يخطئ من يظن أنه يستطيع أن يتنبأ بما سيحدث في الشرق الأوسط غداً أو أن يقدم تحليلاً صائباً مئة في المئة على رغم سمعة مراكز الدراسات والأبحاث الدولية، والأميركية بالذات، ولا سيما المستندة الى تقارير الاستخبارات الاميركية، مع الاعتراف بأهمية القائمين عليها ومؤهلاتهم الأكاديمية والعلمية وخبراتهم العملية. فهذه المنطقة كانت ولا تزال منطقة رمال متحركة معظم طرقاتها مزروع بالألغام وأيامها حبلى بالمفاجآت والأحداث التي تغير مجرى الأمور 180 درجة خلال لحظة واحدة. ومن يتابع سير الأحداث وتحولاتها يدرك جيداً أن المحللين الذين يقدمون يومياً عشرات التحليلات عن مستقبل السلام أو توقعات الحرب يخطئون دوماً في تشخيص طبيعة المنطقة ومفاجآتها التي تعيد كل شيء الى نقطة الصفر أو تدفعه الى نقطة الذروة. ومع هذا فإننا نقف اليوم أمام واقع جديد يمكن من خلاله وضع تصور عام للمرحلة المقبلة. ففي واشنطن هناك إدارة جمهورية جديدة لا بد من أن تواجه عاجلاً أو آجلاً حتمية اتخاذ موقف واضح من أزمة الشرق الأوسط ومفاوضات السلام المتعثرة على المسارات الفلسطينية والسورية واللبنانية، لأن مصالح الولاياتالمتحدة التي يضعها الجمهوريون على رأس أولوياتهم تستدعي نزع فتيل التوتر وتحريك عجلة السلام على جميع المسارات والعودة للامساك بزمام الأمور بعدما كاد يفلت في أواخر عهد الادارة السابقة. فالسلام، بحسب المعلن والمخفي، أصبح سياسة استراتيجية للولايات المتحدة وأوروبا بالذات ولدول العالم الأخرى، كما انه قرار استراتيجي عربي، وضرورة استراتيجية لاسرائيل، رضي المتطرفون أم لم يرضوا على رغم محاولة "الجنرال" كولن باول وزير الخارجية الاميركية في جولته الأخيرة إثبات ان "الشأن العراقي" له الأولوية وان إحياء ملف الشرق الأوسط يحتاج الى وقت طويل. وأمام الادارة الاميركية وثائق ومحاضر جاهزة كان يمكن الانطلاق على أساسها من النقطة التي توقفت عندها خصوصاً بالنسبة الى المسار السوري الأسهل ومعه المسار اللبناني شبه المنتهي. وهناك اتفاقات فلسطينية - اسرائيلية موقعة أو جاهزة للتوقيع أو انها لا تزال على طاولة المفاوضات لا بد من إكمالها حتى لا تنفجر الأوضاع من جديد وتهدد الاستقرار والأمن في المنطقة ومعها المصالح الاميركية والغربية في شكل عام، على رغم اعلان ادارة بوش انها غير ملتزمة أي مقترحات أو تعهدات قدمتها ادارة كلينتون لإتمام هذه المهمة، التي تحاول اسرائيل ان تجعلها مستحيلة. لا بد من وقفة أميركية جريئة وحاسمة ترغم اسرائيل على التخفيف من تعنتها والقبول بالأمر الواقع الذي يعرفه الجميع وهو ان العرب قدموا كل ما عندهم من تنازلات ولم يبق لديهم أي شيء يتنازلون عنه أو يساومون عليه لأن القضايا المتبقية وبينها القدس واللاجئون تعتبر خطاً أحمر لا يمكن أحداً مهما كان نفوذه أن يتجاوزه. في المقابل هناك حكومة اسرائيلية جديدة انتخب رئيسها شارون من غالبية الاسرائيليين الذين منحوه تفويضاً شعبياً ليقود البلاد في المرحلة المقبلة على رأس حكومة ائتلافية تستطيع مواجهة الأعاصير والصمود أمام الهزات وكسب ثقة الكنيست لفترة طويلة على رغم أن معظم التوقعات والتحليلات تركز على أن عمر هذه الحكومة قصير وان اسرائيل ستواجه خلال سنة أو سنتين أزمة جديدة يضطر خلالها رئيسها للدعوة الى انتخابات عامة تعود فيها، وتعيدنا معها الى الدوامة المعروفة، أو الى اللعبة المحيرة التي تعطل مسيرة السلام وتمنح اسرائيل وقتاً أكبر لتكسبه في تعزيز الاستيطان الاستعماري