بعضهم مثل انغمار برغمان معروف على صعيد العالم كله ويعتبر مَعْلماً من معالم الفن السابع، وربما الفن بالمعنى الأشمل للكلمة في عصورنا الحديثة هذه، وبعضهم مثل غلاوبر روشا معروف على نطاق ضيق حتى في بلاده، حيث قد يكون كثر عرفوا اسمه، لكن قلة شاهدت أفلامه... لكن ما يجمعهم معاً هو هامشيتهم بالنسبة الى موقع فنهم المبدع من السائد في عالم السينما وتحديداً بالنسبة الى المكانة التي يشغلها هذا الفن على خريطة سينما عالمية تسيطر عليها هوليوود وإخواتها بنسبة لا تقل عن 95 في المئة. وهذه الهامشية، بالتحديد، هي ما ينقل فنهم من خانة الفن السينمائي الحاضر نجاحاً وانتشاراً، الى خانة الفنون الكبرى ذات الأفكار والتجديدات التي تدنو من الفكر بمعناه الأكثر حصراً، ما يجعل هذا الفن وأفلامه جزءاً أساسياً من منظومة فكرية إنسانية تشغل صفحات الكتب وذاكرة الوعي الإنساني. بعضهم عاش المنافي وبعضهم نفي في الداخل. بعضهم حقق أعمالاً حميمية والبعض حقق سينما تغوص في التاريخ والعلاقات البشرية. لكنهم جميعاً سلكوا التجديد طريقاً، ولم يبال أي منهم بأن يكون النجاح - بالمعنى الضيق للكلمة ? هدفه وطريقه. من هنا اكتفى البعض طوال حياته بدزينة أو أقل من الأفلام، فيما لم يتوقف البعض الآخر عن الانتاج، وسط زحمة انتاج في بلده، أو وحيداً حيث ليس ثمة انتاج يعتد به. وكلهم جعل للسينما ارتباطاً وثيقاً بالفنون الأخرى وبالأدب، ولكن غالباً بالحياة اليومية ينهل منها. وحلقة اليوم، بعدما تحدثت حلقتان سابقتان عن غلاوبر روشا وانغمار برغمان، المنتميين سينمائياً الى بلدين البرازيل والسويد هما بدورهما على هامش دورة الانتاج السينمائي في العالم، نقدم هنا ثالث الهامشيين، جون كاسافتس، الذي قد يفاجأ جمهور عريض يعرفه ممثلاً هوليوودياً بامتياز، أنه كان بدوره مخرجاً هامشياً وأين؟ في بلد من الصعب تصور ان يكون للهامش فيها مكان. مع هذا فعلها بطل"جوني ستاكاتو"في التلفزيون وپ"طفل روزماري"في السينما وخلّد اسمه مخرجاً سينمائياً كبيراً عبر نحو دزينة من أفلام حوربت ورجمت في أيام عروضها الأولى... لكنها تشكل اليوم تراثاً لنوادي السينما ولتاريخ هذا الفن. تراثاً يبقى اسم كاسافتس حاضراً كمخرج استثنائي في وقت ينسى فيه حضوره كممثل ولو في أفلام جيدة من النمط الهوليوودي. هو، في كل الحسابات الأب الشرعي لكل ما ينتمي اليوم الى السينما المستقلة الأميركية. وفي هذا السياق يمكن اعتباره سيد الهامشيين في هذه السينما. ومع هذا فإنه على عكس معظم هامشيي الفن السابع في أي مكان في العالم معروف على نطاق واسع، لدى الجمهور السينمائي العريض. معروف كممثل، لا كمخرج. وحتى الذين يعرفون هويته المزدوجة هذه، من بين محبي الفن السابع ومتابعي بعض الأفلام التجارية الأكثر جودة في هوليوود، ربما يكونون قد سمعوا بالأفلام الكثيرة التي حققها طوال اكثر من ربع قرن من الزمن، لكنهم بالتأكيد لم يشاهدوها. في أحسن الأحوال قد يكون بعضهم شاهد واحداً أو اثنين منها. وعلى الأرجح"غلوريا"الذي كان من آخر