرز على السطح اشارات من هنا وهناك من شرائح يسارية اسرائيلية تدعو الى التوقف عن المكابرة والتعامي عن الحقائق التي يصادفها الاسرائيليون في كل لحظة من حياتهم او حركة من تحركاتهم وكلها تشير الى وجود هذا الشعب واتاره وحضارته وتاريخه على هذه الارض. مبادرة السلام الفلسطينية واذا تأخر كثيراً القبول الاسرائيلي الرسمي او الشعبي بوجود الشعب الفلسطيني، فإن الرأي العام العالمي سارع الى تصحيح الاخطاء وتصويب الواقع الذي رسمته الدوائر السياسية ووسائل الاعلام وراح يعلن عن دعمه وتأييده لنضال الشعب الفلسطيني من اجل تحقيق تقرير مصيره بنفسه. وقد ترجم هذا الموقف بالترحيب الواسع لقرارات المجلس الوطني الفلسطيني الذي عقد في الجزائر في 15/11 سنة 1988، والتي تبني فيها ما سمي في حينه بهجوم السلام والمبادرة السياسية باغلبية ساحقة واعلان الاستقلال بالاجماع، وكأعلى سلطة تشريعية فقد عبر فيها عن تعريفه للحق الفلسطيني والتزامه بتحقيقه كهدف يمثل الحد الادنى المقبول لحل ممكن، فتشكلت بذلك قاعدة السلام الواقعية. وكانت الانتفاضة وما احدثته من ضغط متنوع على الاحداث في اسرائيل، الاساس القوي الذي استند عليه المجلس في صياغة الهدف السياسي للموقف الفلسطيني حيث اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية لاول مرة بالشرعية الدولية وبالقرارين 242، 338 والقبول بإقامة الدولة الفلسطينية على الاراضي التي احتلت في العام 1967. رحبت بهذا القرار كل الدول العربية باستثناء دولتين، ورحبت به اكثر من مئة دولة من مختلف دول العالم بما في ذلك اميركا التي وافقت على هذا القرار ولكنها تحفظت على عدم وجود اشارة لاستنكار الارهاب، وفي هذه الاثناء كان مقرراً ان يقوم ابو عمار بزيارة الى نيويورك ليلقي كلمة امام اجتماع الاممالمتحدة في دورتها العادية، الا ان الولايات المتحدة فاجأتنا برفض منحه تأشيرة دخول لاراضيها مخالفة بذلك اتفاقها مع الاممالمتحدة، والذي يقضي بعدم عرقلة وصول أي مسؤول الى هذه المؤسسة الدولية. الا ان الدول الاعضاء قررت ان تنقل الجمعية العامة الى جنيف، ليلقي ابو عمار كلمته ويضمنها استنكاراً للإرهاب، وبالتالي تقرر اميركا بعد ذلك فتح الحوار مع منظمة التحرير في تونس على مستوى سفيرها هناك. وفي اسرائيل كنا نسمع اصواتاً كثيرة من مسؤولين في حزب الليكود بأنهم مستعدون للحوار معنا بمجرد ان نعترف بالقرارين 242، 338. ولكن عندما اعترفنا استنكروا موقف اميركا منا، واعتبر شامير ان هذا اليوم يوم اسود فى تاريخ العلاقة الاميركية - الاسرائيلية. انتهت هذه المرحلة من العملية السياسية في الشرق الاوسط بحدثين هامين، اولهما تعطل العلاقة مع الولايات المتحدة وتوقفها بشكل كامل بسبب حادث شواطىء تل ابيب، وثانيهما حرب العراق ضد الكويت والتي ادت الى قطيعة شبه كاملة بيننا وبين عدد كبير من الدول العربية بالإضافة الى مختلف دول العالم، وهكذا دخلت العملية السياسية مرة اخرى الى غرفة الانعاش والى نفق مظلم مجهول البداية والنهاية. يقول المثل الصيني "ترسم السياسة من فوهة البندقية"، وهذا يعني ان البندقية غير المسيسة لا تمثل سوى قطاع الطرق. لهذا اعتمدت البندقية الفلسطينية هذا المبدأ مؤكدة ان انطلاقتها لم تكن الا من اجل تحقيق هدف سياسي يعبر عن حقوق الشعب الفلسطيني المهدورة وتطلعاته التي حاول العالم طمسها معتمداً على التراكم الزمني. ومع ان الثورة الفلسطينية تعاملت مع المعطيات السياسية بشكل موارب وخجول الا انها كانت تدرك منذ البداية انها قادمة الى الحلبة السياسية في نهاية