الروائي يكتب لنفسه، يكتب نفسه وينشرها على الناس. ومهما بلغت جهوده أو جهود مساعديه في الأرشفة والتقميش ومراجعة تفاصيل أحداث وشخصيات وبيئات وأمكنة، فهو في النهاية يكتب وحيداً ووحيداً يبني عوالم روايته ويحرك شخصياته، وتبقى نفسه هي المرجع الأول والطاغي على سائر المراجع. لذلك تأتي الرواية على مقياس الروائي، فما هو مقياس الروائي العربي؟ انه متواضع ومحدود اجمالاً، ففي بلاد ترسم للحرية الفردية مساحة ضيقة، لا يمكن الروائي - الفرد أن يعيش تجارب واسعة ومغامرات تسمح له بالاحتكاك ببيئات وعوالم غنية. وبالتالي فهو حين يكتب تبدو الحيوية في المجالات القليلة التي اختبرها، ويبدو التصنيع والتصنع والتقميش في المجالات الكثيرة التي لم يختبرها. روايتنا في حدود السيرة، على رغم أن أي رواية إنما تنطلق من السيرة ثم تتجاوزها الى ما هو أرحب. وقد أرست الرواية العربية في القرن العشرين تقاليد سيروية، فلم "يتجرأ" أصحاب التجارب المغايرة على أن يسردوها في رواياتهم. أليس لافتاً أن يوسف سلامة الذي توفي قبل أيام ليس في نصوصه القصصية أو الروائية أي ذكر لعالم التجارة والمال، هو الذي كان مديراً لبنك أنترا في نيويورك وشهد صعود هذا المصرف وهبوطه المأسوي؟ - تؤول الرواية في العالم الى اثنتين: أدبية وشعبية. الثانية تهدي القرّاء للأولى. فالمعهود أن الرواية الشعبية ناجحة سلفاً، يغلب عليها التشويق فتجذب القرّاء ثم تقدم نخبهم ليقرأوا الرواية الأدبية. تحتفظ الرواية الشعبية بعفوية الحكاية. وهي تشد الانتباه منذ مطلعها، وتحفظ خيط الانتباه هذا في مجرى الرواية كلها. وبلغ انتشار هذا النوع من الرواية حدّ اصدار كتب عن أسرار بنائها وفن البدايات أو المطالع. والرواية الأدبية الأقل انتشاراً هي التجريبية التي تعتمد على مقاربات اسلوبية قد تكون ساحرة ولكن مع مقدار من المتعة قليل غير كاف. لكن الرواية الأدبية الكلاسيكية تحافظ على وجودها الذي يتجدد بين فترة وأخرى. وفي ما يتعدى الحنين الى القرن التاسع عشر يمكن ملاحظة استحضار هذه الرواية في إعادات طبع وفي اقتباس الى الدراما التلفزيونية والسينمائية في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية. - الحكاية واحدة، وفي البدء كانت الحكاية، تتجدد، يتغير ابطالها وتتبدل أماكنها وتتنوع ملابسها اللغوية، لكنها الحكاية واحدة، ومن الوحدة يأتي التفرّع ثم التعدد والاجتهاد. والرواية، من الشفهي الى الكتابيّ حكاية في الدرجة الأولى، فإذا غاب الحكي غابت الرواية وصارت لعبة لغوية. كان دارسو الأدب العربي يصفون عصر المعاجم والموسوعات في تاريخنا بأنه عصر الانحطاط، ومبعث هذا الوصف ندرة الحكاية والبوح الروحي ووفرة الشكل. كان الاحتفاء بالشكل اللغوي علامة محافظة على اللغة لا احتفاء بها، محافظة متأتية من خوف حضاري وانكفاء على الذات. أما الاحتفاء بالحكاية فهو ثقة وفرح بالحياة وانفتاح على مغامرة بلا حدود.