أفلامه، وكان أكثرها نجاحاً من ناحية تجارية. كان الأكثر نجاحاً الى درجة أن هوليوود عادت وحققت نسخة جديدة منه، حلت فيها شارون ستون محل جينا رولاندز في الدور الذي كانت هذه الأخيرة لعبته في نسخة ذلك المخرج الهامشي الذي كان ? أيضاً ? زوجها في الحياة: جون كاسافتس. والحقيقة انه لم يكن من قبيل الصدفة أن تمثل جينا رولاندز الدور الأساسي في"غلوريا"الذي حققه كاسافتس. فهي مثلت في معظم أفلامه. وكذلك فعل ابنه وابنته، وكذلك كان دائماً حال عدد من أقربائه وأصدقائه من أمثال بيتر فالك المشهور ب"كولومبو" وبن غازارا وسايمور كاسيل وآخرين. بالنسبة الى جون كاسافتس لا بد للعمل السينمائي المتواصل من ان يكون شبيهاً بعمل فرقة مسرحية: الأشخاص نفسهم دائماً، في أدوار مختلفة. واشتغال على ما يملكه هؤلاء الأشخاص من مشاعر في تراكم مدهش فيلماً بعد فيلم. في الإخراج السينمائي تعامل كاسافتس دائماً مع المشاعر. مع لعبة الممثلين. مع العلاقات لأن الحياة نفسها تتكون من هذا كله. وسينما جون كاسافتس على تنوع أفلامها ومواضيعها، هي سينما مستقاة من الحياة نفسها، من دون أن تزعم أنها هي هي الحياة. الأمر لديه أشبه بما هو لدى تشيخوف وإبسن، استاذيه الكبيرين - ويا لهذه"الصدفة"التي تجعل دائماً من هذين الكاتبين الاجتماعيين الكبيرين والمسرحيين المبدعين، استاذين لكبار هامشيي فن السينما! -: العمل الفني هو تكثيف للحظات الحياة في عاديتها الأكثر غرابة، منظوراً اليها من منظور من يعيش الحياة، لا من منظور من يريد أن يؤرخ لها، أو يريد أن يدخل في لعبة تحليل نفسي للبشر الذين يعيشونها. ضد سينما المثقفين من هنا بالتحديد تبدو سينما جون كاسافتس سينما مضادة للسينما الثقافية. ومن هنا تبدو هامشيته غير"طليعية"، هامشية غريبة عن الهوامش المعتادة، أي: أصيلة. وليس في الأمر أحجية على الإطلاق. بل ان هذا الواقع هو الذي يفسر كل ذلك الاهتمام الذي كان كاسافتس يعزوه الى لعبة الممثل أمام الكاميرا... وانطلاقاً من هنا، الى ذلك المناخ العائلي الذي كان سائداً في أفلامه، كان المناخ عائلياً ليس فقط لأن الممثلين كانوا دائماً من أهله وأصدقائه، بل كذلك لأن بيته نفسه - وكما أوضحت أفلام وثائقية حققت عنه -، كان الاستوديو ومقر شركة الانتاج وغرفة التوليف وپ"كانتين"فريق العمل. ولعل هذا ما يفسر ما كانت تقوله جينا رولاندز، رفيقته وممثلته الاولى وملهمته، من انها بقدر ما أحبته كفنان واحترمته، كانت تكرهه كزوج ورب أسرة. بالنسبة الى كاسافتس لا فرق بين الحياة العائلية وإنجاز العمل الفني. لا فرق بين البيت والاستوديو. إضافة الى أن الرجل كان"يوظف"في الأفلام التي يخرجها - وينتج معظمها - كل ما كان يربحه كممثل في أفلام قلما عبر عن رضاه عنها، مع انها هي التي أمنت له شهرته وحياته. ومن هذه الأفلام أعمال لا تزال حية في أذهان الناس، مثل"طفل روز ماري"لرومان بولانسكي، و"الدزينة القذرة"لروبرت آلدريتش، و"القاتلون"لدون سيغل... والطريف أن كاسافتس لعب في معظم الأفلام التي مثلها تحت إدارة مخرجين