وتهويد المناطق المحتلة والسيطرة على المقدسات وفرض الأمر الواقع. وقد ثبت لنا على مدى السنتين انه لا فرق بين ليكود والعمل ولا بين اليمين واليسار بالنسبة الى الاستراتيجية العامة لاسرائيل والقضايا الرئيسية الخاصة بمفاصل السلام وسير العملية التفاوضية، فالكل يناور ويساوم ويلف ويدور ليعود الى نقطة الصفر وفرض اللاءات خصوصاً بالنسبة الى القدس والحرم الشريف واللاجئين والحدود وصلاحيات الدولة الفلسطينية المستقلة. ولعل الاختراقات الوحيدة التي سجلت خلال المفاوضات الأخيرة هي المتعلقة بسقوط المحرمات المتعلقة ببحث بعض القضايا الشائكة مثل القدس والسيادة على المقدسات واللاجئين وهو ما فرضت اسرائيل إغفاله وتأجيل بحثه عن توقيع اتفاقات أوسلو. صحيح انه لم يسجل أي تقدم جدي أو انتزاع اعتراف اسرائيلي رسمي بالحقوق العربية إلا أن ورقة كلينتون، التي لم يعرف بعد ما إذا كان بوش سينطلق على أساسها، تضمنت نقاطاً ايجابية قليلة لم تستطع اسرائيل إلا أن تقر بها مثل عودة اللاجئين الى وطنهم، أي الى الدولة الفلسطينية وليس الى اراضيهم في فلسطينالمحتلة عام 1948. فقد كانت ترفض حتى هذا الحق المبدئي. كما قبلت بعودة عدد محدود ولو كان رمزياً 150 ألفاً الى فلسطين 1948. كما أن مجرد البحث في اعادة مناطق في القدس العربية يعتبر اختراقاً آخر بعد ان كان الاسرائيليون يصرون على مقولة "العاصمة الموحدة الى الأبد" والضم النهائي للقدسين الغربية والشرقية. من هذه الاختراقات يمكن بناء موقف عربي حازم يتمسك بالثوابت ويرفض تقديم أي تنازلات، لأن من تابع مجريات الصراع العربي - الاسرائيلي يدرك جيداً ان اسرائيل كانت تتراجع دائماً عن لاءاتها وتضرب عرض الحائط بكل ما كانت تعتبره من المحرمات مثل الانسحاب من سيناء وتفكيك المستوطنات ثم الانسحاب من طابا وشرم الشيخ حيث كان الاسرائيليون يقولون على لسان موشي دايان: نفضل شرم الشيخ من دون سلام على سلام من دون شرم الشيخ. وينطبق الأمر ذاته على منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت القوانين الاسرائيلية تحرم أي اتصال بها، ومع ياسر عرفات الذي كان يصور بأنه زعيم الإرهاب مع غيره من القادة الفلسطينيين، ثم لا ننسى مرتفعات الجولان التي قبلت اسرائيل الانسحاب منها بحسب وديعة رابين الشهيرة، ثم "الشريط الحدودي" في جنوبلبنان الذي كان يعتبر ركيزة من ركائز الأمن الاسرائيلي وسلامة الجليل وانسحبت منه اسرائيل بطريقة مهينة ومزرية. وأخيراً ما شهدناه من مساومات حول القدس والحرم الشريف وقضية اللاجئين في كامب ديفيد وما بعدها. نحن اليوم على بعد أيام قليلة من انعقاد مؤتمر القمة العربي المرتقب في عمان والذين أمل أن ينجح في الوصول الى هذا الهدف السامي ويوجه رسالتين حاسمتين وواضحتين الى كل من الادارتين الجديدتين في الولاياتالمتحدة واسرائيل ينتظر أن يحملها الرئيس مبارك والملك عبدالله والزعماء العرب الذين سيزورون واشنطن في مطلع نيسان ابريل. أما بالنسبة الى ما يردده الاسرائيليون، واليمينيون بالذات، حول لاءات وتهديدات مبطنة وعلنية فقد تعودنا عليها، وعلى اسرائيل أن تدرك جيداً انها لن تستطيع إهانة العرب الى ما لا نهاية وانها قد تستطيع أن تكسب معركة أو معركتين وتلوح بتفوقها العسكري ولكنها لن تتمكن من ربح حرب لا نهاية لها. كما ان على الاسرائيليين أن يدركوا جيداً أبعاد السياسة الخطرة التي يقودهم اليها المتطرفون، فقد أضاع هؤلاء فرصاً ذهبية لإحلال السلام والاستقرار في