الامر. كذلك فإن العالم مهما حاول تجاهل هذا الشعب فإنه لا محالة سيعترف به في النهاية وسيقر بحقوقه وبنضاله العادل وسيقتنع بأن نضاله هذا ما هو الا حرب تحرير يسعى من خلالها الى استعادة حقوقه المسلوبة وسيتيقن بأن هذا الشعب لا يعتدي على حقوق الغير وانما يطالب بما اقرته له الشرعية الدولية وقراراتها المعتمدة. وعلى الرغم من كل ظروف الشد والجذب التي احاطت بمنظمة التحرير الفلسطينية، وبالرغم من جميع محاولات الاحتواء والتطويق والتضييق، بالإضافة الى محاولات فرض الوصاية مرة والولاية مرة اخرى وتحريم العمل السياسي عليها ومنعها من تداوله وتناوله، الا انها كانت تسعى جاهدة لتثبيت نفسها على خارطة العالم السياسي، عاملة على اقتناص الاعتراف بها ممثلة وحيدة للشعب الفلسطيني، قادرة على ان تطالب بحقوقه وتمثل آماله. وعلى الرغم من الاخطاء العديدة التي وقعت فيها والتي يصل بعضها الى حافة الخطأ الخطير، الا انها كانت تسعى لتتعلم من هذه الاخطاء وتبني في الوقت نفسه على المنجزات وتكرس نفسها رقماً صعباً في الساحة الدولية. وهكذا فإن هذه المرحلة من العمل السياسي اتسمت بتراكم عدد من المنجزات لا يمكن لاحد انكارها، الى جانب كم من الاخطاء لا يستطيع احد ان يصرف النظر عنها ولكنها بالمجمل شكلت مع المنجزات الهامة واقعاً هاماً اساسياً في منطقة الشرق الاوسط اكد على حقيقة ثابتة بأن في هذه المنطقة شعباً ظلمته الاحداث وتجاوزته الاتفاقات وجرت محاولات عديدة لشطبه، لكنه استطاع ان يصمد في وجهها جميعاً وان ينطلق من العدم بقدرات تتحدى، وطاقات تتصدى، وعزم وتصميم لا يعرفان الكلل. ومهما اظهر الخصم او العدو نكرانا لوجود هذا الشعب، فإنه في قرارة نفسه يعترف مرغما بأن مثل هذا الانكار يفتقر الى المسوغات القانونية والبراهين والواقعية. لقد كان هجوم السلام الفلسطيني في عام 1988 نقطة تصادمية مع كل طروحات وافكار وآراء وحيثيات معارضي الاعتراف بالشعب الفلسطيني، حيث سحب من ايديهم كل اسلحتهم وادواتهم التي يواجهون بها الحملات الشعبية والرسمية المتصاعدة على طريق ضرورة الاعتراف بهذا الشعب. وقد كان هذا الهجوم قمة الديبلوماسية الفلسطينية حيث وضع المجلس الوطني النقاط على الحروف بأسلوب لا يقبل الغموض او التأويل، والقى بالكرة في مرمى الغرب وبالذات اميركا وكذلك في مرمى اسرائيل. اذاً فقد كانت هذه المرحلة غنية بالتجربة السياسية التي اكتسبتها القيادة الفلسطينية طيلة ربع قرن من الزمن، الا انها وكما اشرنا ارتكبت خلالها اخطاء كثيرة، ولكن هذا ليس غريباً او مستهجنا لأن طبيعة نضال الشعوب تحتمل دائماً الخطأ والصواب والمهم ان تستفيد من اخطائها وان تتعلم منها، وان تنمي انجازاتها وتستفيد منها وتراكمها. مؤتمر مدريد مع انتهاء حرب الخليج بدأت مرحلة جديدة في سياسة الشرق الاوسط من خلال النقاط الاربع التي اعلنها جورج بوش يوم 6/3/1991، وهي: مبدأ الارض مقابل السلام، تطبيق الشرعية الدولية على اساس القرارين 242، 338، والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، والامن والسلام لإسرائيل. كان لا بد لنا من التقاط هذه اللحظة والاشبتاك مع هذه المبادرة لتكون جزءاً من عملية السلام المقترحة، والتي حددت مدريد في اسبانيا مقراً لانطلاقتها، الا ان الوضع العربي العام نتيجة حرب الخليج لم يكن صحياً الى الدرجة التي تسمح بتعاطينا المباشر مع هذه المبادرة، وذلك للأسباب التالية: - فقدان أي نوع من التنسيق او التفاهم العربي حول توحيد المواقف وتحديد المطالب. طبيعة المؤتمر المقترح بتعدد المسارات