آخرين، أدوار الشرير... وندر أن مثل في فيلم أخرجه بنفسه، ما يعني اننا، إن دققنا في الأمر، سنجد من العبث أن نبحث على الشاشة عن صورة تعكس شخصية هذا الفنان الذي مات باكراً، في الستين من عمره، ودماثة خلقه وكونه رومنطيقياً أصيلاً. انه دائماً، وبالأحرى في معظم الأفلام التي مثلها، الرجل الذي باع روحه للشيطان كما في"طفل روز ماري"حيث نجده ممثلاً يقبل بأن تنجب زوجته الشابة شيطاناً مقابل نجاح تؤمنه له جمعية من"عبدة الشيطان". ولربما تناسب هذا كله مع علاقة كاسافتس بالفن: لقد عمل ضمن سياق المنظومة الهوليوودية حتى يؤمن من المال ما يكفيه لصنع أفلامه الخاصة. ترى أولسنا هنا، كذلك، أمام فاوست من نوع خاص؟! عمل جون كاسافتس في الإخراج السينمائي طوال ست وعشرين سنة، حقق خلالها 12 فيلماً، تشكل نتاجه الأساسي في هذا المجال، كما حقق بعض الحلقات التلفزيونية لا سيما من بين تلك المعروفة باسم"جوني ستاكاتو"والتي كان يلعب فيها دور التحري الذي أوصله الى أعلى درجات الشهرة، وبالتالي قاده الى أن يصبح قادراً على الشروع في تحقيق أحلامه السينمائية كمخرج، وهو قام بأدوار ثانوية أو رئيسة في أكثر من خمسين فيلماً وعملاً تلفزيونياً، كما عمل في المسرح. غير أن أهميته الأساس بالنسبة إلينا هنا تبقى في الأفلام التي حققها بالفعل بدءاً من"ظلال"1961 وحتى فيلمه الأخير"مشاكل كبرى"1985، الذي يبقى أقل أفلامه طموحاً وقوة، علماً أنه ترك وراءه حين رحل سيناريوات عدة ومشاريع لم تكتمل، من بينها سيناريو"إنها جميلة جداً"الذي عاد وحققه ابنه نيك كاسافتس من بطولة شين بن. خارج منظومة هوليوود في الحقيقة، ان معظم الأفلام السينمائية التي حققها جون كاسافتس وفي معظم الأحيان في شكل هامشي، أي خارج المنظومة الهوليوودية تعتبر اليوم علامات مميزة في السينما المستقلة الأميركية. وهذه الأفلام ولا سيما"ظلال"وپ"وجوه"1968 وپ"أزواج"1970 وپ"ميني وموسكوفتش"1971 ثم خصوصاً"امرأة خاضعة للتأثير"1975 وپ"مقتل بائع صيني"1976 وپ"ليلة الافتتاح"1978 وپ"تيار الحب"1984...، هذه الأفلام قد تبدو لنا اليوم طارحة لسؤال حول معنى أن تكون السينما مستقلة، لا سيما من ناحية المواضيع وكلاسيكية اللغة السينمائية والدنو من المسرح والابتعاد عن الألعاب التقنية في التصوير والتوليف، طالما أن ثمة مئات الأفلام المشابهة التي باتت تحقق في هوليوود ونيويورك على النمط نفسه، بل حتى على النسق الانتاجي نفسه. والجواب بسيط: لقد قلنا أول هذا الكلام أن كاسافتس هو أبو السينما الأميركية المستقلة، ويعني هذا انه أسس لما هو شبه سائد حالياً. وهو أسس، تحديداً، انطلاقاً من أوروبية نظرته الى السينما في الستينات، كما كانت سائدة في أوروبا وريثة للموجة الجديدة الفرنسية وللواقعية الجديدة الإيطالية. واللافت هنا هو أن كاسافتس تبع التيارين الأوروبيين هذين، في وقت كانا بدأا ينهاران في بلادهما الأصلية مع فارق أساس كمن في انه أصر منذ البداية على أن تكون مواضيعه شعبية مستقاة من تفاصيل اليومي. ومن هنا ندر أن كان ثمة شخصيات لمثقفين أو لمعاناة وجودية أو لدرامات كبرى، أو حتى لما قد يشبه السيرة الذاتية. كل ما في الأمر أن كاسافتس اشتغل مع الممثلين ومع السيناريو، لكل فيلم من الأفلام، وكأنه يشتغل على نص مسرحي، مع ارتجال واضح في الحوارات. ومن دون كبير اهتمام بالأبعاد التقنية. وكأننا هنا في ازاء كاميرا وثائقية طلب منها أن تتابع الشخصيات في ما تقول وتفعل. وأحياناً بالمعنى الحرفي للكلمة. من هنا لم يكن غريباً أن يصور كاسافتس أحياناً ست ساعات وأحياناً عشر ساعات ليطلع في نهاية الأمر بفيلم من ساعتين وربما أكثر قليلاً. ولقد عرف عنه انه، مثلاً، حين كان يشرح موقفاً لشخصين أو ثلاثة واقفين أمام الكاميرا، كان يطلب من الكاميرا أن تستمر في التصوير طالما أن الممثلين قادرين على الارتجال. الارتجال الذي يبدو، أكثر ما يبدو، منتمياً الى، سينما الحقيقة... كما نعرفها اليوم. وإذا كان المخرج الألماني - الفرنسي الراحل حديثاً جان - ماري ستروب قد اعتاد أن يقول:"أنا بدلاً من أن أحقق فيلماً عن هاملت، أفضل أن أحقق فيلماً عن الممثل فلان وهو يلعب دور هاملت". تقنياً يبدو الفارق هنا ضئيلاً، لكن الحقيقة هي أن كل سينما جون كاسافتس اشتغلت على هذا المنطلق. الصداقة، العائلة، التسامح، العلاقات بين البشر... الذاكرة، مشكلة الحياة الزوجية، كل هذه كانت المواضيع الأساس التي شغلت جون كاسافتس وشغلت سينماه، من دون أن يحاول أن يدنو جدياً من تلك المواضيع الكبيرة التي غالباً ما شغلت سينما الآخرين الذين بدوا دائماً أكثر جدية منه. ففي الوقت الذي كان فيه كبار في السينما يكتشفون المجتمع وحكاياته وأسئلته الكبرى ليحققوا سينما الأسئلة القلقة بادئين من الأعلى بغية الوصول الى الأسفل، عرف جون كاسافتس، كيف يبدأ من الأسفل، من أبسط حوار يجري بين شخصين ومن أهدأ نزاع يدور بين زوجين، ومن أكثر لقاءات الأصدقاء عادية، ليصوغ من هذا كله متناً سينمائياً، لا بأس في أن نقول انه صار خبزاً مغذياً لسينما اليوم الأكثر أناقة وجمالاً. ترى أفلم نقل منذ البداية ان كاسافتس هو الأب الشرعي للسينما المستقلة... أي السينما الأقرب الى البشر؟ هكذا تكلم جون كا. لقد كنا دائماً نسعى الى فهم مهنتنا في شكل أفضل. أما في ما يخصني أنا شخصياً، فإنني دائماً اشتغلت على عدد لا بأس به من الأفلام من دون أنجح في التأقلم في شكل جيد... في اختصار شعرت دائماً أنني هنا في السينما أقل حرية مني على خشبة المسرح أو في استعراض تلفزيوني. ومن هنا كان أول ما همني أن أكتشف لماذا لم أتمكن من أن أكون حراً وذلك لأنني لم أكن أشعر أبداً بلذة في العمل في الأفلام... ومع هذا عرفت دائماً أنني أحب السينما بصفتها فناً... خلال درس في الفن كنت أتلقاه، وكان درساً في الإلقاء العملي، شعرت ذلك الحين أنني متأثر بحصة في الارتجال الى درجة قلت لنفسي معها: ... ان في امكان هذا كله أن يتحول الى فيلم ممتاز! كانت الحكاية حكاية امرأة سوداء تحاول الزعم انها بيضاء... وينتهي بها الأمر الى أن تخسر صديقها حين اكتشف هذا ان أخاها أسود