الى أين تذهب الجزائر؟ هل بدأت تتلمس خيوط الخروج من نفق الازمة الاقتصادية المتمثلة بالديون الخارجية والبطالة وضعف الانتاجية؟ وهل وجدت الطريق لتحقيق الامن الداخلي والاستقرار الاجتماعي؟ وهل الاصلاحات الاقتصادية والمبادرات السياسية والاجتماعية للرئيس علي كافي ورئيس الحكومة بلعيد عبدالسلام أخذت تقرّب الجزائر من تحقيق الهدفين الرئيسيين التاليين: الامن والاستقرار من جهة والخروج من الازمة الاقتصادية من جهة ثانية؟ هذه التساؤلات وغيرها مطروحة بقوة في الجزائر بالطبع، ولكن كذلك خارجها، في الدول المغاربية بالدرجة الاولى التي تشارك الجزائر في الاتحاد المغاربي الذي يبدو أنه جمّد نشاطاته بانتظار ان ينجلي الوضع الجزائري والوضع الليبي. والتساؤلات مطروحة ايضاً في العالم العربي حيث يتخوف عدد من دوله من قوة الحركات الاصولية الاسلامية. وبالطبع، فان الوضع الجزائري يشغل الدول الاوروبية المطلة على المتوسط، وثلاثاً منها على وجه الخصوص هي فرنسا، ايطاليا، واسبانيا. وكان هذا الانشغال بادياً خلال الحلقة الدراسية التي عقدها وزيرا خارجية فرنسا واسبانيا بمشاركة سفراء الدولتين في الدول المغاربية كلها، في مدينة سلافكا الاسبانية في اواخر ايلول سبتمبر الماضي. وبعيداً عن الدول، فان المؤسسات المالية الدولية مهتمة بالوضع الجزائري، وبشكل خاص بقدرة الجزائر على الوفاء بالتزاماتها المالية والاستمرار في تسديد ديونها الخارجية التي تفوق الثلاثين مليار دولار ديون مدنية وعسكرية. يقول محسن التومي، مدير المكتب الدولي للدراسات المالية والاقتصادية في باريس، ان السياسة الاقتصادية التي تقوم بتنفيذها الحكومة الجزائرية تنهض على دعامتين اثنتين: التقشف والاستمرار في الانتقال بالجزائر الى اقتصاد السوق. غير ان ازمة الجزائر هي ان الاصلاحات الاقتصادية تتم في ظروف سياسية واجتماعية بالغة الصعوبة. ذلك ان الجزائر، كما يقول محسن التومي، "تعاني اجتماعياً وسياسياً من فقدان الثقة، ان بالدولة او بسياساتها. والجزائريون يعيشون حالة من الاشمئزاز الحياتي، فالافق مسدود والشباب يفتقد لمثال يشده اليه، في حين ان الدولة الجزائرية تعاني من الهلهلة". ويترافق هذا الوضع مع استمرار العنف السياسي والعمليات الارهابية التي تردّ عليها السلطات الجزائرية بتعزيز التدابير الامنية واعادة تشكيل المحاكم الخاصة التي تم الغاؤها في العام 1989. في ظل هذه الاجواء، يتم تنفيذ خطة الاصلاح الاقتصادي التي عرضها رئيس الحكومة بلعيد عبدالسلام، ويمثل التقشف وجهها الابرز. ويعتقد محسن التومي ان التقشف يمكن اعتباره كرد على حالة الحرب، او بالاحرى حالة الطوارئ الاقتصادية التي تعرفها الجزائر المتمثلة بتفكك البنى الاقتصادية وتراجع الانتاجية وضعف التوظيف والاستثمار والديون، وبكلام آخر، يمكن اعتبار سياسة التقشف جواباً على الانهيار الاقتصادي للجزائر، غير ان لهذه السياسة ثمناً اجتماعياً ومخاطر اقتصادية. فهل الجزائر مستعدة لركوب هذه المخاطر ودفع هذا الثمن؟ يلاحظ محسن التومي انه من الضروري ان تشمل سياسة التقشف الاقتصادي، حتى تكون ناجعة، تجميد الاسعار وكذلك تجميد الاجور. والحال ان الاسعار في الجزائر تستمر في الارتفاع في حين ان التجميد العملي للاجور يتم في ظل تراجع قيمة الدينار الجزائري إزاء العملات الصعبة وفي ظل استمرار التضخم. وهذا يعني تهافت القوة الشرائية للجزائريين وتدهور مستوياتهم المعيشية بشكل دائم خصوصاً للطبقات الدنيا منهم. وكل ذلك يتداخل مع فقدان عدد من السلع الاستهلاكية وارتباك التوزيع ونقص في التموين، ورفع الدعم عن عدد من المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية الاساسية. والخلاصة التي يصل اليها محسن التومي ان لسياسة التقشف الاقتصادي "ثمناً اجتماعياً مرتفعاً ليس من المؤكد، على ضوء الوضع الاجتماعي والسياسي القائم، ان الجزائر قادرة على تحمله". ويذكر، في هذا المجال، بالاحداث التي جرت عام 1988 والتي انطلقت بسب فقدان السلع الاساسية وتردي الحالة الاقتصادية العامة. وما يزيد من خطورة هذا الوضع، كما يلاحظ الخبير الاقتصادي المذكور، ان التدابير الحكومية يجري تنفيذها في جوّ من "انعدام الثقة" بين الدولة والشعب. فاذا كان الرئيس علي كافي اعلن ان "الحلول الجذرية للازمة الاقتصادية الجزائرية يجب ان تمر بسياسة تقشف قاسية تتحملها بالتساوي كل شرائح الشعب"، الا انه ليس من الممكن القول ان هذه السياسة تطأ بثقلها بالتساوي على هذه الشرائح. التحفظ الآخر على سياسة التقشف لا يتناول مبدأها ولكن مدة العمل بها. ذلك انه من المفروغ منه ان نجاح سياسة التقشف يفترض وجود عاملين اثنين: عامل الثقة بالاشخاص الذين يرسمون هذه السياسة ويتولون تنفيذها. والعامل الثاني ان تكون هذه السياسة محدودة في الزمن بحيث لا يطلب من الشعب ان يقدم التضحيات الى ما لا نهاية. والحال ان اي مسؤول في الجزائر ليس قادراً على تحديد مدة تطبيق سياسة التقشف الاقتصادي اذ ان وقف العمل بها يعني بداية خروج الجزائر من ازمتها الاقتصادية. لكن الوصول الى هذا الهدف ليس واضحاً بتاتاً ذلك ان بعض عوامله يتخطى الجزائر ويرتبط بمعطيات خارجية مثل اسعار النفط واسعار المواد الاولية وصحة الاقتصاد العالمي وموقف المؤسسات الدائنة من الجزائر والوضع الاقليمي. والخلاصة ان لسياسة التقشف ثمناً كبيراً وهي لا يمكن ان تؤتي ثمارها الا في ظروف من الاستقرار الامني والاجتماعي والاجماع الوطني حول ضرورتها ومدتها وكيفية العمل بها، وهذه الشروط كلها غير متوافرة في الجزائر. متحف صناعي ولا تتوقف مخاطر سياسة التقشف عند افتقار الشعب والانفجار الاجتماعي. الخطر، كما يقول محسن التومي، قائم في انغلاق الجزائر على نفسها. والحال انه في المعطى الاقتصادي الدولي، لا يمكن لأي بلد ان يعزل نفسه عن الدورة الاقتصادية العالمية، خصوصاً اذا كانت الزعامة الاخرى لسياسة تحرير الاقتصاد والدخول في اقتصاد السوق تستهدف تحديداً الدخول في هذه الدورة. وهكذا فان ثمة تناقض بين تحرير الاقتصاد وبين سياسة التقشف والحد من الاستيراد بقانون. وخطر سياسة التقشف، التي تعني الحد من الاستيراد انها ستنعكس سلباً على الصناعة الجزائرية. واذا كان صحيحاً ان رئيس الحكومة في البرنامج الاقتصادي الذي اعلنه اكد "اولوية توفير العملات اللازمة للصناعات ذات الاهمية الاستراتيجية"، بما يعني استمرار هذه الصناعات في شراء ما تحتاج اليه من خبرة ومعدات ومواد اولية في الخارج، الا ان الخطر كبير من ان تكون الصناعة الجزائرية في صدد دفع ثمن سياسة التقشف. يقول جان بيار سيريني، رئيس