عندما وافقت الاطراف المختلفة المعنية بالنزاع العربي - الاسرائيلي على الدخول في عملية السلام، فان ذلك تم في نطاق معطيات اقليمية ودولية مختلفة تماماً عن السابق. فالاتحاد السوفياتي لم يعد قوة عظمى والولاياتالمتحدة تمارس زعامتها الجديدة للعالم التي كرّسها انتصارها الباهر في حرب الخليج، ومع ذلك لم يكن ثمة على صعيد النزاع العربي الاسرائيلي ما يشير موضوعياً الى اننا نقترب من تسوية ممكنة لولا اصرار الولاياتالمتحدة الاميركية - وهو اصرار لا سابق له - على ان تثبت للعالم العربي ولحلفائها في الحرب ضد العراق انها تعرف كيف تقيم تحالفاً من اجل السلام لا يقل فاعلية عن ذلك التحالف الذي حشدته من اجل الحرب. عندما تقرر واشنطن انه قد آن الاوان كي تتصدى للنزاع العربي - الاسرائيلي فهي تدرك ان عليها التعامل مع حكومة اسرائيلية زداتها حرب الخليج تصلباً، واضافة الى كونها تضم وزراء جدداً من اليمين المتطرف يدعون الى طرد الفلسطينيين ويرفضون اي تفاوض على الاراضي المحتلة. وقد دخلت حكومة شامير في عملية استيطان حثيثة للأراضي المحتلة وتسعى الى خنق سكانها اقتصادياً. ولما كان ميزان القوى العسكري الاستراتيجي لصالحها في المنطقة، فهي لا ترى مبرراً للتنازل عن اي جزء من الاراضي التي تستمر في احتلالها منذ 1967. ومع ان حكومة اسرائيل تدرك انه لن يكون هناك سلام حقيقي مع العرب من دون تخليها عن الاراضي المحتلة، فهي تؤكد انها ليست مستعدة للقيام بذلك على الاطلاق. ان سورية بتقديمها تنازلات اجرائية وقبولها مبدأ المفاوضات الثنائية المباشرة مع اسرائيل من دون شروط مسبقة، فتحت الباب لاطلاق آلية عملية السلام، وفقاً للشروط التي فرضتها تل أبيب. وكان الرئيس حافظ الاسد من الذين ادركوا باكراً جداً طبيعة ميزان القوى العالمي الجديد، وفي ضوء ذلك قرّر ان يستخلص النتائج، اذ لم يعد خيار رفض التفاوض ممكناً في غياب الاتحاد السوفياتي الحليف السياسي الذي كان يمده بالسلاح، وبعد انفراط جبهة الرفض، وبعد التأديب النموذجي الذي لقيه العراق بعد غزوه الكويت لأنه لم يفهم قوانين اللعبة العالمية الجديدة التي رسمتها واشنطن ولا تسمح لأحد بان يتحداها. وانطلاقاً من ذلك كان لا بد للاسد من السباحة مع التيار وعكس الخطاب التقليدي الذي تمسك به منذ عشرين سنة، والاندماج في اللعبة الاقليمية الجديدة بغية الاستفادة منها قدر المستطاع. ان هذه الاعتبارات هي التي قادت دمشق الى خيار المشاركة في القوات المتحالفة ضد العراق. ولئن توصل وزير الخارجية الاميركي جيمس بيكر الى اقناع الرئيس الاسد بالذهاب الى المفاوضات، فان هذا الاخير ليس لديه اي وهم حيال نوايا الحكومة الاسرائيلية بخصوص الجولان. وهذا ما ينطبق على الاردنيين والفلسطينيين الذين يعرفون ان قبولهم التفاوض مع اسرائيل سيضعهم وجهاً لوجه امام الحكومة الاكثر تصلباً في تاريخ الدولة العبرية. ان مفهوم عملية السلام يتخذ معنى مختلفاً تماماً حين ندرك ان مواقف اطراف النزاع متباعدة جداً، وان حظ المفاوضات بالتوصل الى تسوية ما ضئيل للغاية. والواقع ان الأهم بين هاتين الكلمتين: "عملية" و"سلام" ليست كلمة "سلام" كما قد نعتقد، ولكن كلمة "عملية". وفي حال اتبعنا هذا التصور سنجد انفسنا نقرأ الموقف من زاوية جديدة. فالسؤال المطروح الآن لم يعد ما هي الحظوظ في التوصل الى السلام؟ ولكن ما هي الفوائد الذي يجنيها هذا الفريق او ذاك من "العملية" بحد ذاتها؟ ولما كان من غير المعقول تصور اندلاع حرب عربية - اسرائيلية - اقله خلال بضع سنوات - ولما كان السلام متعذراً بلوغه، فان "العملية" هي الطريق الوسط الذي يستحسن سلوكه والذي في وسعه ان يغير اللعبة كلياً في الشرق الاوسط. لنبدأ بواشنطن. يبدو ان "العملية" توفر لها جملة من المكاسب لا يستهان بها. فهي تدعم الموقع الذي احتلته حديثاً في العالم العربي وتتيح لها ان تفرض ارادتها بسهولة اكثر من اي وقت مضى. ان ادارة بوش باطلاقها "العملية" على رغم ما لقيته من معارضة ومقاومة، التزمت بتعهد قطعته على نفسها إزاء عدد من دول المنطقة، مقابل مشاركتها في الحرب ضد العراق. وباسم هذه "العملية" صار من الممكن منع الحصول على اسلحة التدمير الجماعي، وخفض ترسانات الاسلحة التقليدية لدى الدول العربية بصورة خاصة، مع الاحتفاظ بحق مراقبة برامجها العسكرية. و"العملية" ازاء اسرائيل اداة تأمل واشنطن ان تحصل بواسطتها على وقف بناء المستوطنات في الاراضي المحتلة التي تعتبر بمثابة صاعق تفجير للنزاع، وان تحد من تجاوزات السياسة الاسرائيلية كطرد الفلسطينيين مثلاً. والواقع انه باسم هذه "العملية" استطاع مجلس الأمن ان يصوّت على قرار يدين اسرائيل لأنها قرّرت ابعاد فلسطينيين، بعبارات قاسية لم يستخدمها من قبل، وباسم هذه "العملية" ايضاً ارجأت الولاياتالمتحدة التصويت على منح اسرائيل قروضاً بعشرة مليارات دولار. وليس هنالك ما يؤكد حتى الآن ان اسرائيل ستحصل على هذه القروض بسهولة. و"العملية" هي حجة للضغط على الفلسطينيين لوقف الانتفاضة ومطالبة دول الخليج والمجموعة الاوروبية بالاسهام مالياً لتحسين الاوضاع المعيشية في الاراضي المحتلة بغية التخفيف من وطأة التطرف الذي يغذيه الوضع الاقتصادى المزري. ومما لا شك فيه ان اللقاءات العربية الاسرائيلية المتكررة هي وسيلة جيدة لجعل تلك اللقاءات امراً عادياً ولإقامة تطبيع واقعي من دون ان يتحقق اي شرط من شروط السلام. لماذا دخلوا اللعبة؟ اذا كان العرب والاسرائيليون قبلوا ان يلعبوا لعبة السلام فمرد ذلك الى ان كل فريق يعتقد انه سيحقق من خلال "العملية" بعض المكاسب. لقد شاركت اسرائيل في "العملية" بضغط من الادارة الاميركية ومن اللوبي المؤيد لها في واشنطن، ومن الرأي العام الاسرائيلي الحساس ازاء الربط بين السلام والازدهار الاقتصادي، ولا سيّما ان هذا الازدهار حيوي جداً لاستيعاب اليهود الوافدين من الاتحاد السوفياتي القديم. وبالنسبة الى حكومة شامير فان الربط المشار اليه هو بالاحرى بين "العملية" والمكاسب الاقتصادية والمالية. "فالعملية" هي في الواقع اداة ملائمة لأنها ستسمح بالحفاظ على دعم اللوبي في واشنطن