اللون. في صدد تصوير فيلم"أزواج" كل لحظة كانت تهمني لأنني كنت أتمكن خلالها من مساندة الممثل، في الوقت نفسه الذي أعمد فيه الى التقليل من أهمية الفريق التقني ... صحيح ان هذا كان من شأنه أن يربك التقنيين، وخصوصاً بالنظر الى تعاملي المميز مع الممثلين. في الحقيقة انني، لم أكن استنكف ولو لحظة واحدة عن تمجيد الممثل الى درجة تداعب أناه في سبيل الحفاظ على أهمية الفيلم وأهمية الأداء في كل لحظة من لحظاته. منذ بداياتي وقعت في هوى الكاميرا والتقنية واللقطات الجميلة... بل حتى وقعت في هوى التجريب في سبيل التجريب نفسه. بصدد فيلم"ميني وموسكوفتش" انه فيلم يتحدث عن الأسباب التي تقود شخصين الى الزواج. وكان هذان الشخصان في الفيلم جينا رولاندز وسايمور كاسيل الذي كان قدم عملاً شديد الجمال في"وجوه". خلال العمل في الفيلم كانت عائلتي كلها هناك عند جانبي الكاميرا... كذلك كانت هناك عائلة سايمور. هنا لا بد من أن أشير الى انني ? وكما يوضح توزيع الأدوار والمهمات في الفيلم - أؤمن تماماً بالمحسوبية وبإعطاء الدور والعمل الى الأقارب. ما نلاحظه اليوم في السينما المعاصرة هو أن المخرج الشاب يحقق فيلمه الأول الذي يكون - عادة - فيلم حب، تجتمع فيه كل العواطف والمشاعر التي نعرف. ثم يأتي الفيلم الثاني فإذا به أقل جودة على صعيد هذه العواطف. في الفيلم الثالث يرتفع المستوى بعض الشيء. أما الفيلم الرابع فيصبح جزءاً من المهنة، يصبح منتوجاً حرفياً. وفي الفيلم الخامس، تلوح كل الأخطاء والهفوات الممكنة. وهنا، في لحظة ما، نبدأ بإدراك أننا لا يمكننا أن نشتغل فقط في سبيل النجاح، من أجل الصحافة أو لوجه"الفن". بل يتعين علينا تحقيق شيء أساسي في الحياة، كدراسة هذه الحياة وتطوير أسلوبنا الخاص، وأسلوبنا الشخصي في التعبير عما يقلقنا أو عما نحب أو عن أي شيء آخر. وأنا أعتقد أن الشبان لديهم في هذا السياق اليوم ما هو أفضل مما كان سائداً قبل عشر سنوات. أجل... مهما كان الأمر، أجدني دائماً مستعداً لتكرار التجربة وتحقيق فيلم من انتاج ستوديو كبير... ذلك أن الاستوديو لا يعني فقط المال. في الاستوديو وبمساعدته يمكنني فعل كل شيء، يمكنني أن أمثل، أخرج، أكتب. حتى ولو تطلب هذا الأمر تنازلات؟ أبداً... حين يبدأ وقت التنازلات أنسحب. فالتنازلات تجعلني، مثل كل الناس، شديد المعاناة. أنا أعرف أن ما أفعله يسعدني، لكنه - في الوقت نفسه - قاسٍ جداً. انه لمن القسوة بمكان على أمثالي أن يعثروا على المال والوقت اللازمين لتحقيق أفلامهم التي هي أحلامهم. وتزيد حدة القسوة حين يعتقدك الناس ثرياً، بينما أنت لست ثرياً على الإطلاق. وتزيد أيضاً حين تجد نفسك مديناً بالمال للناس جميعاً. انه لأمر شديد القسوة بالنسبة الى عائلتي خصوصاً. أنا لا أحب التوليف المونتاج، لكنني أعرف أن عليّ أن أكون حاضراً الى جانب المولّف... ذلك أنني إن لم أكن حاضراً سأبدو وكأنني لا أهتم بفيلمي اطلاقاً. أكره التوليف - كما كرهته دائماً - لأنني أشعر أنه مجرد عملية تزييف تجعل ما هو مخطئ صحيحاً. عملاً