منذ ايام قليلة بدأ فيلم سبايك لي الجديد "مالكوم اكس" يعرض في كافة انحاء الولاياتالمتحدة الاميركية، محدثاً زوبعة من السجال بين مناصر للفيلم ومعارض له، بين من يتهمه بالبورجوازية، ومن يسميه بالعنصرية. اما سبايك لي نفسه، الذي يقدم هنا وهو في السادسة والثلاثين من عمره فيلمه السادس، فيبتسم وهو يراقب هذا الضجيج، ويقول وهو ينتظر جائزة الاوسكار التي ربما سيحظى بها فيلمه، انه واثق ان هذا الفيلم القنبلة سيربح اضعاف اضعاف 33 مليون دولار التي انفقت عليه، وهو اعلى رقم انفق على فيلم عن السود في تاريخ السينما. هنا اطلالة على هذا الفيلم - الظاهرة، تتضمن حواراً قصيراً وسريعاً مع مخرجه، اجرته "الوسط" خلال انعقاد مهرجان "كان" الاخير. حدث ذلك في الحادي والعشرين من شهر شباط فبراير 1965 في قاعة اودابون في هارلم - نيويورك، يوم اودت ست عشرة رصاصة بحياة مالكوم اكس، عبر واحدة من عمليات الاغتيال التي كثرت في الولاياتالمتحدة في ذلك الحين: جون كينيدي قبل مالكوم اكس، ومارتن لوثر كينغ بعده... وتطول اللائحة لو حاولنا وضعها. المهم ان رصاصات المدفع الرشاش في ذلك اليوم وضعت حداً لحياة واحد من اكثر زعماء السود الاميركيين غرابة وتقلبا: مالكوم اكس، الزعيم المسلم، الذي سيكتشف الناس، بعد ذلك وبالتدريج قصة حياته فصلاً فصلاً. منذ كان متشرداً حتى صار من المنادين باستعادة السود لهويتهم عبر عمل نضالي طويل، يشمل اعتناق الاسلام لأنه دين المعذبين على الارض... صحيح ان ذكر مالكوم اكس لم يغب كثيراً عن الاذهان منذ ذلك الحين... لكن حياته كانت بدأت تنسى في خضم احداث العالم المتتابعة، وتحول اسمه الى اسطورة. واليوم، بعد سبعة وعشرين عاماً، يعود مالكوم اكس الحقيقي، الانسان، المتقلب في عالم متغير، يعود الى ساحة الاحداث من جديد، عبر هذا الفيلم الذي يثير في الولاياتالمتحدة زوبعة حقيقية. بل واكثر من زوبعة واحدة. وليس دائماً بسبب شخصية صاحب السيرة نفسه. المخرج هو البطل فالحال اننا هنا امام فيلم عرف فيه مخرجه كيف يسرق الاضواء من البطل الذي يروي الفيلم حكايته. نحن هنا امام مالكوم اكس، اقل مما نحن امام سبايك لي، المخرج الذي لم يكن له من العمر حين جرى اغتيال مالكوم اكس سوى تسعة اعوام. بمعنى انه اليوم في السادسة والثلاثين من عمره. لكن هذا الفنان ذا القامة القصيرة والهزيلة والذي تخرج الكلمات من فمه كرصاص المدفع الرشاش، عرف كيف يحول نفسه الى ظاهرة تدهش الكثيرين، لكنها تثير غيظ الكثيرين ايضاً. ويكفي للتدليل على هذا ان نشير الى ان سبايك لي، ولكي يحقق فيلماً عن زعيم اسود وعن قضية سوداء، يقفان بالتعارض مع كل ما يتطلع اليه البيض الاميركيون، تمكن من ان يحصل من شركة "وارنر" منتجة الفيلم على اكثر من عشرين مليون دولار، هي الجزء الاساسي من ميزانية فيلم "مالكوم اكس" البالغة 33 مليوناً، امن الباقي منها، جزئياً بفعل المبيعات الخارجية، وجزئياً بفضل مساهمات جاءت من بعض اقطاب عالم السود الاميركيين.. كما تمكن من ان يستقطب من حوله ومن حول فيلمه الذي يعرض الآن محققاً قدراً هائلاً من النجاح، ووسط زوبعة السجال والنقاش الصاخب، مجموعات كاملة من الناس. ومع هذا ليس "مالكوم اكس" سوى الفيلم السادس الذي يحققه سبايك لي منذ دخوله عالم الاخراج السينمائي للمرة الاولى في العام 1986 بفيلمه "سوف تحصل عليه". ولكن من المعروف اليوم ان كل فيلم يحققه سبايك لي يعتبر في حد ذاته ظاهرة، وخاصة فيلماه الهامان ""افعل ما تراه مناسباً" 1989 وحمى الادغال" 1991 الذي راح يثير في كل مرة عرض فيها مظاهرات وأعمال عنف وشغب. من قتل مالكوم اكس؟ والحال ان نجاح فيلم سبايك لي الاول، هو الذي اعطاه امكانية تعامل الند للند مع الاستديوهات الهوليوودية الكبيرة، على الرغم من ان ما يعبر عنه لي في افلامه، هو اوضاع السود لا سيما الصراعات العنصرية التي يجبرهم البيض على خوضها بسبب الجور الواقع عليهم، من "دوخان المدرسة" الذي يصور فيه الصراعات العنصرية في جامعة جنوبية، الى "افعل ما تراه مناسباً" الذي يخوض فيه في حمى التوترات العنصرية في غيتو "بدفور ستوايفسنت"، مع توقفه في فيلمه "بلوزي المفضل" عند اخفاق الطبقة المتوسطة السوداء في اميركا عن تكوين نفسها... المواضيع نفسها هذه هي التي يعود اليها سبايك لي هذه المرة ايضاً، في فيلمه الجديد "مالكوم اكس" ولكن بشكل اكثر ضخامة وفخامة، وخاصة من خلال حكاية حياة ذلك الزعيم الاسود الذي اعتنق الاسلام، وآمن بأن النضال العنيف انما هو الوسيلة الوحيدة التي تمكن السود من الحصول على حقوقهم، ثم جرى اغتياله. وقد تبين لاحقاً - وهو ما يرويه الفيلم على اي حال - ان مكتب الاستخبارات الفيديرالي كان وراء الاغتيال من خلال اختراقه لتنظيم ديني متطرف. ولعل المشهد الذي يصور اغتيال الزعيم وهو يخطب في القاعة، امام زوجته الحامل للمرة الخامسة وبناته الاربع، وهو بعد في الاربعين من عمره، وقد عاد لتوه من الحج في مكةالمكرمة، وزار مصر بين بلدان اخرى، هو احد اكثر مشاهد الفيلم تأثيراً وعنفاً. ويزداد تأثير هذا المشهد حين يتذكر المتفرج ان مالكوم اكس الذي كان من انصار شعار "النضال بكل الطرق الضرورية" و"الانسان الابيض هو العدو" كان بدأ يخفف من غلوائه، ويسير نضالاته في اتجاهات اكثر واقعية. تقول لنا سيرة مالكوم اكس، الحقيقية وكما يرويها الفيلم استناداً الى سيرة مالكوم اكس التي كان اليكس هايلي صاحب كتاب "الجذور" الشهير وضعها اثر رواية صاحب السيرة لها امامه شخصياً، بانه - وكان يدعى مالكوم ليتل - ولد في العام 1925 ابناً لراع في ابرشية معمدانية. كان ينادي بضرورة عودة ابناء جلدته السود الى افريقيا مما جعل عصابات الكوكلاكس كلان العنصرية تترصده وتحرق بيته، ثم تقتله في النهاية - وان كانت ثمة شكوك تظل مخيمة على تلك الجريمة! -. اما والدة مالكوم فكانت بيضاء، وعجزت عن اطعام اطفالها الثمانية فجنت وتفرق الاطفال، ليوضع مالكوم في مؤسسة للايتام. وحين صار مالكوم في السابعة عشرة من عمره ترك المؤسسة، ليتحول الى مشاغب سيىء بالمعنى الحقيقي للكلمة: ليتقلب في شتى المهن ويمسح الاحذية ويبيع السندويشات في القطارات، قبل ان يتوجه الى نيويورك ويبدأ ببيع المخدرات وبممارسة شتى انواع الموبقات، حتى اودع السجن. ووراء القضبان بدأ يقرأ وتتبدل حياته، في وقت كان كثير من السود الاميركيين يتراكضون للاصغاء الى خطب زعيم اسود مسلم هو ايليا محمد. ووصلت اصداء تلك الخطب الى مالكوم فاعتنق الاسلام وهو داخل السجن. كل المتطرفين ضده في العام 1952 خرج مالكوم من السجن على غير ما دخل: فالمشاغب تحول الى مثقف، والاسود الفاقد لهويته وجدها في اعتناقه الاسلام، بل وبدل اسمه الى "مالكوم اكس"، وانضم الى تنظيم "امة الاسلام" وسرعان ما بدأت شهرته تنتشر وصار يلقب ب: "الاسود الاكثر غضباً في اميركا" ولقد قاده غضبه الى ان يسخر من تعاليم مارتن لوثر كينغ الهادئة وغير