} في التاسع عشر من الشهر الجاري عقد المفوض الاوروبي للعلاقات الخارجية كريس باتن مؤتمراً صحافياً في مقر وزارة الخارجية المغربية في الرباط رسم من خلاله التصور الحالي لوضعية الشراكة اليورو متوسطية، خصوصاً تلك المرتبطة بالدول العربية، داعياً الى الاسراع في المصادقة على الاتفاقات المتأخرة او المتعثرة. وصف باتن المغرب وتونس اللذين سبقا الجميع بالتوقيع والتنفيذ ب"الرائعين" في الشراكة مع الاتحاد الاوروبي، وحسم المسألة بالنسبة الى الاردن الذي سيدخل اتفاقه حيز التنفيذ قريباً ومصر التي وقعت الاتفاق في 25 حزيران/يونيو، واشار الى ان هدف المجموعة يكمن في انهاء المفاوضات مع الجزائر ولبنان الذي تقدمت المفاوضات معه بشكل كبير في الشهرين الماضيين. الا ان باتن تحدث خلال احدى الجلسات المغلقة عن صعوبات وتعقيدات يمكن ان تحول دون التوقيع مع الجزائر هذه السنة، ليس فقط بسبب تطور الاحداث سياسياً وامنياً فيها، بل بسبب الشروط والشروط المضادة التي يضعها الجانبان في مجالي الهجرة والاقتصاد. من هنا يطرح السؤال التالي: هل دخلت المفاوضات بين الاتحاد الاوروبي والجزائر مرحلتها النهائية من الناحيتين التقنية والاقتصادية؟ جميع المعطيات المتوافرة حتى الآن في هذا الشأن لا تسمح بتأكيد ذلك، خصوصاً بعد الجولة الاخيرة التي عقدت في بروكسيل في شباط فبراير الماضي. وتجدر الاشارة الى ان وتيرة المفاوضات تسارعت نسبياً بعد الجهود الذي بذلها باتن، ملتزماً بذلك مقررات وتوجهات قمة مرسيليا اليورو متوسطية التي انعقدت في تشرين الثاني نوفمبر 2000 وشاركت فيها الجزائر بشكل ملفت بعد مقاطعات. ومع ذلك بقي التردد الجزائري على حاله في حين لم يتراجع الاوروبيون عن مواقفهم والمقاييس التي سبق ان حددوها قيد انملة لكون الجزائر اشترطت الحصول على معاملة مختلفة عن شركاء جنوب المتوسط الآخرين، تأخذ في الاعتبار بشكل اوسع مصالحها ووزنها الاقتصادي والجيوسياسي في منطقة شمال افريقيا وحوض البحر الابيض المتوسط. ودفع مرور المفاوضات في تجاذبات من هذا النوع الجزائريين الى الاهتمام ب"مبادرة ايزنستات" للشراكة الاميركية المغاربية، وارسال بعض "السوبر وزراء" مثل وزيري التخصيص والطاقة الى واشنطن للتفاوض مع القيمين على المشروع. ولعبت الجزائر ايضاً دوراً في الدعوة الى وضع استراتيجية مغاربية موحدة تجاه مستقبل التعامل مع المبادرة. وبدا ذلك واضحاً خلال الاجتماعات التي عقدها مسؤولون جزائريون مع الاميركيين على هامش انعقاد اجتماعات البنك وصندوق النقد الدوليين قبل نحو ثلاثة اشهر، ما اثار حفيظة الاوروبيين ودفعهم الى اعادة فتح الحوار بأي ثمن مع الجزائر تمهيداً لايجاد ارضية مشتركة للتفاهم وتدوير زوايا الخلافات ما امكن. لكن تفجّر الاوضاع في منطقة القبائل وبروز مواقف اوروبية منتقدة للسلطة الجزائرية وردود فعل هذه الاخيرة عليها، يتوقع ان تعيد وتيرة المفاوضات الى وراء على رغم النيات الطيبة المتوافرة لدى الجانبين والتي ظهرت خلال المناقشات في الاشهر الاخيرة سواء في بروكسيل او في العاصمة الجزائرية. وضع المفاوضات منذ عام 2000 تضاعفت جولات المفاوضات التي سبق وعلقتها الجزائر في 1997 بين الوفود الجزائرية ونظيراتها الاوروبية، واضعة جانباً منذ البداية التباينات التي كانت سبباً رئيسياً في تعطيلها. ويبدو أن الملفات السياسية والاخرى المتعلقة بالقضاء والشؤون الداخلية هي التي حققت تقدماً وباتت شبه منتهية بحسب باتن. وأفضت المناقشات، من دون حدوث مفاجآت او منازعات تذكر، الى الاتفاق على التعاون في مجال مكافحة الارهاب. هذا الطلب الجزائري الملح الذي اثار حذراً شديداً في اوساط الاوروبيين وأحرجهم كونه يستهدف اتخاذ اجراءات عملية وفورية بحق معارضين سياسيين يقيمون في بلدان الاتحاد ويحملون اقامات شرعية واذونات عمل، ناهيك عن الخشية من الانزلاق في مطبات النزاعات