يستخف بعقل الناس. خلال التصوير وبعده، كما قبله، لا يحدث لي أبداً أن أطلب من فريق العمل رأيه في ما أفعل. وذلك ببساطة لأنني لا أعتقد أن ثمة من حولي من في امكانه أن يهتم بالمشاعر والأحاسيس اهتماماً خالصاً. وفي المقابل أؤمن دائماً بأن الممثل هو القوة الخلاقة الأساسية، لأنه اذا كان قد دنا من الفيلم عموماً والمشهد خصوصاً، دنواً صحيحاً، وفهمه في شكل جيد، سيكون الفيلم ناجحاً بالتأكيد... وفي هذا السياق يبدو لي دائماً ان عمل الفريق التقني عمل ثانوي الأهمية. طبعاً أنا أحب الناس الذين يقفون وراء الكاميرا ويعجبني عملهم... لكنني أعرف أنهم، في أحسن الأحوال، يريدون لهذا العمل أن يكون جيداً لا أكثر. سيغضبهم أن يأتي هذا العمل سيئاً أو غير مُرضي... لكنهم في المقابل لا يهتمون أي اهتمام بالحكاية نفسها. مهمتهم هي أن ينجزوا حصتهم في العمل على أكمل وجه، أما بالنسبة الى الممثلين، فإن الحكاية شديدة الأهمية... طالما ان شخصيتهم تنعكس كلياً في تلك الحكاية... لا يعرف معظم الناس ماذا يريدون أو ماذا يشعرون. وبالنسبة الى كل انسان - وأنا لا أشذ عن هذه القاعدة - يبدو في غاية الصعوبة قول ما يعنونه حقاً، حين يكون ما يعنونه مؤلماً لهم. ان من أصعب الأمور في الكون كله أن يكشف المرء خبايا نفسه، أن يعبّر عما في داخله. وأنا، كفنان، أشعر أن علينا دائماً أن نجرب أموراً كثيرة... ولكن في مقدم هذا كله علينا أن نجرب الجرأة على الاخفاق. عليك أن تحوز شجاعة ان تكون فاشلاً - عليك أن تجازف بكل شيء حتى يمكنك التعبير عن كل شيء. ان أفلام أيامنا هذه لا تصور سوى عالم من الحلم، لذا نراها فقدت التواصل مع ما هم الناس عليه حقاً... في بلدنا هذا الولاياتالمتحدة ثمة أناس يموتون في الحادية والعشرين من عمرهم. وكثر يموتون عاطفياً وهم في الحادية والعشرين وربما أقل. مسؤوليتي كفنان هي أن أساعد الناس على تجاوز سن الحادية والعشرين. وبالنسبة اليّ، ليست الأفلام سوى خريطة طريق للعبور في عالم العاطفة والذهن، ما يؤمن جواباً للسؤال الخالد: كيف ننقذ الإنسان من الألم... فلندع الناس يضحكون لما يريدون ان يضحكهم. لماذا لا يتعين على الناس أن يضحكوا؟ اسمعوا... لقد حدث أن كنت أمام أقرباء لي ماتوا... ورحت أقهقه من الضحك. وأرجو ألا يحدثني أحد عن حسن هذا أو سوئه... طالما ان ما من أحد في امكانه أن يعلمني كيف عليّ أن أشعر. انه لمن الأمور الصحية أن يضحك المرء على شخص آخر. هل تعرفون لماذا لا يضحك الناس من الناس؟ لأنهم أعلى وأقوى من أن يضحكوا... لأنهم اذا ما ضحكوا من أحد ما، فإن معنى هذا انهم سيتواصلون معه... سيكرسون له بعض الوقت... وبالتالي سيحبون هذا الشخص حقاً... ولذا يسعى كل واحد الى ألّا يضحك من واحد آخر. حين يجتمع الأصدقاء مع بعضهم بعضاً يضحكون من بعضهم بعضاً، أما حين يلتقي الأعداء في ما بينهم... لن يكون هناك ضحك ولا يحزنون! اليوناني المبدع المشاكس وحياته المتقلبة بين خشبة وشاشتين ولد جون كاسافتس أواخر العام 1929 في مدينة نيويورك، لأبوين أتيا من اليونان