منذ مدة ومراسلة وكالة "غاما" في تركيا شيلا ناردولي تود التحليق فوق بلاد اتاتورك بالمنطاد على اعتبار انها اضافة الى كونها صحافية مصورة مميزة تعشق الطبيعة، فكيف اذا كان الامر من الفضاء؟ وحالفها الحظ أخيرا بعدما عثرت على مجموعة من المغامرين يودون تحقيق الامنية نفسها، فانضمت اليهم، وطار الجميع بمنطادين حلّقا فوق منطقة "اناتوليا" التي كانت منذ ثلاثة الاف سنة قبل الميلاد مركز المملكة الحثية ومناطق تركية عدة. وعادت "شيلا" من مغامرتها لتكتب التحقيق الاتي: روادنا شعور بأننا ننجز عملاً عظيماً ونحن نحلّق كالنسور، ولكننا خلافاً للنسور كنا نطير تحت رحمة الريح الى الجهة التي تختارها لنا. كان طيارنا مسيطراً على الوضع وما كان على لارس الا ان يبرّد الهواء في المنطاد او يطلق الاجنحة الاضافية المتحركة لنبدأ في الهبوط ببطء وليندفع الهواء الساخن جداً المنبعث من اللهب الى داخل المنطاد الذي تجذبه قبة ضخمة رأيناها فوقنا، قبة لا وزن لها ابدعها معماري يحلم بعصر النهضة، قبة تسبح في الهواء فوق قباب المساجد. لقد ولّدت قدرة المنطاد على مقاومة الجاذبية الارضية لدينا اوهاماً بالعظمة، ومع انه لم يكن لدينا محركات او معدات تنقلنا، فقد بدا لنا الامر يسيراً جداً كأننا قرّرنا لتونا القيام برحلة جوية وحدنا. قلق وارتياح اقتربنا من بلدة كابادوتشيا في وسط تركيا، وحين بلغناها هبط بنا لارس لنلقي تحية الصباح على سكانها… عندما كنا نحلق في اعالي السماء لم نكن بالنسبة الى بعض سكان هذه البلدة الذين استيقظوا باكراً ووجهوا انظارهم صوب السماء سوى سحابة عابرة، اما الآن ونحن على ارتفاع امتار عن سطوح المنازل، فإننا نبدو للعيان بشكل واضح. وبسبب صوت اللهب الصاخب المنبعث من المنطاد، بدأت الحمير تنهق وتترافس، وولّت الخرفان والقطط هاربة باحثة عن مأوى تختبىء فيه، وتحصنت النسوة في بيوتهن ليخرجن بعد هنيهة بصحبة ازواجهن، واندفع الاطفال نحونا وهم يهتفون: "مرحباً! مرحباً" فرددنا: "هالو ! هالو" ولوحّنا لهم بأيدينا. درس في الهواء الطلق بعد هبوطنا في جوار احدى الهضاب احضر احد المدرسين تلاميذه الصغار لتهنئتنا فقالوا متسائلين: لقد هبطتم بسلام، فكيف فعلتم ذلك؟ ثم لمسوا بتعجب قماش المنطاد المنكمش وساعدونا في طيّه. هل يستغل المدرّس هذه المناسبة كما فعلت قبل بضع سنوات مع ابني ليوضح بعض القوانين الاساسية في الفيزياء لتلاميذه ويفسّر لهم اين جرى غاز البروبان عبر الانبوب المعدني اللامع؟ هل يطلب منهم وضع رسوم بيانية لمناقشة خصائص الهواء الشديد الحرارة ام يطلب منهم كتابة مقالة ثم يقوم بتصحيح اخطائهم النحوية؟ ام تراه يطلب منهم رسم هذه المخلوقات الغريبة النطق التي يسافر بها منطاد علاء الدين فوق ريفهم البالغ الروعة والجمال؟ عجائب الطبيعة هنا في وسط تركيا تفجرت في الزمان السحيق براكين ارسييز داغي وميلينديز داغي وفاضت حممها على المنطقة، وعندما بردت هذه الحمم تشكلت منها حجارة التوفا بلونيها الزهري الشديد النعومة والاصفر وهو اقل نعومة. وفي بعض المناطق تحولت هذه الحمم طبقات من البازلت الصلب الذي لم تؤثر فيه عوامل التآكل. وفي كل سنة تتكون اشكال مخروطية وتجاويف بتأثير الرياح والامطار وبسبب عمل السكان المستمر الذين قرروا منذ اوائل التاريخ ان المأوى الآمن يتوافر عن طريق نحت الجبال بدل بناء السقوف والجدران وقد سهّلت لهم نعومة الصخور عملية الحفر حينذاك وفي الوقت الحاضر. حضارة الملاجىء ولذا نقع على مبانٍ ضخمة نحتت في الهضاب، يصل بعضها الى ثمانية طوابق تحت الارض وشكل هذه المباني من الداخل يشبه جسم الانسان اما من الخارج فهو وفق تأثير الرياح عليه. لم تكن الاشكال المستقيمة معروفة، وعندما هاجم الغزاة هذه المناطق اختبأ السكان تحت الارض فترات طويلة من الزمن، ولجأ المسيحيون الاوائل الى هذه الاماكن منشئين كنائس عدة عن طريق النحت، اضافوا اليها اعمدة كلاسكية ليست ضرورية لإقامة الابنية ورسموا على الجدران والسقوف لوحات جصيّة بألوان زاهية حافظت على بريقها في الظلمة الحالكة. كهوف متعددة الاستعمال في صباح اليوم التالي حلقّنا مرة اخرى فوق هضاب حجرية مرتفعة وواسعة تتخللها اودية تكثر فيها الصخور المخروطية الزهرية اللون وينمو فيها القمح والخضار بوفرة. وقد مررنا بسلسلة من الكهوف: كهوف خاصة بالحمام لها اعمدة وكوى يجمع الزبل منها ليكون سماداً للارض، وكهوف يصنّع فيها النبيذ ويخزّن، وكهوف تحفظ فيها الفواكه لبرودة هوائها حيث يعتنى بها لأشهر ثم تباع بعد ذلك باسعار جيدة، وكهوف تبيت فيها الحيوانات وكهوف يتناول فيها الزوار العشاء وكهوف صلّى فيها الكهنة ويعيش فيها الناس الى الآن. وهذه الكهوف هواؤها بارد خلال الصيف الحار، الا انها سهلة التدفئة في الشتاء البارد، ولا يزال الناس يطبخون طعامهم وينامون فيها آملين الا يكونوا ضحايا انهيار مفاجئ. مدن الأنفاق حلقنا فوق اشكال مخروطية جميلة في وادي زيلف وما يليه ورأينا ابواباً قائمة وكوى الحمام في منحدرات غوميد الصخرية حيث بنى الرومان نظاماً معقداً تحت الارض لإيصال المياه الى شبكة من الغرف والانفاق في الداخل، ومررنا بكهوف تحت الارض في "كايماكلي" حيث تتصل اعمدة التهوئة وآبار المياه والأنفاق الضيقة بشبكة من الممرات المعقدة المذهلة توجد فيها اماكن للطبخ والنوم وعصر العنب وخزنه واجران العماد وغرف الصلاة. رأينا دير ينكويو التي تعني "البئر العميقة" حيث كان للحثيين مخازن تحت الارض سنة 2000 قبل الميلاد وحيث كان المسيحيون يختبئون في الكهوف التي كانت تستخدم كمقابر. ونظرت الى الشمس والى السماء الزرقاء المحيطة بها فغمرتني السعادة لأنني هنا الآن ولم أعش حياتي في ذلك الزمن الغابر… البازار التركي دخلنا بلدة يستيقظ سكانها في الصباح ليشربوا الشاي ويأكلوا الزيتون والخيار والجبنة البيضاء والخبز والبيض المسلوق، بلدة يقود فيها الازواج عربات خيولهم بصحبة زوجاتهم الى الحقول التي يعرض فيها السمسم والسمّاق للبيع، وحيث يتنافس الفن التجريدي المعقد والاشكال الهندسية الرائعة والنقوش البديعة على السجاد مع الزخارف الباهرة التي تزيّن الهدايا والتحف التذكارية. بلدة يملأ شوارعها الغبار والياقات المحبوكة وانابيب المياه والمعجنات وفطائر الحلوى والاواني الفخارية، ويتجول في ارجائها الرجال المسنون والنساء المحجبات ويبتسم الاطفال والشابات ويهزّ الشبّان رؤوسهم محيين. حلقّنا فوق سوق