تكشف مجموعة وثائق اميركية رسمية وسرية، تمكنت "الوسط" من الحصول عليها، معلومات دقيقة ومفصلة عن قصة سياسية مثيرة وغريبة شهدتها، ولا تزال تشهد فصولاً منها، منطقة الشرق الاوسط: كيف سعى الرئيس بوش ووزير خارجيته جيمس بيكر الى اقامة علاقات صداقة وتعاون مع العراق وكيف أضاع الرئيس صدام حسين هذه الفرصة وارتكب اخطاء فادحة في تعامله مع الولاياتالمتحدة وتحليله وتقييمه لطبيعة هذا الانفتاح الاميركي عليه وحجمه وأهدافه، وهو ما ساهم بشكل رئيسي في أزمة احتلال الكويت وفي تحويل العراق من بلد كبير ذي ثقل ووزن الى بلد معزول ضعيف مفكك يعاني مصاعب كبيرة على مستويات عدة وتنتظر دول العالم سقوط نظامه لكي تبدأ التعامل معه على أسس جديدة. هذه القصة السياسية المهمة تستحق بلا شك أن تروى، لكننا حرصنا قبل معالجتها على الحصول على مجموعة وثائق سرية صادرة عن ادارة بوش، البعض منها يحمل توقيع جيمس بيكر وزير الخارجية الاميركي حتى شهر آب - اغسطس - الماضي حين انتقل الى البيت الابيض لتسلم ادارة معركة بوش الانتخابية والبعض الآخر يتضمن تعليمات من بوش نفسه، والبعض الثالث عبارة عن مذكرات رسمية تتعلق بالعراق والعلاقات بين بغدادوواشنطن وصادرة عن مسؤولين كبار في الادارة الحالية. هذه الوثائق تحتوي على معلومات ووقائع وتفاصيل لم تنشر من قبل عن العلاقات الاميركية - العراقية، وهي تساعد على فهم ما جرى خلال ازمة احتلال الكويت وما يجري اليوم في العراق والمنطقة. وإذا كان خصوم بوش من الحزب الديموقراطي حاولوا ولا يزالون استغلال قضية التقارب مع العراق لاضعافه في معركته الانتخابية ضد منافسه الرئيسي بيل كلينتون، فان هذه الوثائق الاميركية الرسمية والسرية تثبت، في الواقع، ان الخطأ الكبير في هذا المجال لم يرتكبه بوش او بيكر بل صدام حسين الذي اعتبر ان رغبة الولاياتالمتحدة في اتباع سياسة "اليد الممدودة" تجاهه والتقارب مع بغداد ستدفع الادارة الاميركية الى "التسامح ضمناً" مع غزوه الكويت وتجعلها تمتنع عن القيام بأي عمل فعلي لانهاء احتلال هذا البلد العربي، وما تكشفه وتؤكده هذه الوثائق التي حصلنا عليها هو ان ادارة بوش لم تعطِ صدام حسين اطلاقاً "شيكاً على بياض" للتصرف كما يريد في المنطقة، بل على العكس كانت تحرص اشد الحرص، على وضع حدود وضوابط واضحة لسياسة الانفتاح على العراق. ولندخل في صلب الموضوع. يبدو واضحاً، قبل كل شيء، من قراءة هذه الوثائق ان هناك 3 اشخاص كانوا مكلفين بشكل أساسي من قبل صدام حسين بالعمل على تطوير وتحسين العلاقات مع الولاياتالمتحدة في عهد بوش. ويمكن اطلاق لقب "رجال اميركا في العراق" على هؤلاء الثلاثة وهم: طارق عزيز نائب رئيس الوزراء حالياً ووزير الخارجية قبل وخلال أزمة الكويت نزار حمدون نائب وزير الخارجية العراقي، وحسين كامل المجيد زوج ابنة صدام حسين والمسؤول عن الانتاج الحربي في العراق خلال السنوات الماضية. وتكشف مذكرة سرية أعدها جيمس بيكر في تشرين الثاني نوفمبر 1989 عن العلاقات الاميركية - العراقية ان رجال المال والاعمال والتجّار والوزراء المسؤولين عن الشؤون