العربية وعدم السماح بتوحيدها او وحدانية تمثيلها. - رفض التعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية لتنطق باسم الشعب الفلسطيني والاكتفاء بممثلي الضفة الغربيةوغزة باستثناء القدس. على ان يكون هؤلاء جزءاً لا يتجزأ من الوفد الاردني. بادئ ذي بدء رفضت المنظمة التعامل مع البند الثالث رفضاً قاطعاً، وطالبت بوفد عربي موحد، او بتمثيل الجامعة العربية للدول العربية المعنية. ولكن امام استحالة تغيير صيغة التمثيل وعدم امكانية توحيد الوفد العربي وبعد تردد طويل وجدال عنيف وحتى لا تستثنى من هذه العملية الجادة فقد اضطرت في النهاية الى القبول بما هو مطروح على امل ان تحسنه وتطوره من خلال المسيرة، مستفيدة من بعض التفاهمات والنقاط الإيجابية التي وردت في الوثائق التالية: 1- رسالة الدعوة الاميركية. 2- رسالة التطمينات الاميركية. 3- الاتفاق الاردني - الفلسطيني حول طبيعة وآلية الوفد المشترك. وخلاصة هذه الرسائل والاتفاق تعني ما يأتي: 1- الدعوة لحضور مؤتمر مدريد على اساس فردي ومسارات منفصلة باستثناء المسار الفلسطيني. 2- جميع المسارات مدعوة الى تحقيق اتفاق نهائي واحد، اما المسار الفلسطيني فينقسم الى مسار انتقالي وآخر نهائي ويتم كلاهما خلال خمس سنوات. 3- لا تقرر اميركا مصير القدس عندما ترفض السماح لممثليها بحضور المؤتمر، ولكنها تقر بأن وضع القدس يخضع للمبادئ التالية: أ - لا لضم القدس. ب - لا لإعادة تقسيمها. ج - لا لتغيير معالمها البلدية. 4 - يتضمن الاتفاق الاردني الفلسطيني بنداً يدعو الى ان الوفد الفلسطيني يتناول مساره وان الوفد الاردني يتناول مساره، وهذا يعني نوعاً من الاستقلالية للوفد الفلسطيني، سيسعى الوفد الاردني لتحقيقها، وقد تم ذلك في بداية مفاوضات واشنطن والتي سميت بمفاوضات الكوريدور. 5 - المفاوضات تتم على اساس القرارين 242، 338، والارض مقابل السلام. بعدها انتقلت المفاوضات الى واشنطن وما جرى هناك لم يكن مفاوضات بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة وانما كان مناظرات ومرافعات تتبادلها الوفود وتحدد مراقفها المبدئية من خلالها وان حصلت بعض التفاهمات الجانبية بين بعض الوفود فإنه لم يكشف النقاب عنها بشكل جلى، وبقيت في كثير من الاحيان مجرد تفاهمات تفتقر الى التوثيق. الا ان تطورات قانونية طرأت على وضعية الوفد الفلسطيني تسجل كإيجابيات جاءت من خلال استمرار المطالبة والمثابرة وهي: انفصال المسار الفلسطيني عن المسار الاردني، وقد جاء هذا الانفصال بدعم من الجانب الاردني. قبول تمثيل القدس من خلال السماح لاحد ابنائها بالانضمام الى الوفد المفاوض. وبعد ذلك حصل انقلاب سياسي في دولتين من دول مؤتمر مدريد، حيث سقط شامير رئيس وزراء اسرائيل بالصوت العربي واستبدل بإسحاق رابين، وخرج جورج بوش رئيس الولايات المتحدة من الساحة السياسية ليحل محله بيل كلينتون. لم تكن الارضية التي انطلق منها مؤتمر مدريد سيئة، كذلك لم تكن مرجعيته القانونية، وانما الذي برز في غاية السوء هو النوايا والممارسات الاسرائيلية التي كشف شامير النقاب عنها عندما قال بأنه بيت العزم على ان يفاوض لعشر سنوات دون نتيجة، وهذا يعني ان قضية الشرق الاوسط ولب الصراع فيها قضية فلسطين ليس لها حل عند شامير، ولذلك فإن أداء وفدنا في هذه المفاوضات لم يكن ناقصاً او قاصراً، لكنه عجز عن تحريك الموقف الاسرائيلي نحو أي بارقة امل في الوصول الى حل رغم مرور ما يقارب السنتين على بدء مفاوضات واشنطن. وليس صحيحاً كما حاول البعض ان يصور بأن القيادة الفلسطينية