الداخلية الحاصلة في الجزائر. ولم يكن ملف الهجرة اقل حساسية لدى الجانبين نظراً الى اتخاذه ابعاداً انسانية خطيرة خصوصاً بعد تدفق قوارب الموت من الضفة الجنوبية للمتوسط، وتحديداً من دول المغرب العربي. وفي هذا الاطار اشترطت اوروبا على شركائها المتوسطيين ومن بينهم المحتملون مثل الجزائر ليس وضع خطة لاعادة استقبال رعاياهم المغتربين في اوروبا تدريجاً فحسب، بل ايضاً جميع الاجانب والمهاجرين الباحثين عن عمل والذين دخلوا منطقة "شينغين" بصورة غير شرعية عبر حدود اولئك الشركاء، وهو شرط رفضه الجزائريون بشدة وطلبوا من الاوروبيين وضع هذا الملف في آخر جدول اعمال المفاوضات منعاً لزيادة تعقيداتها. من جهة اخرى تشدد الجزائر بشكل خاص على ضرورة انفتاح اوروبا بصورة اوسع على هجرة اليد العاملة غير المتخصصة، وتخفيف الاجراءات المرتبطة بانتقال الاشخاص. وهذا نقاش ابعد من ان يحسم في المدى القريب داخل دول الاتحاد الاوروبي بسبب غياب خطة موحدة ومتكاملة ازاء هذا الموضوع. ففي حين تبدي كل من فرنسا وايطاليا واسبانيا والبرتغال مرونة حيال هذه المسألة تقوم كل من هولندا والمانيا وبريطانيا بتصليب مواقف الاعضاء الآخرين. بمعنى ان هنالك "اوروبات" وليس اوروبا واحدة يمكن التعاطي معها. وهذا ما يدركه المفاوضون الجزائريون الذين اكتشفوا ذلك مع تقدم المناقشات. واذا كانت ملفات السياسة والامن والهجرة استحوذت على حصة الاسد من هذه المفاوضات، الا ان الملفات الاقتصادية لم تعالج حتى الآن بالاهتمام نفسه، على رغم انها في صلب مفاوضات الشراكة اليورو متوسطية. وفي هذا السياق، يمكن القول انه اذا لم تشكل الشروط الشاملة للتعاون الفني والصناعي عقبات جدية، فان الامر لن يكون نفسه عندما تبدأ مناقشات النقطة المركزية العائدة لمناطق التجارة الحرة، لان ذلك سيتطلب من الجزائر ان تعمد الى رفع قيودها الضرائبية التي ستكلفها غالياً لجهة المداخيل الجمركية بعد دخول البضائع المصنّعة الاوروبية الاكثر قدرة على التنافس وانتزاع الحصص من السوق المحلية نظراً الى ضعف مواجهة المنتجات الجزائرية لجهة معادلة الجودة والقيمة، ما سيؤدي من دون شك الى اغلاق عدد من الشركات الوطنية الكبيرة والمتوسطة الحجم. وبناء علىه، ستستمر الجزائر في المطالبة ب"معاملة خاصة" خصوصاً في مجال تطبيق مبدأ رفع القيود الجمركية وفي عملية اصلاح بنيات مبادلاتها مع اوروبا. ففي حين ان 95 في المئة من صادراتها مؤلفة من الهيدروكربورات التي تدخل السوق الاوروبية حتى الآن من دون رسوم جمركية، شأنها في ذلك شأن مجمل المنتجات الصناعية المتوسطية، فان الجزائر ستجد نفسها مضطرة على غرار بقية دول المنطقة الى رفع قيودها الجمركية على البضائع المصنعة بشكل احادي الجانب، ما حدا ببعض الدول، كلبنان، الى المطالبة بتعويضات مالية عن الخسائر التي ستنجم عن فقدان المداخيل من الجمارك. فالخطر من المضاربة الاوروبية من شأنه ان يضعف الصناعات النامية في قطاعات تشهد تطوراً ملحوظاً منذ سنوات. وقطاع صناعة الادوية هو المثال الابرز خصوصاً انه محمي من السلطات المختصة. والسماح بالمضاربة في ميدان كهذا سيؤثر سلباً في عدد من المنتجات الاستهلاكية المصنعة محلياً. وخلافاً للجارين المغربي والتونسي، فان الجزائر لم تعمل على بناء صناعة صلبة خارج اطار قطاع الهيدروكربورات. لذا، فان فتح الحدود امام المنتجات الاوروبية من خلال رفع القيود الجمركية عنها سيحدث اختلالاً في النسيج الصناعي الجزائري الذي يعاني من صعوبات ذاتية وموضوعية تتعلق سواء بقوانين استيراد المواد الاولية من جهة، او بالاجراءات الادارية المعقدة التي تمسك بزمامها بيروقراطية متجذرة غير قادرة على مواكبة روح العصر وقواعد اقتصاد السوق. من هنا يأتي تردد، بل تخوف، المفاوضين الجزائريين من تسريع توقيع اتفاق الشراكة مع الاتحاد الاوروبي قبل انتزاع تنازلات ومكاسب