باكراً في حياتهما ما يعني ان لغة التخاطب في البيت كانت الإنكليزية حتى وإن كانت الثقافة ظلت على أصالتها الإغريقية القديمة. ولقد عرف عن جون انه حين كان مراهقاً كان لا يتوقف عن قراءة نصوص المسرح اليوناني القديم، ما غذاه بمعرفة جعلته يرى استمراره في الدراسة في المدارس الثانوية وما يشبهها، مضيعة للوقت. ومن هنا، حتى وإن كان ظل لفترة يرتاد الصفوف الثانوية، عاش نوعاً من اللامبالاة تجاه الدروس. وكان ينتهز كل فرصة تلوح له كي يذهب الى الصالات الشعبية المظلمة حيث يشاهد الأفلام ويعيش احلاماً - كانت تبدو له أول الأمر مستحيلة التحقق ? تتراوح بأن يكون على أحد جانبي الكاميرا، اما وراءها او أمامها. ونعرف طبعاً انه لم ينتظر طويلاً قبل تحقيق جانبي تلك الأحلام. لكن كاسافتس كان عليه قبل ذلك ان يمعن في نمط عيش هادئ وغني من حياة شاركه فيها أخوه. ولاحقاً كان في الحادية والعشرين من عمره، حين قر قراره أخيراً والتحق بواحدة من اكثر مدارس نيويورك شهرة في مجال تكوين السينمائيين والمسرحيين، ممثلين كانوا أو مخرجين، مدرسة الفنون الدرامية الأميركية التي كانت تعرف بپ"الأكاديمية"، وكان أسلوب التدريس فيها مستقى مباشرة من"المنهج"الموروث عن ستانسلافسكي، متبعة في ذلك خط"استديو الممثل"الشهير. في داخل السينما في تلك"الأكاديمية"تلقى كاسافتس تأثيرات لي ستراسبرغ - سيد"استديو الممثل"بلا منازع - ولا سيما في مجال محدد يتطلب من الفنان، مخرجاً كان أو ممثلاً، أن يجد دائماً الرابط الحميم بين الممثل والشخصية التي يؤديها بحيث يكونان معاً كلاً واحداً. وبعد أربع سنوات من الدراسة المكثفة، داخل الصفوف، والمعمقة، في الصالات وبين صفحات الكتب، خرج جون كاسافتس من نيويورك في جولة الى الخارج الأميركي عاد منها الى برودواي ليعمل سنتين في المسرح، هو الذي تزوج سنة 1954 الممثلة الشابة وشبه المبتدئة في ذلك الحين، جينا رولاندز، لينجبا ثلاثة أبناء، منهم اثنان سيتجهان الى الفن، نيك كمخرج، وزوي ككاتبة سيناريو. أحب جون المسرح كثيراً وسيحبه دائماً. لكن طموحه كان الشاشة... الشاشة الكبيرة وإن كان بدأ على الشاشة الصغيرة التي كانت اواسط سنوات الخمسين بدأت تنحو في اتجاه فني أكثر وأكثر وتحاول استقطاب مواهب شابة في استعدادها لمنافسة السينما. وهكذا وجد جون أمامه ان يتجه الى الشاشة الصغيرة حيث راح يمثل أدواراً ثانوية في مسلسلات شعبية. وأحياناً في مسرحيات تصور مباشرة للتلفزة. وهكذا تحقق له شيء من الشعبية في الوقت نفسه الذي راح طموحه يتجه صوب السينما التي كان قرر باكراً انها هدفه بل حتى اسلوب حياته. كان يتطلع الى الكتابة والإخراج، لكنه كان يعرف انه لن يصل إليهما إلا عبر التمثيل، ومهما كان شكل ونوع الأدوار التي تتاح له. من هنا، حين أُعطي اول دور سينمائي له العام 1956 في فيلم"جريمة في الشوارع"لدون سيغال لم يتردد في القبول على رغم صغر الدور. ولقد قاده ذلك الفيلم الى عدد من الأفلام الأخرى... وسيعلن لاحقاً انه إنما كرس جل اهتمامه خلال عمله في تلك