العنيفة، والتي تطالب بالحصول على الحقوق المدنية للسود عن طريق اندماجهم في المجتمع. وشيئاً فشيئاً بدأت شخصية مالكوم اكس تتخذ ابعاداً متألقة وصار له جمهوره الكبير ومستمعوه. مما جعله يشكل خطراً على زعامة جماعة "امة الاسلام"، فكان ان انشق عنهم بعدما اصطدم مع ايليا محمد. اذ كان مالكوم اكس، خلال زيارته لمصر ولغيرها، فهم ان الاسلام شيء آخر: انه دين المحبة والاخوة، لا دين العنف الاجوف. وهكذا ما ان انشق عن "امة الاسلام" وعاد الى الولاياتالمتحدة حتى اسس جمعية تحت اسم "منظمة الوحدة الأفرو - أميركية" وبدأ ينادي بأنه ليس عنصرياً وبأن البيض ايضاً كائنات بشرية بل وبدأ يفكر بالنضال الى جانب مارتن لوثر كينغ... فكانت تلك هي اللحظة المناسبة للتخلص منه. فكانت رصاصات المدفع الرشاش التي قضت عليه. تلك هي حكاية مالكوم اكس... وحكاية فيلم سبايك لي ايضاً. اذ ان المخرج حاول ان يكون امينا لمسار نضال وحياة بطله المثالي... وان كان ركز اقل على التبادلات التي طرأت على افكار مالكوم خلال العام الاخير من حياته... ومع هذا لم يخل الامر من هجمات تعرض لها الفيلم، من قبل السود المناضلين، من امثال الشاعر امير بركة وهو الاسم الجديد الذي اتخذه لنفسه بعد اعتناقه الاسلام الشاعر الاميركي المعروف ليروا جونز الذين اعتبروا الفيلم بورجوازياً ومهادنا للبيض. لكن السود لم يكونوا وحدهم من هاجم الفيلم، فالبيض ايضاً هاجموه لانهم رأوا في بعض ثناياه تعاطفا من سبايك لي مع مرحلة العنف كما عبر عنها مالكوم اكس قبل ان يهدأ... وهكذا بين هجوم غلاة السود وهجوم غلاة البيض، يشق هذا الفيلم الآن طريقه... غير ان النتائج التي اسفر عنها موقفه الفكري والايديولوجي، ليست وحدها سبب الضجة القائمة من حول الفيلم... اذ، كعادته دائماً، عرف سبايك لي هذه المرة ايضاً، كيف يخلق جواً من الاشمئزاز من حول فيلمه: استفزاز بدأ بتصريحاته العديدة، وبخاصة رفضه لحضور اي صحافي غير اسود عروض الفيلم المخصصة للصحافة، ودعوته كافة الطلاب السود للامتناع عن الذهاب الى المدرسة يوم بدء العرض الجماهيري للفيلم، والتوجه بدلاً من ذلك الى صالات السينما لمشاهدته، وانتهى بتسويقه الذكي - كأحسن ما يكون رجال الاعمال - للعديد من البضائع التي تحمل اسم اكس، من قبعات الى قمصان الى "بادجات" الى علب الهامبرغر وسواها. وهذا ما جعل الكثيرين من السود يقولون ان اسوأ ما في الامر هو ان سبايك لي قد حول قضية مالكوم اكس كلها الى تجارة رابحة. حول كافة ضروب الاستفزاز هذه، يجيب سبايك لي قائلاً: "بالنسبة الى البضائع وعلامة اكس عليها، ليس هذا بالامر الغريب ولا الاستثنائي، بل هو اسلوب في الترويج تتبعه كافة الافلام الجماهيرية. فلماذا احرم انا نفسي منه؟...". اما بالنسبة الى الصحافيين البيض الممنوعين من حضور عروض الصحافة فيقول سبايك لي انه رغب تفادي تحطيمهم للفيلم قبل بدء عرضه عن طريق نفوذ صحافتهم. اما المسألة الاخرى والتي اثارت اكبر قدر من الضجيج، ونعني بذلك دعوته الى اغلاق الصفوف السوداء يوم عرض الفيلم، فقال سبايك لي في حديث ادلى به لمجلة "التايم": انا لست اعتقد ان فكرتي كانت فكرة شديدة الغرابة... فأنا مثلاً، حين كنت في الصف الرابع، اخرجت من الصف لكي اذهب واشاهد فيلم "ذهب مع الريح" ثم لاكتب عنه ملخصاً بعد ذلك، فلماذا يحق لذهب مع الريح ما لا يحق لمالكوم اكس؟؟ والحال ان سبايك لي يعتبر فيلمه هذا، درساً في التاريخ ينبغي على كل ولد اميركي ان يراه "في زمن لم يعد فيه الفتيان يقرأون على الاطلاق، وحين باتت السينما والتلفزة المكان الوحيد الذي يستقون منه كل ما لديهم من معلومات". ويرى سبايك لي ان ما دفع مالكوم اكس ذات يوم الى رواية قصة حياته لاليكس هايلي انما كان "رغبته في ان يجعل حكاية حياته مثلاً يحتذى بالنسبة الى الاميركيين من اصل افريقي - بل وبالنسبة الى كل الناس، في الواقع - لأن الدرس الاساسي الذي تحمله تلك الحكاية هي ان بامكانك ان تبدل حياتك كلها ان اردت ذلك... حيث نراه يخاطب الناس بقوله: انظروا ايها الناس، لقد كنت مجرماً، وكنت مدمناً على الكوكايين، وبائعاً للمخدرات، كنت من الانحدار الخلقي بحيث ان الناس حتى داخل السجن كانوا يلقبونني بالشيطان...". نذكر هنا ان سبايك لي لم يكن اول مخرج يفكر بتحويل حياة مالكوم اكس الى فيلم سينمائي. كان العديدون فكروا بهذا، ولا سيما منهم نورمان جويسون، الابيض صاحب فيلم "حكاية جندي" لكن سبايك تمكن من الاستيلاء على المشروع لايمانه بأن ما من مخرج غير اسود سيكون في مقدوره ان يعبر حقاً عن اعماق حياة ذلك الزعيم... وهو يقول عن هذا: "لو ان مخرجاً ابيض حاول ان يحقق هذا الفيلم، لكان وصف لنا حياة مالكوم اكس كما يراها، مثلاً صحافي ابيض حسن النوايا... فتصبح الحكاية حكاية هذا الصحافي لا حكاية ذلك الزعيم!". نذكر اخيراً ان سبايك لي صور العديد من مشاهد فيلمه في عدد من المناطق العربية ولا سيما في مصر، حيث وجد ترحيباً كبيراً به يشبه كما قال لنا يوم التقيناه خلال مهرجان كان السينمائي الاخير "الترحيب الذي خصت به مصر مالكوم اكس نفسه ذات يوم". وعلى ذكر لقائنا هذا بسبايك لي حين كان خارجاً من مؤتمر صحافي عقده امام عشرات الصحافيين ودافع فيه عن نفسه ضد تهمة "اللاسامية" التي الصقت به، نقول اننا طلبنا منه في ذلك اليوم حديثاً عن فيلمه فطلب الفي دولار ثمناً للحديث، وقال انه حتى لو دفعنا له المبلغ لن يتمكن من اجابتنا على اسئلتنا قبل موعد عرض الفيلم. فلما قلنا له اننا نمثل مجلة عربية، ولا ندفع عادة ثمن المقابلات، ابتسم وقال: "اذن اعطيكم بالمجان جوابين لسؤالين لا غير" فسألناه: لماذا حققت فيلما عن مالكوم اكس في هذا الوقت بالذات؟ فأجاب: - "لأن عدد السود الاميركيين - بل وبعض البيض الاميركيين - الذين يعتنقون الاسلام في ايامنا هذه يتزايد بشكل بات يحتم علينا ان نهتم بالظاهرة، وان نعود الى حياة وسيرة ذاك الذي كان قدوة... كما يحتم علينا ان نذكر بان مالكوم اكس لم يجد في الاسلام دينا يحض على العنف، بل على الاخوة والنضال الهادئ وكانت احداث لوس انجليس طازجة يوم التقينا في كان بالمخرج الاميركي الاسود... فمالكوم اكس كان من اوائل الذين حاولوا في اميركا ان يجمعوا بين اعتناق الاسلام وبين النضال الهادئ في سبيل استعادة السود لكرامتهم…". وسألناه: كيف تتوقع استقبال المتفرجين العرب والمسلمين خارج اميركا لفيلمك؟ أجاب: - "استقبالاً رائعاً دون شك... لأن مالكوم اكس عرف العالم العربي والاسلامي، ودافع عن القضايا العربية والاسلامية داخل الولاياتالمتحدة بافضل مما فعل اي زعيم آخر...". سؤال آخر يا سيد سبايك لي... فقطع صاحب "افعل الشيء المناسب" كلامنا وقال: "ان تابعتم سيتوجب عليكم دفع الفي دولار..." ثم ابتسم ابتسامته العريضة وتابع سيره بقامته الصغيرة وعلى رأسه قبعته التي لم نتنبه في ذلك الحين تماماً الى انها تحمل علامة "اكس" على مقدمتها...