تحرير مجلة "لو نوفيل ايكونوميست" الفرنسية والمطلع على الشؤون الجزائرية ان الصناعة الجزائرية آخذة في التحول الى "متحف صناعي". ويشرح جان بيار سيريني حكمه بالتذكير بان "التوظيف في الصناعة الجزائرية توقف عند المستوى الذي كان عليه عام 1985". فبالاضافة الى الانتاجية الضعيفة لهذه الصناعة التي لا تتعدى، بشكل عام، 30 في المئة من قدرتها، فانها ستكون في منتصف هذا العقد متأخرة كثيراً عن الصناعات المشابهة في الدول الاخرى. فالتكنولوجيا الصناعية تطورت كثيراً منذ العام 1985، من غير ان تتوفر مقومات هذه التكنولوجيا للصناعة الجزائرية. وفي رأي الخبير المذكور ان على الصناعة الجزائرية، التي لم تكن خاضعة في يوم من الايام للقوانين السائدة في الصناعات، ان تأخذ بالاعتبار كلفة السلعة المصنعة والسوق المفتوحة امام تصريفها، باعتبار ان الجزائر كانت تريد تحقيق نهضتها الصناعية بغض النظر عن الكلفة والمردود، هذه الصناعة ستعاني اكثر فأكثر من مشكلة الانتاجية والمردود وستطرح مسألة استمرارها وفائدتها. الصناعة الجزائرية اصابتها الصدمة النفطية المعاكسة عام 1985 - 1986 في الصميم بسبب صعوبة توفير الاموال اللازمة لتطويرها. وصدمتها الثانية تتمثل في أزمة المديونية التي تخنق الاقتصاد الجزائري وتحرمه من توفير الاموال اللازمة لحقنها في الصناعة وتوفير التكنولوجيا الجديدة وقطع الغيار والاستهلاك المرحلي والمواد الاولية وتحديث بناها وكل مايشكل الاساس المادي لقيام هذه الصناعة. ويعترف تقرير رسمي بان الانتاج الصناعي عام 1991 انخفض قياساً لما كان عليه عام 1984 بنسبة 5،5 في المئة. غير ان قراءة متأنية لهذا التقرير تظهر ان الانخفاض بلغ في قطاع الصناعات الفولاذية والمعدنية، والميكانيكية والكهربائية نسبة 68 في المئة قياساً الى العام نفسه. والحال ان هذه الصناعات تشكل، من حيث الحجم، ثلث الانتاج، ومن حيث التشغيل، ثلثي فرص العمل في القطاع الصناعي. القنبلة السكانية ان المشكلة مع الصناعة الجزائرية هي انه كان يعول عليها، الى جانب النفط والغاز، لاخراج الجزائر من التخلف والدخول في العصر الصناعي. وكان على الصناعة، بسبب اعتناق نظرية "الصناعة المصنعة" ان تستوعب اليد العاملة التي تصل الى سوق العمل سنوياً. والحال ان وضع الصناعة حالياً، والاصلاحات المنتظرة بشأنها، لم تعد تلعب هذا الدور. يقول جان بيار سيريني ان 700 الف شخص يصلون الى سوق العمل في الجزائر سنوياً، نصفهم من الشبان والنصف الآخر من الشابات. واذا وضعنا جانباً النصف الثاني، يتبين ان على الاقتصاد الجزائري ان يوجد سنوياً 350 ألف فرصة عمل حتى لا تتضخم صفوف البطالة. والحال ان الاقتصاد الجزائري، في اوجه، لم يكن يتوصل الى ايجاد اكثر من 200 الف فرصة عمل في السنة. اما في الوقت الحاضر فانه عاجز عن تخطي سقف 05 الف فرصة عمل سنوياً، بما يعني ان 250 الف شاب جزائري سينضمون سنوياً الى قوافل العاطلين عن العمل. غير ان هذا الرقم سيرتفع في السنوات المقبلة بسبب الزيادة السكانية، بحيث سيصل بعد خمس سنوات الى 450 الف عاطل عن العمل، هذا اذا لم تتحسن صحة الاقتصاد الجزائري. اضف الى ذلك ان سياسة الاصلاح واعادة الهيكلة الاقتصادية والانتقال الى العمل بقاعدة العرض والطلب تعني التخلص من البطالة المقنعة والتخلص