يباع فيه الدجاج في الاقفاص والخيار على الشاحنات والبرتقال والمقصات والتوابل والمكانس والبطاطا والأباريق والبصل والجوارب والبيض والاحذية البلاستيكية. ومررنا بخرائب عليها نقوش، كانت قديماً خانات تبيت فيها قوافل الجمال المحملة بالبضائع خلال مرورها عبر طريق الحرير قادمة من الشرق. مواكبة أمنية كان لكل رحلة طيران نكهة خاصة لم تتكرر ابداً، فپ"لارس" قد اختار انظمة الهواء واختار التيار وجهتنا. كنا نقلع بالمنطاد في الصباح الباكر او قبل الغروب عندما تتضاءل تيارات الهواء الساخن وفي الايام التي تخف فيها الرياح ويكون الجو مستقراً. في اثناء شروق الشمس وارتفاعها في السماء، او في ايام اخرى حين تبدأ في المغيب، يتفحص لارس المنطقة بدقة من اجل الهبوط اذ يجب ان تكون منطقة الهبوط على مقربة من طريق تصلها سيارة الجيب التي تتابع طيراننا بسهولة في حالة الطوارىء كما يجب ان تكون على هضبة لامتصاص سرعة المنطاد وهو يلامسها، وبالطبع يجب ان تكون خالية من الاشجار والحيوانات والمحاصيل. العلم والخرافات كانت المحاصيل مشكلة منذ اطلاق اول منطاد مأهول عام 1783، فبعد ان وضع الاخوة مونغلفييه بطة وديكاً وخروفاً في اول منطاد، لإثبات انهم لن يجنّوا من الاتصال بالشيطان، بنى هؤلاء منطاداً اخر لبيلاتر دي روزبيه ومركيز ارلاند، ولكنه كان سريع العطب ولما كان يعتقد في البداية ان الدخان يعطي المنطاد دفعاً تمّ ملؤه بالدخان واطلق ثم احرق الصوف المبلل لانتاج اكبر قدر من الدخان… كانت تلك الرحلة محفوفة بالمخاطر لكنها اعتبرت انجازاً عظيماً. وبعد ان اصبح الاخوة مونغلفييه اكثر شهرة، وصاروا يهبطون بمنطادهم في اماكن نائية كالمزارع مثلاً، تعرّض منطادهم احياناً للتحطيم من قبل المزارعين المشدوهين الذين حسبوهم شياطين. ولكي يثبت الاخوة مونغلفييه انهم بشر وفرنسيون على وجه التحديد بدأوا يحملون معهم بعض المآكل والمشروبات كعلامة على حسن نيتهم. طاقم دولي بعد هبوطنا وتفريغ المنطاد من الهواء، طلب كيلي وهو الطيار الطي يقود المنطاد الاخر من "تيم" انزال عصير البرتقال من سيارة الجيب المرافقة لنا، وهذا تقليد رائع ما زلنا نحافظ عليه. في احدى الامسيات قدمنا المشروب لعمدة بلدة مصطفى باشا الذي اجتاز برفقة مساعديه حقول القمح ليرحب بنا رسمياً وليدعونا الى تناول العشاء. وفي صباح احد الايام وجدنا المئات من الناس ينظرون الينا بفضول وهم يتساءلون: "من اين انتم؟". كان الطيّار من السويد ومساعدته من انكلترا والمسافرون من المانيا وايطاليا وفرنسا. "وكيف طرتم الى هنا من تلك المناطق المختلفة؟" اوضحنا لهم اننا اقلعنا لتونا من الوادي المجاور، ومع ذلك سمعت احدى الشابات تهمس في اذن صديقتها: "من غير المعقول ان يكونوا قدموا من الفضاء الخارجي فهم لا يلبسون بدلات فضاء". نحن نعرف المدن التي اتينا منها والوادي الذي غادرناه منذ فترة وجيزة وقد اعتدنا استخدام الكمبيوتر والفاكس ولكن العالم هذا الصباح بدا لنا على هيئة مواقد رائعة زهرية اللون وسجادة سحرية طائرة. نظروا الى سلة المنطاد والينا بدهشة ونظرنا اليهم بدهشة ولم نكن ندري فعلاً ايهما اكثر سحراً الرحلة التي قمنا بها ام المكان الذي هبطنا فيه؟