المالية والاقتصادية والتجارية هم "الأكثر تشجيعاً" لتطوير العلاقات بين بغدادوواشنطن، وان حسين كامل ابلغ المسؤولين الاميركيين انه يريد ان يلعب الاميركيون "دوراً اساسياً" في تطوير وتحسين الاوضاع الاقتصادية في العراق. كما تكشف مذكرة بيكر ان العراقيين طلبوا، عن طريق ملحقهم العسكري في واشنطن، شراء معدات تكنولوجية اميركية متطورة صالحة للاستخدام العسكري والمدني على السواء. وتلقي احدى الوثائق ضوءاً على دور طارق عزيز في هذا المجال، اذ جاء فيها ان بوش حذّر عام 1986 - حين كان نائباً للرئيس ريغان - في احد الاجتماعات المغلقة من ان وضع طارق عزيز "اصبح مهدداً" بعد كشف فضيحة "ايران غيت" وغضب صدام حسين الشديد، آنذاك، على الاتصالات السرية الاميركية - الايرانية. دور نزار حمدون تحسن العلاقات العراقية - الاميركية لم يبدأ في عهد بوش بل في عهد ريغان مع استئناف العلاقات الديبلوماسية بين البلدين عام 1984 وحذف اسم العراق من قائمة "الدول الارهابية" عام 1985 وقد أعيد الى هذه القائمة بعد غزو الكويت. وأبرز ما ميز هذه العلاقات في عهد ريغان هو "التعاون" الاميركي - العراقي في مواجهة ايران. فمنذ عام 1984 وحتى انتهاء الحرب العراقية - الايرانية عام 1988 زودت الولاياتالمتحدةالعراق بمعلومات وأسرار دقيقة عن الاوضاع السياسية والعسكرية الايرانية، وعُقدت في هذا المجال اجتماعات سرية اميركية - عراقية، على مستويات مختلفة "للتشاور والتنسيق وتبادل المعلومات" حول كيفية مواجهة "الخطر الايراني". وفي هذا النطاق حصل العراق سراً على معدات تكنولوجية اميركية صالحة للاستخدام العسكري، كما حصل على قروض بمئات الملايين من الدولارات لشراء منتجات زراعية او تموينية. وقد لعب روبرت غيتس مدير وكالة المخابرات المركزية الاميركية السي.آي.اي حالياً دوراً مباشراً، وبطلب من ريغان، بتزويد العراقيين معلومات "مهمة" عن التحركات العسكرية الايرانية. وكان غيتس آنذاك نائباً لمدير "السي.آي.اي". الاتصال الاميركي - العراقي الأول المهم في عهد بوش تم في واشنطن يوم 24 آذار مارس 1989 بين وزير الخارجية بيكر ونزار حمدون نائب وزير الخارجية العراقي. وبناء على طلب بيكر اعد بول هار - احد كبار المسؤولين في وزارة الخارجية الاميركية آنذاك - مذكرة سرية عن العلاقات مع العراق اعتمد عليها بيكر خلال محادثاته مع حمدون. وتبين هذه المذكرة الموجهة الى بيكر والتي حصلت عليها "الوسط"، الامور الرئيسية الآتية: 1 - نزار حمدون هو قناة اتصال فريدة من نوعها مع صدام حسين، وما ستقوله له سيصل الى اعلى المستويات في بغداد. وسيركز حمدون على أهمية العراق وسيطلب "توثيق وتقوية" العلاقات بين بغدادوواشنطن، وسيبدي تخوفه من ان يطرأ تحسن على العلاقات الاميركية - الايرانية يكون على حساب العراق. 