لصالح التصويت على القروض المطلوبة، ولتطبيع العلاقات مع العالم العربي بصورة خفية، ولجر العرب الى مساعدة الفلسطينيين في الاراضي المحتلة، وهذا ما يخفف الاتهامات حول نوايا اسرائيل الخبيثة، ويتيح لها ان تدفع العرب في نفق لا نهاية له يجدون انفسهم فيه مرغمين على الحديث عن مسائل الأمن والمياه والتعاون الاقتصادي وعن اي موضوع آخر، بينما تتظاهر اسرائيل بالحديث عن الاراضي المحتلة من دون ان تعني ذلك فعلاً. و"العملية"، اضافة الى ذلك، تخلق مناخاً من المماطلة لدى الفلسطينيين يحد من زخم الانتفاضة اذا عجز عن وقفها. ولما كانت سورية تعرف نوايا اسرائيل، فانها في المدى المتوسط لا تلمح اية فرصة يمكن ان تؤدي الى سلام مشرِّف، بيد انها ترى في مشاركتها في "العملية" شرطاً لازماً للحفاظ على دورها كلاعب اساسي في اللعبة الاقليمية التي رسمت واشنطن حدودها. ومن خلال "العملية" قد تحظى سورية بلفتة كريمة من الادارة الاميركية والكونغرس تؤدي الى شطب اسمها عن لائحة الدول التي تدعم الارهاب. وهو ما لم يحدث حتى الآن. ولما كان الدخول في "العملية" يوفر بعض المكاسب الاقتصادية عن طريق اوروبا ويرفع من مساهمة الدول العربية المالية، "فالعملية"، اذن، يمكن ان تكون، وفقاً لشروط معينة، تمريناً مفيداً ومثيراً للاهتمام. صحيح ان المسيرة محفوفة بالألغام لكن من المستحسن المضي فيها ومتابعتها كيلا تجد سورية نفسها مبعدة ومعزولة. اما بالنسبة الى الاردن، وبصورة اخص الى الفلسطينيين، فان الدخول في "العملية" اصبح ضرورة ملحة تستحق ان يضعوا من اجلها اهدافهم النهائية على الرف. ان عمان تدرك الدور الخطير الذي يجب ان تلعبه طوال المفاوضات وهي تنوي استخدامه لمحاولة ترميم علاقاتها مع جيرانها العرب بعد التوتر الناتج عن حرب الخليج، ولاستعادة ما كان له من حظوة لدى الولاياتالمتحدة، وهما شرطان ضروريان لتحسين وضعها الاقتصادي. اما الفلسطينيون وهم الأكثر استعجالاً لايجاد تسوية، فقد رضخوا للشروط ولدفتر الاستحقاقات المقترح. وما دام خيارهم هو الدخول في "العملية" فلتنطلق هذه بأسرع ما يمكن للخروج منها بأكبر حصة ممكنة. والملح في الأمر كان العمل على وقف المستوطنات في الاراضي المحتلة، وعلى جر الولاياتالمتحدة والأسرة الدولية لافهام اسرائيل انه لم يعد في وسعها ان تتصرف كما يحلو لها دون عقاب. والتصويت الأخير في مجلس الأمن مؤشر - وان كان ضعيفاً بالطبع - الى ان حسابات الفلسطينيين لم تكن مغلوطة، الا انه ما زال امامهم طريق طويل قبل ان يربحوا المعركة ضد الاستيطان، هذا اذا ربحوها. ان على جميع الذين كانوا يحلمون بالسلام والعدل والاخوة للشرق الاوسط ان ينتظروا طويلاً لأن الأمر حالياً يتعلق "بالعملية" لا بالسلام. و"العملية" برنامج لا يثير حماساً كبيراً، و"تمرين" يمارسه اللاعبون، اما بعقلية انتهازية او بذهنية الخضوع للامر الواقع او بوقاحة باردة. * خبيرة بارزة في شؤون الشرق الاوسط ومسؤولة عن قضايا المنطقة في "المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية".