ستحضر الرواية البوليسية من جديد في اللغة العربية عبر سلسلة تصدرها دار رياض الريس للنشر وتضم ترجمات لأشهر هذا النوع من الرواية، وخصوصاً أعمال أغاتا كريستي. الرواية البوليسية عندنا، مرة جديدة، لتواكب الحضور المتنامي للرواية العربية المحلية وتلبي حاجة القراء المتزايدة الى رواية شعبية قائمة على الحبكة وعلى اللغة السهلة. وفي ما قبل، كانت الرواية البوليسية المترجمة واحداً من العناصر التي وسّعت قاعدة قراء القصة والرواية في العالم العربي، ظهرت أول ما ظهرت في مسلسلات قصصية اعتادت نشرها المجلات والصحف العربية في ثلاثينات وأربعينات هذا القرن، ثم طبعت في كتب شعبية مستقلة، وكان اشهرها في لبنان روايات الفرنسي موريس لوبلان عن مغامرات بطله التحرّي ارسين لوبين، وفي مصر اشتهرت اعمال أغاتا كريستي، فاجتمعت الرواية البوليسية الفرنسية والانكليزية معاً باللغة العربية، وبأسلوب شعبي ترجمةً ونشراً. ما يهمنا هو الرواية العربية وتوسّع قاعدة قرائها، فهذا التوسع يهدده الطابع التجريبي في النشر الابداعي عندنا على مستوى الرواية والشعر والنص المفتوح، تجريبية عربية ذات صياغات صعبة على مستوى لغة الكتابة وتركيبة العمل الفني. ربما كان للنص التجريبي مبرره في تطور الكاتب نفسه وفي تعقّد ايقاعات الحياة المعاصرة التي لا يعبر عنها الايقاع البسيط، لكن هذا النص العربي يبدو مولوداً من الصفر، في حين ان مثيله الاوروبي يبدو تطوراً منطقياً لجهود روائية أرست تقاليد في الكتابة وفي القراءة لتصل الى ما هي عليه الآن. ويتساءل المراقب: كيف يمكن لقارئ عربي لم يعرف الرواية الواقعية ولم يعتمدها كتسلية له في اوقات الفراغ، ان يتذوق اعمالاً تجريبية لالياس خوري او لادوار الخراط وغيرهما من طليعيي الرواية العربية الحديثة؟ ألا تبدو الرواية العربية التجريبية والطليعية في حاجة الى روايات واقعية تمهد لها وتتوازى معها في الصدور، ليتطور القارئ بالقدر الذي تطوّر فيه الكاتب، وليكون أمام القارئ العربي ان يختار الرواية التي يرغب، من بين روايات واقعية وتجريبية يفترض حضورها معاً في واجهات المكتبات العربية؟ هكذا يبدو ضرورياً استمرار سلسلة "روايات الهلال" الشهرية في مصر التي تقدم روايات عربية مصرية غالباً ذات مستوى فني متنوع. كما يبدو ضرورياً أيضاً حضور الرواية الواقعية القليل الذي نلحظه في البلاد العربية ولا يحظى بعناية النقّاد واهتمامهم، ولا تهتم به وسائل الاعلام المختلفة. ان واقع الرواية العربية حالياً يبدو ملتبساً لجهة علاقتها بالقارئ: فالرواية الواقعية التي يمكن للقارئ العادي ان يتذوقها لا تصل اليه ولا يهتم النقد ولا الاعلام ولا شركات توزيع المطبوعات بإيصالها، اما الرواية التجريبية او الطليعية التي تحظى بعناية النقد والاعلام وتوضع في متناول القارئ فلا يتذوقها هذا القارئ ويقتصر تداولها على مجموعة ضيقة من المثقفين: ثلاثمئة نسخة أو ألف على الاكثر في عالمنا العربي الواسع! وحين نقول "الرواية العربية الواقعية" نتحدث عن شيء نادر هذه الأيام، فالروائي العربي يكون تجريبياً او طليعياً او لا يكون، وهذا هو مأزق حضور الرواية حالياً في أدبنا العربي. ويبدو ان الحال كانت "صحية" أكثر في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، ففضلاً عمّا ذكرنا من عناية المجلات والصحف بالرواية المسلسلة، كانت هناك نشاطات شجعت الرواية العربية الشعبية، أبرزها المجلات الخاصة بالقصة: "القصة" في مصر، و"الليالي" و"الف ليلة وليلة" في لبنان، ومنها الخلاصات الروائية التي كان ينشرها المصري حلمي مراد في مجلته الشهرية "كتابي"، وسلاسل الرواية التي اهتم بنشرها غير ناشر في مصر والعالم العربي. وكان قبل ذلك رواد مثل طانيوس عبده احترفوا ترجمة روايات شعبية فرنسية بتصرف، كما كان هناك ادباء منشئون اقتبسوا روايات رومنطيقية وصاغوها بقالب عربي ساحر فانتشرت كالخبز في اوساط القرّاء: أعمال مصطفى لطفي المنفلوطي وأحمد حسن الزيات. واليوم، ليس أمام الشباب العربي روايات مسلية تجذبه وتعوده القراءة وتهيئ منه قارئاً موعوداً للرواية التجريبية او الطليعية، فليس في المكتبة العربية ذلك النوع من القصص السهلة المشوقة التي تجذب القارئ الشاب وتثير خياله وتهز عواطفه وترسم في عقله عوالم تتعدى محيطه الضيق. وعلى صعيد آخر، ربما كان الضعف الحالي في اللغة العربية لدى عامة القرّاء يرجع الى افتقادهم تلك القصص السهلة التي تجعل اللغة المكتوبة اليفة الوقع وقريبة من الكلام اليومي، فينكسر امام القارئ ذلك الجدار الفاصل بين المكتوب والمحكيّ، بين الكلام والعيش وبين النص والوجدان العفوي. وإذا كانت الصحافة تقوم بشيء من هذا الدور فان الرواية الشعبية صاحبة الدور أساساً لأنها ذات حضور عاطفي أليف لدى القارئ... ولا يلعب التلفزيون أي دور في هذا المجال، لأنه "رؤية" فحسب، والكلام الطالع من هذه "الرؤية" يجري استقباله بكسل ومن دون تواصل وحركة من جانب القارئ - المشاهد. روايات بوليسية باللغة العربية، تنقل أجواء أجنبية، لكنها ايضاً تنقل حبكة درامية وتشويقاً - يجذبان القارئ. وهي خطوة متجددة في "توليد" قارئ عربي للرواية العربية التي يُخشى ان تصل الى مصير الشعر العربي الحديث اذا تمادت في طليعيتها وافتقدت وجود روايات شعبية الى جانبها تجعل من قراءة الرواية عادة يومية وتمريناً للخيال واستئناساً باللغة الحية.