اضافية تخفف من حجم الانعكاسات السلبية المتوقعة. عقبات سياسية واقتصادية داخلية وللاستفادة كلياً من الدينامية التي تخلقها اتفاقات الشراكة يتوجب على الجزائر ان تضطلع بسلسلة من الاصلاحات الاقتصادية تسمح لنسيجها الصناعي باستغلال حسناته او ايجاد ايجابيات جديدة. وهو امر لا غنى عنه، شأنه في ذلك شأن المساعدة المالية الاوروبية التي لها دوران رئيسيان: الأول، دعم تحسين مستوى المؤسسات والاقتصادات عموماً. وثانياً، انشاء منطقة للتبادل الحر. وتحاول اوروبا عبر الشق الثاني تخفيف حدة الآثار التي تهدد استقرار هذه الاقتصادات. ويرى الخبراء أن الالتزام بتحقيق منطقة للتبادل الحر التي لا بد من ان تمر بقناة الاصلاحات وتحرير التجارة والعملات يجب ان تتوج باتفاق يضع اطراً عملية لوتيرة رفع القيود الجمركية، وكذلك بالنسبة الى برامج التعاون، والا فان المبالغ المخصصة من قبل الاتحاد الاوروبي ستبقى متواضعة اذا ما قورنت بتلك التي اعطيت لبلدان مثل المغرب وتونس، اللذين ازالا تدريجاً حواجزهما الجمركية. ومن الواضح التزام الجزائر حيال اوروبا وارادتها بالتوصل الى توقيع اتفاق للشراكة، وهو امر يترجم ارادة السلطات الجزائرية في ان تكون جزءاً لا يتجزأ من عملية سجل فيها الجاران التونسي والمغربي تقدماً. كما ان الرغبة في دخول منظومة الاممالمتحدة بعد اعوام من الجمود الناجم عن الحرب الاهلية تلعب دوراً اساسياً في تحرك الجزائر. غير ان التعقيدات السياسية والاقتصادية تتكامل مع بعضها بعضاً لتخلق صعوبات تمنع حتى الآن انهاء الاتفاق. وعلى رغم النيات الحسنة التي ترددها الحكومة الجزائرية فان الاصلاحات الاقتصادية تواجه مقاومة داخلية قوية، منعت الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة من اطلاق مشروعه الاقتصادي الاجتماعي الذي اعلن عنه عشية احداث القبائل. وتأتي هذه المعارضة في المرتبة الاولى من موظفي القطاع العام الذين خضعوا لاختبار قاس نتيجة هيكلة الاقتصاد والازمات الاجتماعية المتتالية. ويضاف الى ذلك، دخول نحو 200 الف شخص سنوياً سوق عمل منهكة وشبه منهارة يصل معدل البطالة الى 30 في المئة بين 60 في المئة من الشباب. وتأتي المقاومة ايضاً من جهاز الدولة نفسه ومن "اتباعه" اذ تكون في الواقع العديد من الثروات الضخمة بحماية السلطة كإعطاء تراخيص لاحتكارات الشراء او التوزيع. لذا فهي غير مستعدة اليوم للتنازل بسهولة عن امتيازاتها هذه لصالح ما يسمى بالشفافية والتنافسية. وباختصار، فإن البحث عن "المردود الريعي" الذي يجمع بين المنتفعين والحماية المتوافرة للمتنافسين المحتملين، مسألة لا تزال تغذي الدوائر الاقتصادية على حساب المبادرة الفردية الخاصة. وعززت العائدات الريعية المرتفعة من النفط والغاز في السنتين الماضيتين، السياسة الانتظارية في مجال الاصلاحات. اذ ان هذه الطفرة المالية، ولو انها موقتة، جنبت الحكومة الجزائرية اللجوء الى الاقتراض الخارجي، واجّلت الاستحقاقات الاساسية ، كالاصلاحات الصعبة. فتكدس الاحتياطات من العملات الاجنبية لا يمكن على الاطلاق ان يكون حافزاً لتسريع المفاوضات مع الاتحاد الاوروبي. وأخيراً ان الاصلاحات الاقتصادية، المؤلمة احياناً، تبقى بحاجة للحد الادنى من مساهمة الشعب. لكن اذا كان البعض من ضمن الطبقة القيادية ينظر بغير عين الرضا الى الانفتاح الاقتصادي الذي ستنتج عنه خسائر مؤكدة وارباح مشكوك فيها، فإن الدولة نفسها ستكون في الاساس غير شرعية بنظر المواطن. اليوم، وبعد اندلاع احداث القبائل وامتداداتها الى مناطق عدة يمكن ان تشمل مناطق النفط والغاز كما حصل منذ اسبوعين في ولاية "أليزي" القريبة من الحدود الليبية، بات اكثر من الممكن ان تعزز هذه الآفاق التشاؤمية السياسة الانتظارية والجمود اللذين سيؤخران حتماً توقيع اتفاقية الشراكة بين الجزائر والاتحاد الاوروبي. * اقتصادي لبناني.