احجمت عن دعم الوفد وحاولت ان تعرقل اعماله بهدف عدم الوصول الى حل، بل الصحيح ان هذه القيادة كانت تترك في كل مرة وفي كل مناسبة القرار للوفد عندما كانت تختتم اية تعليمات او رسالة بعبارة "والامر متروك لكم ولتقديراتكم"، لأننا نرغب في ان نترك للوفد هامشاً واسعاً للمناورة والنقاش والحوار وحتى القرار، باعتباره يرى اكثر مما نرى، ويعرف على ارض الواقع من خلال المفاوضات اكثر مما نعرف ومن غير المعقول ولا المقبول ان نقيده او نحد من حركته. اتفاق اوسلو في هذه الاثناء فتحت قناة اوسلو السرية بعد مراوحة المفاوضات في واشنطن مكانها والتي قبلنا بها باعتبارها طريقاً اضافية يمكن ان تؤدي الى نتيجة واذا ما وصلت الى طريق مسدود ولم تحقق ما نريد فلن نخسر شيئاً. وهكذا جاء اتفاق اعلان المبادئ في 20/8/1993، وتبعته مفاوضات حول الاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية، ذلك الاعتراف الذي وقع في 9/9/1993 في تونس، وفي 10/9/1993 في تل ابيب. هذا وقد ضم اعلان المبادئ 17 مادة واربعة ملاحق ومحضراً واحداً متفقاً عليها. اما رسالة الاعتراف المتبادل التي وقعها اسحاق رابين فقد ورد فيها ما يأتي: "ان حكومة اسرائيل قررت الاعتراف ب م. ت. ف باعتبارها الممثل للشعب الفلسطيني وبدء المفاوضات معها في اطار عملية السلام في الشرق الاوسط"، وقبل ان نحلل هاتين الوثيقتين لا بد من القول بأن المفاوضات السرية لا تعني الاتفاقات السرية، لأن احداً لا يملك حق التوقيع او التعهد بقضايا مصيرية نيابة عن المؤسسات الرسمية التشريعية منها والتنفيذية. لذلك لا يجوز الخلط بين المفاوضات ونتائجها، فالاولى لا ضير من ان تكون سرية ومغلقة وبعيدة عن متناول وسائل الاعلام وحتى الجمهور، اما نتائجها فإنها لا تصبح سارية المفعول وملزمة ما لم تعتمدها بشكل رسمي المؤسسات المعنية. وهذا يدحض كل التساؤلات والاستفسارات والاستنكارات التي ارتفعت تدين اعلان مبادئ اوسلو على انه اتفاق سري، اما مسألة الاستفراد او التفرد بعيداً عن باقي المسارات فمن المؤكد ان مختلف المسارات بدأت منفردة وسارت منفردة وانتهت منفردة. وعلى ضوء ذلك نقول، لقد اعتمدت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وكذلك المجلس المركزي اعلان مبادئ اوسلو، كما اعتمدته اللجنة المركزية والمجلس الثوري لحركة فتح، هذا اذا اضفنا ان بعض الدول العربية كانت على اطلاع كامل على مجريات المفاوضات من بدايتها وحتى نهايتها، واخص هنا جمهورية مصر العربية وجمهورية تونس والمملكة المغربية والمملكة السعودية، اما بالنسبة للاردن فقد جرت عملية الاتصال معه ولكنها لم تستكمل بسبب بعض الظروف التي لا حاجة لذكرها الآن. هذا كلام للتاريخ لكي يجلى العموض عن بعض الوقائع وتصحح بعض المعلومات الخاطئة التي تواترت على السنة الكثيرين من السياسيين والمفكرين والصحافيين في الوطن العربي. واذا عدنا الى اتفاق اوسلو فإننا نثبت الملاحظات التالية: ورد في المادة "الاولى" ان هدف المفاوضات هو تطبيق القرارين 242، 338 بينما كانت الدعوة لمؤتمر مدريد تقول بأن تجرى المفاوضات على اساس القرارين المذكورين وهناك فرق شاسع بين الصيغتين. - تحدث الكثيرون عن اسقاط القدس واللاجئين من حساب المفاوضات بينما نصت المادة "الخامسة الفقرة 3" على ان هذين الملفين جزء لا يتجزأ من مفاوضات المرحلة النهائية. وهناك فارق بين النازحين الذين ابعدوا عن ارض الوطن اثر حرب حزيران 1967، وبين اللاجئين الذين طردوا من وطنهم سنة 1948. واذا تقرر ان تبحث قضية اللاجئين في مفاوضات المرحلة