الأفلام، الى التآلف مع لغة السينما وأساليب العمل فيها، مع الأمل في ان يكون في وسعه جمع بعض المال ليحقق فيلمه الأول. ففي ذلك الحين - اواخر الخمسينات - كان الفيلم الأول بدأ يختمر في رأسه. اكتتاب مسبق كان عنوان الفيلم"ظلال"الذي حقق بالفعل خلال تلك الفترة. لكن الإعلان عنه جاء قبل ذلك حين دعي كممثل ثانوي الى برنامج إذاعي فانتهز الفرصة ليعلن اكتتاباً عاماً غايته جمع المال اللازم لإنجاز ذلك الفيلم. والمدهش ان الاستجابة كانت معقولة ما اتاح له ان يبدأ التحضير للفيلم الذي استغرقه العمل عليه ستة اشهر. ولاحقاً حين عرض الفيلم كان استقبال الجمهور بارداً، لكن النقاد رحبوا معتبرينه فاتحة لخط جديد في السينما الأميركية وإعلاناً عن ولادة"مدرسة نيويوركية جديدة". طبعاً لم يكن النجاح ضخماً الى درجة تدفع الاستديوات الكبرى الى"اكتشاف"جون كاسافتس، لكنه كان من المستوى الذي يحمّس صاحبه ويدفعه الى تجربة حظه من جديد، خصوصاً أن"ظلال"دنا من المسألة العنصرية ما عنى ان كاسافتس في إمكانه ان يعتمد على نوعية معينة من جمهور واع. ومع هذا كله كانت هوليوود بالمرصاد، إذ في وقت كان كاسافتس يحضر لفيلم تال له، يسير فيه على نمط سيره في"ظلال"، أتيح له ان يحقق فيلمين متتاليين في هوليوود أولهما"بلوز متأخر"1961، الذي حقق وعرض من دون مشاكل. والثاني"ثمة طفل في الانتظار"الذي، على العكس من ذلك، دمّر من قبل الاستديو لأن طوله كان غير مقبول هوليوودياً - ما أبعد كاسافتس ليحل محله المنتج ستانلي كرامر ويكمله في شكل جعل صاحبه ينكره تماماً. مع تلك التجربة اكتشف جون كاسافتس ان ليس ثمة أي مجال للتوفيق بين السينما الجادة الفنية التي يريد تحقيقها، وما تطلبه استديوات هوليوود. فقرر ان يعود أدراجه الى استقلاليته بادئاً في تكوين تلك المجموعة من الفنانين العائليين من حوله، ومن حول زوجته جينا، مستفيداً في الوقت نفسه من شهرته المتزايدة كممثل ومن أجوره التي أخذت في الارتفاع. وهكذا نراه يحقق منذ ذلك الحين كل تلك الأفلام التي وضعته بين"وجوه"1968 وپ"تيار الحب"1984 في الواجهة التأسيسية للسينما المستقلة، حتى وإن كان من الصعب إدراج فيلمين من أفلامه الثلاثة الأخيرة في هذه الخانة:"غلوريا"وفيلمه الأخير"مشاكل كبرى". مجد متأخر مهما يكن، يمكن النظر الى تجربة جون كاسافتس، الذي رحل سنة 1989، بعد أربع سنوات من فيلمه الأخير، على اعتباره تجربة فريدة في السينما الأميركية على الأقل، بأفلام متنوعة حافلة بالابتكارات في مجال الشكل والموضوع، عابقة بالاهتمام بحياة البشر وشؤونهم الصغيرة. وإذا كان جون كاسافتس شهد، خلال العقد الأخير من حياته تلك الثورة الهوليوودية التي لم يكن ليجرؤ على ان يحلم بها عند بداياته، فإنه لم يشهد خلال تلك السنوات سوى إرهاصات اعادة الاعتبار له، من قبل رهط من ابناء الأجيال الأجد من السينمائيين الأميركيين الشبان الذين راحوا يجهرون بأنه هو، وليس أي فنان آخر من جيله، أبوهم الشرعي... وواضع اسس نمط معقول وبسيط ? إنما غير تبسيطي من السينما المستقلة.