2 - العراق دولة قوية "في منطقة حيوية بالنسبة الى مصالح الولاياتالمتحدة"، لديها جيش كبير وقوي واحتياطات نفطية هائلة. العراق اليوم الشريك التجاري الثاني للولايات المتحدة في العالم العربي، وهو يستورد سنوياً منتجات زراعية اميركية بقيمة مليار بليون دولار. وقد عقد العراقيون اتفاقات مع شركات نفط اميركية بشروط ملائمة لهذه الشركات. والعراق يرغب في تطوير علاقات التعاون مع الولاياتالمتحدة في مجالات عدة. 3 - من مصلحة الولاياتالمتحدة تطوير وتحسين العلاقات مع بغداد. صحيح ان العراق لا يزال يدعم ويأوي بعض "الارهابيين" الفلسطينيين، وانه يطور برامجه لانتاج صواريخ أرض - أرض وأسلحة كيماوية وبيولوجية، وانه يتدخل في شؤون لبنان ويحرك نزاعه الحدودي مع الكويت، لكن ذلك كله يجب الا يمنع الادارة الاميركية من تطوير العلاقات مع بغداد. وينبغي ابلاغ مبعوث صدام نزار حمدون بذلك، والتأكيد ان الولاياتالمتحدة تعلق "أهمية كبرى" على علاقاتها مع العراق، كما ينبغي معالجة المواضيع التي تختلف الولاياتالمتحدة بشأنها مع بغداد ضمن اطار الحرص على تحسين العلاقات مع هذا البلد. وبالفعل تم لقاء بيكر وحمدون في هذه الاجواء، حيث تفاهم الاثنان على العمل من اجل تحسين وتطوير العلاقات بين البلدين. وعقدت، في اطار هذا التفاهم، خلال العام 1989 سلسلة لقاءات عراقية - اميركية، في واشنطن ونيويورك وبغداد وجنيف وباريس، على مستويات مختلفة، بعضها كان معلناً والبعض الآخر سرياً. وتوجت هذه اللقاءات باجتماع مطوّل تم في تشرين الأول اكتوبر 1989 بين بيكر وطارق عزيز في واشنطن وافقت اثره الادارة الاميركية على منح العراق "ضمانات قروض" بمئات ملايين الدولارات لشراء مواد غذائية من الولاياتالمتحدة. نصائح بيكر وخلال تلك الفترة صدرت مذكرتان اميركيتان سريتان بالغتا الاهمية عن موضوع العلاقات مع العراق، الأولى أعدها بيكر، والثانية صادرة عن الرئيس بوش نفسه. وسنتوقف عند هاتين المذكرتين السريتين لأهمية مضمونهما. يطرح بيكر في بداية مذكرته موضوع العلاقات مع بغداد على الشكل الآتي: "على الادارة الاميركية ان تقرر اذا كانت تريد التعامل بقسوة مع العراق على اساس ان نظاماً ديكتاتورياً مكروهاً يحكمه، او التعامل معه على اساس الاعتراف بقوة وأهمية العراق الحالية والمستقبلية في المنطقة. ونحن أي بيكر نؤيد الخيار الثاني". لماذا؟ يقول بيكر في مذكرته هذه: "الحرب مع ايران ربما تكون بدّلت العراق وحولته من دولة متطرفة ومتشددة الى دولة مسؤولة تحرص على الوضع القائم في المنطقة وتريد تعزيز الاستقرار فيها. نقول "ربما"، لأن نيات العراق في مرحلة ما بعد الحرب مع ايران لم تتضح بعد بشكل كامل، ولا تزال تتطور... لكن التعامل مع العراق سيكون صعباً". وصعوبة "التعامل" ناتجة، وفقاً لبيكر، عن تطوير العراق اسلحة دمار شامل، وعن استخدام اسلحة كيماوية ضد مواطنيه، وعن كون قدرات العراق العسكرية يمكن ان تشكل خطراً على اسرائيل، وعن عدم احترام النظام في بغداد حقوق الانسان وممارسته الاضطهاد ضد مواطنيه. ويعترف بيكر بوجود انقسام داخل ادارة بوش حول كيفية التعامل مع العراق، اذ يؤيد التقارب مع هذا البلد تيار في وزارتي الخارجية والدفاع ووزارة الزراعة، ويعارضه تيار آخر في الخارجية، كما تعارضه قوى مهمة في الكونغرس. لكن على رغم ذلك يدعو بيكر في مذكرته الى التقارب والتعاون مع العراق وتشجيع هذا البلد على لعب "دور مسؤول" في المنطقة، ويرى ان "من مصلحة الولاياتالمتحدة ان تكون لديها علاقات مفيدة، قائمة على المصلحة، وقبل كل شيء مستقرة مع العراق، تجعلنا اقرب الى هذا البلد في المجال التجاري وعلى صعيد الحوار السياسي. ويجب ان يرافق ذلك التشديد على قلقنا من النشاط العسكري العراقي وانتهاكات حقوق الانسان". ويؤكد بيكر في مذكرته هذه ان الولاياتالمتحدة ستقف ضد العراق "اذا كانت طموحاته تهدف الى فرض سيطرته على الخليج"، لكن الولاياتالمتحدة ستقف مع العراق اذا كان يسعى الى تحقيق الاستقرار في المنطقة و"احتواء ايران". ويدعو بيكر الى اجراء "مشاورات منتظمة" مع العراق حول "مسائل امن الخليج" وهي خطوة "من شأنها ارضاء صدام حسين الذي يرغب في ان يتم التعامل معه على اساس انه لاعب اساسي". وبالنسبة الى النزاع العربي - الاسرائيلي تكشف مذكرة بيكر امراً مهماً وهو ان وفداً يضم اعضاء من منظمة "ايباك" الاميركية - اليهودية التي تشكل قوة الضغط اليهودية المؤيدة لاسرائيل في الولاياتالمتحدة زار بغداد سراً والتقى مسؤولين هناك وعاد الى واشنطن "وهو معجب اشد الاعجاب باعتدال العراق ورغبته في ان تحقق عملية السلام تقدماً". ويقول بيكر: "ان العراق يمكن ان يلعب دوراً بنّاءً اكثر على صعيد قضايا النزاع العربي - الاسرائيلي، وان حواراً حقىقياً معه سيشجعه على لعب دور بنّاء". ويتطرق بيكر في مذكرته الى "العلاقات العسكرية" بين الولاياتالمتحدةوالعراق فينصح بالتعامل "بحذر شديد" مع هذه المسألة وعدم التورط في "الطموحات العسكرية العراقية". ويقول: "يجب ان نتحدث بصراحة مع العراقيين حول قيامهم بانتاج الاسلحة الكيماوية والبيولوجية والنووية... يجب ان نمارس ضغوطاً على حلفائنا لوقف كل تعامل تجاري مع العراق له علاقة ببرامج انتاج هذه الاسلحة، وينبغي ان نبلغ العراقيين بذلك ونشرح لهم الأسباب". ويركز بيكر على ضرورة قيام العراق بوضع حد لانتاج اسلحة الدمار الشامل، لكنه ينصح في الوقت نفسه "بتشجيع المبادلات العسكرية مع العراق المفيدة للولايات المتحدة" ويقترح، مثلاً، دعوة ضباط عراقيين لحضور ندوات او مؤتمرات في الولاياتالمتحدة حول القضايا العسكرية والاستراتيجية. وينصح بيكر، ايضاً، باقامة حوار اميركي - عراقي عسكري "على مستوى رفيع". ويتناول بيكر العلاقات التجارية بين البلدين فيقول في مذكرته: "ان التجارة هي افضل مفتاح لتأمين نفوذ سياسي في العراق... ان افضل ما يمكن ان نقدمه الى العراق هو التكنولوجيا لتطوير اوضاعه... يجب تشجيع الشركات الاميركية على المشاركة في مشاريع التنمية في العراق". لكن بيكر يضيف في الوقت نفسه ان الولاياتالمتحدة يجب ان تتعامل "بحذر" مع العراقيين لكي لا يستغل هؤلاء المساعدات الاميركية التكنولوجية وسواها لدعم قدراتهم العسكرية. ويدعو بيكر الى ممارسة "ضغوط" منتظمة وواقعية على العراق لتحسين اوضاع المواطنين العراقيين والتوقف عن اضطهادهم او القيام بعمليات عسكرية ضدهم او انتهاك حقوقهم، ويكشف ان لدى الادارة الاميركية معلومات تفيد ان "مسؤولين عراقيين رفيعي المستوى" يعترفون بالحاجة الى "تليين" النظام القمعي في العراق والتخفيف من اجراءات القمع وينصح "بتشجيع" هذا التيار داخل المؤسسة الحاكمة في بغداد. وفي نهاية مذكرته هذه يتقدم بيكر باقتراحات عدة لتحسين العلاقات مع العراق ابرزها الآتية: 1 - يجب ان تكون الخطوة الاولى في هذا الاطار توجيه رسالة الى القيادة العراقية، و"الأفضل" ان تكون من بوش الى صدام حسين، وتشدد على "عزم الولاياتالمتحدة على تطوير العلاقات السياسية والاقتصادية" مع بغداد. وينبغي ان تعبر هذه الرسالة عن "قلق" الولاياتالمتحدة من انتاج العراق اسلحة الدمار الشامل والصواريخ ومن خرقه حقوق الانسان ومن دعمه للارهاب. 2 - يجب دعوة طارق عزيز الى واشنطن "لبدء علاقة عمل" بين بغداد والادارة الاميركية. 3 - يجب ارسال وفود اميركية في اسرع وقت ممكن الى بغداد لمناقشة مختلف القضايا التي تهم البلدين. 4 - يجب ان يتوجه وفد اميركي يضم ممثلين عن وزارتي الخارجية والتجارة ومجموعة من رجال الاعمال الى العراق لتأكيد التزامنا بتحسين العلاقات التجارية مع هذا البلد. وينصح بيكر في مذكرته ايضاً "باطلاع" العراقيين باستمرار على ما يجري بين الولاياتالمتحدة ومنظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل، وبتبادل "المعلومات الاستخبارية" مع بغداد حول قضايا امنية ومسائل تتعلق بالارهاب. تعليمات بوش "العراقية" وقد تم اعتماد مضمون مذكرة بيكر هذه كأساس للتعامل مع العراق. وفي خريف 1989 اصدر الرئيس بوش مذكرة سرية تضمنت تعليماته وتوجهاته حول كيفية التعامل مع العراق ابرز ما فيها الامور الآتية: 1 - ينبغي تطوير العلاقات مع العراق، سياسياً واقتصادياً، لحمل هذا البلد على انتهاج "سياسة معتدلة" والتصرف بشكل مسؤول في المنطقة. "والعلاقات الطيبة مع العراق يمكن ان تكون مفيدة لمصالحنا البعيدة المدى في المنطقة وان تعزز الاستقرار فيها". 2 - يجب ان تقدم الولاياتالمتحدة "حوافز" اقتصادية وسياسية لصدام حسين "لزيادة نفوذ الولاياتالمتحدة في العراق وحمله على الاعتدال". 3 - يجب ان يكون واضحاً لمختلف الأطراف "ان الولاياتالمتحدة ملتزمة بالدفاع عن مصالحها الحيوية في المنطقة ومستعدة لاستخدام القوة العسكرية اذا هدد الاتحاد السوفياتي او اية قوة اقليمية هذه المصالح". 4 - على رغم الحرص على التقارب مع بغداد فان الولاياتالمتحدة "مستعدة مع حلفائها لفرض عقوبات اقتصادية وسياسية على العراق، اذا استمر في انتاج الاسلحة الكيماوية والبيولوجية والنووية". وفي تلك الفترة، ايضاً، اصدرت وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية السي.آي.اي تقريراً سرياً عن العراق، مما جاء فيه: "ان العراق لن يتبع سياسة عدوانية تجاه الدول المجاورة له قبل عامين أو 3 أعوام، لأنه خرج منهكاً من حربه الطويلة مع ايران". صدر هذا التقرير في تشرين الأول اكتوبر 1989. حدود سياسة "اليد الممدودة" يبدو واضحاً من ذلك ان سياسة "التقارب وتحسين العلاقات" مع العراق التي انتهجتها ادارة بوش كانت سياسة "حذرة" وضع لها الرئيس الاميركي نفسه ووزير خارجيته "ضوابط وحدود": فلا مجال للتقارب مع العراق اذا كان ينوي تهديد جيرانه أو فرض سيطرته على منطقة الخليج او الاستمرار في انتاج اسلحة الدمار الشامل أو تهديد "المصالح الحيوية" الاميركية في المنطقة او التصرف بشكل "غير مسؤول". وخلافاً لما يشيعه خصوم بوش من الحزب الديموقراطي، فان الرئيس الاميركي لم يطلق يد صدام حسين في المنطقة ولم "يشجعه" على التصرف بشكل غير مسؤول او خطر، بل على العكس، اراد من خلال التقارب معه حمله على الاعتدال والمساهمة في تعزيز الامن والاستقرار في الخليج وليس التسبب في أزمة كبرى او حرب جديدة، كما حدث حين غزا صدام الكويت. وتكشف الوثائق الاميركية السرية التي حصلنا عليها ان ادارة بوش بدأت تشعر "بالقلق الشديد" ازاء تصرفات صدام وممارساته منذ مطلع 1990، اذ بدا ان الرئيس العراقي مصمم على الاستمرار في انتاج اسلحة الدمار الشامل، كما تلقت واشنطن معلومات تفيد ان العراقيين اقاموا قواعد ثابتة لاطلاق صواريخ أرض - أرض قرب الحدود مع الاردن. اضافة الى ذلك، بدأ الاميركيون يتلقون، منذ ربيع 1990، معلومات وإشارات مختلفة تفيد ان صدام حسين ينوي ممارسة "ضغوط كبيرة" على الكويت وبعض الدول الاخرى للحصول على مساعدات مالية ضخمة لتجاوز مصاعبه الاقتصادية الهائلة، وانه ينوي التصرف في المنطقة والتعامل مع دولها على اساس انه "قوة عظمى". وفي ضوء هذه المعلومات عقد في نهاية أيار مايو 1990 اجتماع في البيت الابيض ضم مسؤولين اميركيين من ادارات وأجهزة مختلفة نوقشت خلاله "التهديدات العراقية" الموجهة، سراً او علناً، الى الكويت بشكل خاص. واقترح المجتمعون ان يبعث بوش برسالة شخصية "شديدة اللهجة" الى صدام حسين. واستجاب بوش لهذا الطلب فأوفد في حزيران يونيو 1990 سراً الى بغداد مبعوثاً خاصاً هو ريتشارد هاس مستشاره لشؤون الشرق الاوسط في مجلس الامن القومي. والتقى هاس مطولاً بطارق عزيز وأبلغه "قلق ادارة بوش الشديد" من التوجهات العراقية "الخطرة" وحذره من ان ذلك سينعكس "سلباً" على العلاقات بين البلدين. وفي الوقت نفسه وعد هاس طارق عزيز بأن آفاق التعاون ستكون كبيرة وواسعة بين البلدين اذا انتهج العراق "سياسة معتدلة ومسؤولة" في المنطقة. ونصح هاس العراقيين بحل نزاعاتهم المختلفة مع الكويت أو أية دول اخرى "سلمياً وعن طريق الحوار". ويبدو واضحاً من مضمون الوثائق الاميركية السرية ان بوش كان يعتقد في ذلك الحين، وقبل اسابيع قليلة من غزو الكويت، انه يمكن "ضبط" صدام حسين و"السيطرة عليه" ومنعه من "استخدام القوة العسكرية" ضد بلدان اخرى، من خلال اتباع سياسة "التحذير والترغيب معه". فيوم 25 تموز يوليو 1990 بعث بيكر في وقت واحد برسالتين تتعلقان بالتعامل مع العراق. الاولى موجهة الى ابريل غلاسبي سفيرة الولاياتالمتحدة في بغداد يطلب منها ابلاغ صدام حسين ان الادارة الاميركية طلبت منها العمل على "توسيع وتعميق العلاقات مع العراق" اذا تصرف العراق بشكل "مسؤول"، والثانية الى وزير التجارة الاميركي روبرت مبشر يطلب منه فيها فرض قيود جديدة ومتشددة على بيع العراق معدات تكنولوجية اميركية "يمكن استخدامها لاغراض عسكرية" وذلك بسبب "جهود العراق الكبيرة والمستمرة لانتاج اسلحة دمار شامل". ويوم 28 تموز يوليو 1990، اي قبل ايام من غزو الكويت، بعث بوش برسالة الى صدام حسين تمنى فيها حل خلافاته مع الكويت "بالوسائل السلمية" وشدد فيها، ايضاً، على ان الولاياتالمتحدةوالعراق "لديهما مصلحة قوية في ضمان السلام والاستقرار في الشرق الأوسط". ورحب بوش بما قاله صدام لابريل غلاسبي من ان العراق "يريد صداقة الولاياتالمتحدة" وقال "ان الولاياتالمتحدة لديها الشعور نفسه تجاه العراق". وأضاف بوش: "ان الادارة الاميركية لا تزال ترغب في اقامة علاقات افضل مع العراق". أخطاء صدام حسين لكن صدام حسين اخطأ في التعامل مع سياسة "اليد الاميركية الممدودة" تجاهه، وأخطأ، ايضاً، في تحليل وتقييم هذه السياسة. فالواضح من مضمون هذه الوثائق الاميركية السرية ان ادارة بوش لم تكن تريد، من خلال تقاربها مع العراق، عقد صفقة مع صدام حسين على حساب دول اخرى في المنطقة، ولم تكن تريد "تشجيع" صدام على السيطرة على الخليج، او على فرض مطالبه "بالقوة" على الدول الاخرى، ولم تكن تريد تغيير موازين القوى في الشرق الاوسط لمصلحة العراق. بل ان ما سعت اليه ادارة بوش من خلال سياسة "اليد الممدودة" هذه هو احداث تغيير اساسي وتدريجي في سياسة العراق، داخلياً وخارجياً، بحيث يصبح هذا البلد "عنصراً" من عناصر الاستقرار في المنطقة، ويتبع خطاً معتدلاً في تعامله مع الدول الاخرى ومع مختلف القضايا المهمة في الشرق الاوسط. غير ان صدام حسين اعتبر انه يستطيع "استغلال" سياسة الانفتاح الاميركي هذه لفرض سيطرته على منطقة الخليج، واعتبر ان العراق "يمكن ان يضمن مصالح الاميركيين" اذا "تفهمت واشنطن" تصرفات العراق، بل ذهب الى حد القول لوزير خارجية دولة اوروبية بارزة: "العراق لديه كل المؤهلات لأن يكون قوة رئيسية في الشرق الأوسط، بعدما انتهى الاتحاد السوفياتي كقوة عظمى، وهو مستعد للتعامل مع الولاياتالمتحدة على هذا الأساس". واعتبر صدام حسين، ايضاً، ان الكويت "ليست خطاً احمر بل خط برتقالي" بالنسبة الى الولاياتالمتحدة، وبالتالي فانها لن تدافع عنها بالقوة العسكرية. وعلى اساس هذا التحليل الخاطئ للسياسة الاميركية، قام صدام حسين بغزو الكويت يوم 2 آب اغسطس 1990. وظل يأمل ويراهن طوال أشهر الازمة على ان الولاياتالمتحدة ستعقد معه "صفقة ما" حول الكويت، وانها لن تشن عليه "حرباً حقيقية". وما حدث يعرفه الجميع. والعراق يدفع اليوم ثمن خطأ صدام حسين في التعامل مع الولاياتالمتحدة، وخطأ صدام في تحليل وتقييم السياسة الاميركية في الشرق الوسط، وخطأ صدام في تقدير حقيقة حجم العراق في المنطقة. فالرئيس بوش لم "يصنع" صدام حسين الرجل الذي غزا الكويت وأراد تهديد امن الخليج واستقراره وقلب موازين القوى في المنطقة، بل ان صدام حسين هو الذي صنع، في نهاية الامر، صدام حسين. وخسر صدام حسين الولاياتالمتحدة، تماماً كما خسر صداقة ودعم معظم الدول العربية، بل معظم دول العالم. والجميع ينتظرون اليوم "التغيير الكبير والحقيقي" في العراق.