النهائية فإن قضية النازحين حسمت في اتفاق اوسلو من خلال المادة "الثانية عشرة" التي جاء فيها: "ستتضمن هذه الترتيبات انشاء لجنة مستمرة ستقرر بالاتفاق اشكال السماح بدخول الاشخاص الذي نزحوا من الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967". ومن خلال ما ورد في البروتوكول حول صيغة الانتخابات وشروطها في البند "3" والذي ينص على: "لن يتم الاجحاف بالوضعية المستقبلية للفلسطينيين النازحين، الذين كانوا مسجلين يوم 4 حزيران 1967، بسبب عدم تمكنهم من المشاركة في العملية الانتخابية لأسباب عملية". اما القدس فقد اشير اليها في عدة اماكن وهي: المادة الخامسة فقرة 3 وتنص على ما يلي: "من المفهوم ان هذه المفاوضات سوف تغطي القضايا المتبقية، بما فيها القدس، اللاجئين، المستوطنات، الترتيبات الامنية، الحدود، العلاقات والتعاون مع جيران آخرين، ومسائل اخرى ذات اهتمام مشترك". وفقرة 4: "الاتفاقات التي تم التوصل اليها في المرحلة الانتقالية لا تجحف او تخل بمفاوضات الوضع الدائم". البروتوكول الخاص بالانتخابات والذي نص على ان "فلسطينييالقدس الذين يعيشون فيها سيكون لهم الحق في المشاركة في العملية الانتخابية، وفقاً لاتفاق بين الطرفين". وايضاً في الرسالة التي بعث بها شمعون بيريز للمرحوم هولست، وزير الخارجية النرويجي، بتاريخ 11/10/1993، والتي يؤكد فيها على "المحافظة على المؤسسات الفلسطينية الدينية الاسلامية والمسيحية والثقافية وغيرها في القدس". كذلك جاء في المادة الرابعة من اعلان المبادئ نص حول وحدة الاراضي الفلسطينية والمحافظة عليها يقول: "يعتبر الطرفان، الضفة الغربية وقطاع غزة، وحدة مناطقية واحدة، يجب المحافظة على وحدتها وسلامتها خلال الفترة الانتقالية". لقد كان اتفاق اوسلو مفصلاً هاماً في تاريخ الشعب الفلسطيني ومنعطفاً اساسياً في مسيرة النضال الفلسطيني، لأنه من حيث المبدأ فتح الابواب لحل القضية ولكنه لم يقفل هذه الابواب، فهو اتفاق اعلان مبادئ وليس معاهدة سلام، والفرق بين الامرين شاسع وعميق لأن اعلان المبادئ مقدمة لنهاية، فإذا لم نصل الى هذه النهاية فإن الملف سيبقى مفتوحاً حتى تحقيق الهدف النهائي. وهذا يعيدنا الى اساس مؤتمر مدريد الذي حدد مسارنا في مرحلتين واضحتين، اولاهما انتقالية، والثانية نهائية. ومع ذلك فقد حققنا كثيراً من المكاسب خلال السنوات السبع الماضية، على الرغم من العقبات والعراقيل التي وضعتها حكومات اسرائيل المتعاقبة للامتناع عن تنفيذ ما تبقى من الاتفاقات المرحلية، والوصول الى اتفاق حول قضايا المرحلة النهائية. كانت بدايات التسعنيات سنوات عجافا بالنسبة لنا بخاصة بعد تدهور علاقاتنا العربية والاجنبية وتراجع اوضاعنا بشكل عام الى حد كبير. في هذه الاثناء جاء اتفاق اوسلو ليمنح قسماً من ابناء شعبنا العودة الى جزء من اراضي وطننا وليصبح لهذا الجزء من الشعب والوطن عنوان طالما افتقدناه. واستمرت قافلة العودة الى الوطن، واستمر توسع الرقعة التي تعود السيادة والسيطرة فيها الينا، وتراجعت ظاهرة الفلسطيني التائه في مطارات وموانئ العالم، وتقلصت بشكل بسيط ومتدرج حاجة الفلسطيني الى الهوية والعنوان. لا ننكر ان حوالي ستين في المئة من ارضنا ما زالت ترزح تحت الاحتلال وان مشكلة النازحين لم تحل ومشكلة اللاجئين لم تنته بعد. ولكن ما لا ينكره احد ان هذه القضايا لم ولن تسقط بفعل التقادم او بمرور الزمن، فملفاتها مفتوحة ما دمنا لم نوقع على معاهدة سلام ولم ننه الصراع بعد، وبالتالي فإن قانونية هذه القضايا ما زالت قائمة وسارية المفعول.