من المؤسسات الصناعية وغير الصناعية غير المنتجة الامر الذي يستوجب التسريح الفعلي، اي رمي اعداد اضافية في سوق البطالة. هكذا تبدو بعض نتائج سياسة التقشف والانتقال الى اقتصاد السوق في الجزائر. واذا كانت هذه السياسة هي الوحيدة التي يمكن انتهاجها، في نظر المسؤولين الجزائريين، إلا أنها تحمل بذور بلبلة اجتماعية كبرى واختلال توازن رئيسي في بنية المجتمع الجزائري الذي يقول عنه جان - بيار سيريني أن واحداً فقط من بين خمسة من افراده يشتغل حقيقة. وربما ان الصراع المستمر سياسياً وأمنياً في الجزائر يحجب في الوقت الحاضر هذه المشكلة لانه يسلط الضوء على أعمال الارهاب والعنف السياسي والقمع الذي يرافقهما. وربما تكون مسألة المديونية، بسبب اهميتها، استحوذت على ما تبقى من اهتمام. ولكن يجب الا تغيب عن الذهن ثلاث ظواهر رئيسية: اولاها ان الاقتصاد الجزائري اصبح غير منتج وغير قادر على توفير الفائض الضروري لتطوره ونموّه، والثانية ان الزراعة الجزائرية في حالة سيئة جداً، اذ أنها لا تسد سوى ربع حاجيات السكان بحيث تضطر الجزائر الى استنفاد مدخراتها لشراء ما تحتاجه في الخارج بالعملة الصعبة. الظاهرة الثالثة ان الجزائر تبدد عائداتها من صادرات الغاز والبترول لدفع فوائد ومستحقات ديونها الخارجية من جهة وشراء حاجيات الاستهلاك المباشر من جهة اخرى، بحيث لا تستطيع توفير ما يلزم لتمويل الاصلاحات وتنشيط الدورة الاقتصادية. واذا كانت السلطات الجزائرية حريصة، في سعيها لانجاح تحرر الاقتصاد، على جذب رؤوس الاموال الاجنبية، الا ان عليها بداية ان تنجح في وقف خروج رؤوس الاموال الجزائرية من الجزائر نفسها. ولا يمكن تحقيق هذه الاهداف الا بالسيطرة على الوضع الامني وتنفيس الاحتقان وتحقيق السلم الاجتماعي والسيطرة على التضخم وسن التشريعات اللازمة التي تطمئن اصحاب الرساميل في الداخل للبقاء في الجزائر وتشجع اصحاب الرساميل في الخارج على المغامرة والتوظيف في الجزائر. ويربط محسن التومي، الذي يرى ان لا حظّ للجزائر في التغلب على أزمتها والخروج من دائرة الخطر في ظل الظروف القائمة حالياً، تحسن الوضع الاجتماعي بتحسن الوضع الاقتصادي وبتحسن الوضع الامني، في ما يبدو انه شبيه بحلقة مفرغة، والحال ان الوضع الامني والسياسي في الجزائر، على رغم قوانين الاستثناء وحل جبهة الانقاذ ومحاكمة رؤسائها ومطاردة الناشطين منها، هذا الوضع ما زال متدهوراً وغارقاً في دوامة من العنف المتبادل الذي لن تضع حداً له المحاكم الخاصة الجديدة التي كانت الغيت عام 1989. وبالمقابل، فان دعوة الرئيس علي كافي للتحاور مع "القوى الحية" في المجتمع الجزائري لم ينتج عنها بعد اي شيء ايجابي، باستثناء التصريحات. وما تحتاجه الجزائر اليوم هو مشروع وطني يلتزم به الجميع. الا انه يبدو ان القطيعة بين السلطة من جهة وجبهة الانقاذ من جهة ثانية اصبحت نهائية وان الذين اعتقدوا بعد اغتيال الرئيس محمد بو ضياف ان الطاقم السياسي الجديد في الجزائر سيفتح باب الحوار مع كل القوى المتواجدة في الجزائر خسروا رهانهم. الجزائر تعيش حالة حرب داخلية حقيقية. والوضع الجزائري كله يبدو رهينة هذه الحرب الداخلية. والاصلاحات الاقتصادية، كغيرها من جوانب الحياة الجزائرية، تنتظر هي الاخرى ان يحسم مصير هذه الحرب.