المنطقة كما أضاعوا فرص قيام تطبيع عملي مع الدول التي وقعت معها اسرائيل معاهدات سلام. فقد كان العرب على استعداد للمرة الأولى منذ قرن للقبول بالسلام وتبعاته ولو على مضض... وكان تيار السلام هو الأقوى والأكثر قبولاً جماهيرياً... لكن اسرائيل نسفت كل ما تحقق من تقدم وخيبت الآمال، آمال أنصار معسكر السلام قبل غيرهم. واليوم نحن نقف على مفترق طرق بين الحرب والسلام بانتظار ما ستسفر عنه المتغيرات الجديدة في اسرائيل والولاياتالمتحدة من سياسات وما سيتخذ العرب من مواقف في قمة عمان مع الأخذ في الاعتبار ان ما يردده الزعماء الاسرائيليون يمكن التراجع عنه بسهولة، بل ان أهم خطوتي سلام اتخذتهما حكومة ليكودية يرأسها يميني متطرف، بل ممعن في التطرف، هما مناحيم بيغن الذي وقع اتفاقات كامب ديفيد، واسحق شامير الذي قبل مبادرة السلام الاميركية وحضر مؤتمر مدريد. أما اسحق رابين أكثر زعماء اسرائيل تشدداً وكان يمينياً متطرفاً على رغم تزعمه حزب العمل، كما كان صاحب نظرية "تكسير العظام" فقد اضطر لمصافحة الرئيس ياسر عرفات والتوقيع على اتفاقات أوسلو. أما شارون سفاح صبرا وشاتيلا فقد لاحظنا كم هو مرتبك ومتباين في مواقفه. فهو يرفض مصافحة عرفات ويرسل موفدين سريين لمقابلته ويرفض ما تم التوصل اليه من اتفاقات ثم يعلن انه يريد تحقيق تقدم على مسارات السلام، كما انه لم يبين معارضته لقيام دولة فلسطينية مستقلة لكنه ينصح الفلسطينيين "بألا يقرروا اقامة دولة احادية الجانب". وهو صاحب نظرية "الأردن هو الوطن البديل" للفلسطينيين لكنه يرسل موفدين الى الاردن ليبلغه بأنه تخلى عن هذا المشروع وانه بات ينظر الى الاردن كعامل استقرار في المنطقة. وهو يعرب عن أسفه لمجزرة صبرا وشاتيلا التي أشرف بنفسه عليها ووجه اليه اللوم الرسمي عليها ثم يهدد بمجازر أخرى وحروب أكثر ضراوة. وقد تحاول اسرائيل خلال هذه المرحلة المماطلة والمناورة وإثارة فتن داخلية، ولكنها لن تستطيع أن تتهرب من مواجهة حتمية السلام، كما انها ستحاول التقرب من ادارة الرئيس جورج بوش بعد أن فقدت عشرات الحلفاء و"العملاء" في ادارة كلينتون. ولكنها ستجد نفسها أمام مأزق مماثل للذي واجهه بنيامين نتنياهو مع الادارة الاميركية ومن قبله شامير ورابين وبيريز عندما اضطرت ادارة الرئيس جورج بوش الإب لوقف ضمانات قروض العشرة بليارات دولار. وهناك ورقة مهمة يجب أن يحافظ عليها العرب حتى الرمق الأخير، وهي ورقة "انتهاء النزاع" أو صك البراءة، التي تبذل اسرائيل المستحيل للحصول عليها من العرب والفلسطينيين بالذات حتى تكرس شرعية احتلالها ووجودها، فإذا أحسن العرب استخدامها مع أوراق الموقف الموحد ومخاطبة ادارة الرئيس بوش بعقلانية وحزم في آن واحد فإنه من الممكن ايجاد مخرج للمأزق الراهن وتصحيح مسار مسيرة السلام بغض النظر عمن يحكم اسرائيل. أما بالنسبة الى طبول الحرب التي يقرعها المتطرفون بين الآونة والأخرى لتخويف العرب فإنها لم تعد ترهب أحداً على رغم ادراك كل عاقل لمخاطرها وآثارها وانعكاساتها، والمهم الا يمنح أي عربي أية ذريعة أو حجة لتنفيذ مخططاتها وتهديداتها أو لتوجيه ضربة عسكرية لأية دولة عربية وخصوصاً لبنان. نعم انها فترة حرجة... فترة انتظار وترقب وتأرجح على حبال الشرق الأوسط، تلك المنطقة الحبلى بالمفاجآت والأحداث وسط تردد سؤال قديم يتجدد بين الآونة والأخرى: حرب أم سلام؟ وحتى إشعار آخر يبقى الرد متداولاً بين جنرال واشنطن باول وجنرال اسرائيل شارون! * كاتب وصحافي عربي.