يمتزج الحنين بالجزع لدى العودة الى الوطن، حنين للوطن والاهل والاصدقاء ووجوه الناس، وللاصغاء الى نبض الحياة، وللاكتشاف من الداخل كيف تطورت الامور بعد ملاحقتها عبثاً من الخارج عن طريق وسائل الاعلام والتقارير واللقاءات الرسمية: هذه مشكلتي خاصة كروائي يحتاج ان يتعرف الى احاسيس الناس اليومية. ازور لبنان وسورية كل سنة كما ازور بلداناً عربية اخرى. اجدد علاقاتي بالاهل والاقارب والاصدقاء وأبني صداقات جديدة وبالوطن والارض والامكنة والشمس، واحاول ان اكتشف ما يحدث والى اين المسير. اتجنب الاتصال بمن هم في مواقع السلطة الذين نسميهم النخبة والمسؤولين وصانعي القرار. اكتفي بالحديث مع الناس العاديين من اجل ان اعرف مشاعرهم وانشغالاتهم اليومية. اتلمس الطريق الى مصادر افراحهم واحزانهم، اطمئنانهم وقلقهم، طموحاتهم واحباطاتهم، تفاؤلهم وتشاؤمهم، هدوئهم وغضبهم، وبكلمة مختصرة اذا امكن الاختصار اسعى للتعرف الى احلامهم وكوابيسهم. حيث الحدود والسلطة والمسؤولون والنخبة والمكاتب والبيروقراطية والحواجز والمؤسسات، اشعر بالانقباض والغضب المكبوت والاحباط، واضطر للتسليم بما لا اريد ان اسلم به. اما حيث الناس خصوصاً الاصدقاء والاقارب وزملائي الكتاب والباحثين، فتجتاحني مشاعر المرح والاطمئنان والثقة بالنفس والمحبة والاحترام، وتتوالد في نفسي الافكار مثل تدفق المياه وتموج البحر قبل ان يسرق منا في ما بعد سأشرح كيف سلبونا البحر. * * * في رحلتي الاخيرة هذا الصيف كما في كل رحلة سابقة، استعدت اول ما استعدت اكتشاف حضور الشمس القوي الراسخ، بعد طول احتجابها عني في اوروبا وشمال اميركا وظهورها هزيلة بين حين وآخر في اطراف الافق. تفرض حضورها عليّ في العالم العربي، تتسلق قبة السماء متوهجة ساطعة جبارة فتلغي كل حضور آخر، تلغي القمر والنجوم والظل وتبدد الغيوم، وتفتت التربة، وتولد العطش. ربما لهذا نحب الليل حين تغيب الشمس وتظهر كل المخلوقات المحجبة والمكبوتة. اتذكر ان امي كانت تحمل للشمس احتراماً وورعاً خاصاً. لطالما تساءلت لماذا تفعل هذا. ترى في الامر استمرار للاوعي الجماعي؟ ترى طلوع الشمس بداية السعي للرزق والامل بالتوفيق؟ ام ترى هي جبروت الشمس؟ في زيارة سابقة لمصر اكتشفت من خلال تجوالي في المعابد بين اسوان والاقصر ان الخوف كان بين اهم مصادر عقائد الاقدمين، عندما ادرك بعض قدماء مصر انهم لن يتمكنوا من التغلب على التماسيح التي كانت تهاجمهم، اخذوا يضرعون اليها تجنباً لشرها. ترى ما هي القوى الجبارة التي تتحول الى تماسيح في المخيلة العربية في زمن الانهزامات الحاضرة؟ افكر اثناء هذه الرحلة الاخيرة في ما اذا كان هناك من علاقة بين حضور الشمس الذي يلغي كل حضور آخر وبين ظاهرة غياب التعدد في المجتمع العربي. حضور الاب يلغي كل حضور فتغيب المرأة ويتقلص الاولاد. وحضور الحاكم يلغي ايضا كل حضور آخر فينحسر المواطن ويتقلص من الداخل ويصمت خارج منزله ويتجنب الخطر ويتهمش ويتدجن ويجيد التستر. وكما الاب والحاكم، كذلك الاستاذ ورب العمل والمدير والقائد. * * * ماذا ألاحظ في لبنان؟ للشمس حضورها لا شك وان كانت الجبال تخفف من وطأتها. ورغم ذلك كثر التعدد حتى اصبح كل اكان فرداً او جماعة يريد ان يكون شمساً فيلغي في ذهنه الآخرين كلياً ويدور في فلكه الخاص متبختراً، كل يظن انه مُنح كل الحقوق والامتيازات وحُرم الآخرون منها. كل يظن انه منح الذكاء الكلي ووزعت البلادة والبلاهة على غيره. وبين اكثر ما يتعلمه الانسان منذ الطفولة الا يكون ضعيفاً فتلتهمه الذئاب التي لا حد لجوعها كما سأبين في ما بعد. في هذه التهمة مبالغة، وربما اجحاف، ولكنني لاحظت في هذه الزيارة ظاهرة قد تساعدنا ان نفهم لماذا فشل اللبنانيون في تكوين وطن ومجتمع ودولة، ولماذا لا يتمكنون من حل مشكلاتهم والتغلب على الصعوبات. لاحظت خلال تجولي في بيروت وتحدثي مع الناس ان هناك بعض النجاح في مختلف مجالات القطاع الخاص. الكثير من الدمار ما زال يصدمك بشراسة، ولكن المشاريع الخاصة كثيرة اذا ما اخذنا بعين الاعتبار الظروف القائمة واحوال البلد. افراد مترسملون يشيدون ابنية شاهقة ويقال انهم يبيعون الشقق الفخمة بأسعار خيالية. هكذا تبنى المقاهي والمطاعم والفنادق والمسابح والنوادي التي تضاهي امثالها في اي مكان من العالم. هذا مصدر اعتزاز كبير للكثير من اللبنانيين، وخاصة اولئك الذين يريدون ان يرسخوا قناعة في عقولنا ان اللبناني صامد لا يقهر. هؤلاء واصحاب المشاريع الناجحة يحبون ان يتجاهلوا انهم محاطون بالفقر والنفايات والدمار المادي والانساني. بكلام اوضح، ان الظاهرة التي اتكلم عنها لا يكتمل فهمنا لها من دون التعرف الى وجهها الآخر. مقابل النجاح الباهر الذي ينجزه اللبناني في القطاع الخاص، نجد انه فشل كليا في بناء القطاع العام. الدولة غائبة كليا، وفي غيابها يهزل كل مشروع عام. يفتقر اللبنانيون في هذا المجال للطرق وشبكات المياه والكهرباء والهاتف وغيرها. تتراكم النفايات على جوانب الطرق وحتى عند مداخل الابنية الفخمة والمؤسسات الناجحة والمطاعم والفنادق الممتازة. ولا يكتفي اللبناني بإهمال القطاع العام، بل لا يكترث به فيعتدي عليه حين يوجد كما نستدل من نظام قيادة السيارة وايقافها على الارصفة وفي وسط الطرق، ورمي النفايات. وحين تزعجه اوضاع القطاع العام يهرب منها الى مقاهيه ومطاعمه ونواديه ومسابحه. هنا يجب ان نتذكر ان غالبية اللبنانيين لا يتمكنون من الهرب الى المطاعم والنوادي والمسابح. أقول حتى المسابح، وهنا أجد من المناسب ان اشرح كيف سرقوا منا البحر. في طفولتي في بيروت كان في امكاننا ان نسبح مجاناً في اي مكان على شواطئ بيروت. ما زلت حتى الآن اتفقد المواقع التي كنا نسبح فيها على طول كورنيش بيروت بين عين المريسة والروشة. هذه المواقع تحولت كلها الى مسابح ونواد خاصة لا يتمكن من اختراق حواجزها سوى الاثرياء. كيف تمكنوا ان يسرقوا البحر منا؟ كيف تحول البحر من ملك عام الى ملك خاص؟ بل كيف لوّثوه؟ اين يسبح اطفال الفقراء في لبنان؟ والسباحة نفسها كيف تحولت من متعة الى معرض ازياء للتأكيد على المكانة الاجتماعية الرفيعة التي نحظى بها من دون الآخرين؟ * * * هنا نسأل فيما اذا كان من الممكن بناء مجتمع متقدم من دون تنشيط القطاع العام، من دون اقامة توازن بين العام والخاص. من دون بناء الدولة العصرية والتمسك بالقوانين التي تنظم علاقات الناس في ما بينهم، وبينهم وبين مؤسساتهم، من دون ازالة هذه الفجوات بين الفقراء والاثرياء، ومن دون استعادة البحر الذي سلب منا. كيف نقبل ان يسرق منا البحر؟ هذه ظاهرة من عدة ظواهر اخرى تمنع لبنان من الوقوف على رجليه. ما يزال الكثير من اللبنانيين يثيرون القضايا ويصارعون من اجلها من منطلق الجماعة التي ينتمون اليها وليس من منطلق الولاء للبنان، على رغم كل التغزل به كفكرة مجردة لا غير. بين آخر المسائل التي شغلت اللبنانيين مسألة الانتخابات، وعلى وجه التحديد مسألة المشاركة او عدم المشاركة في الاقتراع. طرحت المشكلة وقدمت للناس على انها قضية جماعة طائفية ولم تطرح على انها مشكلة لبنان واللبنانيين. الطائفة التي دعت الى المقاطعة لم تقدم دعوتها على انها قضية لبنانية واحدة فلم تقم بمجهود كبير ومنظم لاقناع الجماعات اللبنانية الاخرى بصحة موقفها واشراكهم في مشروعها كلبنانيين وحسب. وحين لم تقتنع الجماعات الاخرى بالمقاطعة، كان من المفروض ان تغير الطائفة المعنية من موقفها حرصاً على اهمية تقديم المشكلة على انها مشكلة الجميع. على العكس استمرت الطائفة في مشروعها الخاص الداعي الى المقاطعة في معزل عن البقية وقدمت المسألة للبنانيين والعرب وبقية العالم خصوصاً في الغرب على انها مسألة "مقاطعة المسيحيين" وليس اللبنانيين للانتخابات. وكانت النتيجة ان عزلت نفسها وساهمت في توسيع الهوة بينها وبين الجماعات الاخرى التي يتكون منها لبنان. هنا يمكن ان يقال ان الانتخابات لم تكن حقاً المشكلة، بل ان وراءها مشاكل وقضايا اخرى يحرص اللبنانيون على عدم اثارتها ومناقشتها بصراحة وحرية واحترام متبادل، وما مسألة الانتخابات سوى واجهة وغطاء. بين القضايا الخفية التي يتجنب اللبنانيون طرحها ومناقشتها مسألة توازن القوى وما اذا كان النظام الطائفي يصلح حقاً للبنان بعد ان ثبتت مسؤوليته عن الحروب الاهلية المتكررة وعن التفسخ الاجتماعي والسياسي والنفسي. منذ قرن ونصف القرن نعرف ان الفكرة الوطنية او القومية يجب ان تحلّ محل الفكرة الطائفية او الفئوية، وحتى الآن ما نزال نصرّ على عدم التعلم من تجاربنا القاسية على رغم كل التضحيات. وطالما نتكلم عن الفكرة الوطنية او الفكرة القومية، اريد ان اعبر عن مشكلتي مع الحدود المفتعلة بين مختلف البلدان العربية ومنها بشكل خاص الحدود بين لبنان وسورية. حين اقترب منها يزداد خفقان قلبي اضطراباً لما قد يتعرض اليه المواطن من اذلال واهانات واخضاعاً للابتزاز والرشوة. يضطر المواطن، بل يطلب منه ويجبر على اعطاء الرشوة من دون ارتكاب اي مخالفة تجنباً للمضايقات. وحين يعتاد المواطن ان يرشو الموظف تجنباً للمضايقات، يعتاد الموظف بدوره على مضايقة الناس كي يحصل على الرشوة. وقد اصبح من المعتاد ايضاً ان نجد المسوّغات لتصرف الموظفين، فيقال ان رواتبهم قليلة مما يضطرهم لمثل هذا السلوك المشين لتأمين معيشتهم. ولكننا نعرف ان بين من يفرضون الرشوة على الناس او يستفيدون منها بطرق مباشرة وغير مباشرة موظفين جشعين اصبحت لديهم املاك وبيوت وسيارات. وهناك نظرية تقول ان ظاهرة الفساد والرشوة تزداد في ازمنة الازدهار والبحبوحة وليس في زمن الفقر، وتتصل هذه العلاقة بين الازدهار والفساد بما يعرف في علم الاجتماع بحالة ال "انومي"، وخلاصتها انه في ازمنة الازدهار تتولد حاجات استهلاكية لا يمكن اشباعها مهما كثرت النعمة، ويتعمق الجشع وتسيطر نزعة الرغبة بالحصول على الثراء في اسرع وقت ممكن وبطرق شرعية او غير شرعية. بهذا يمكننا ان نستنتج ان ظاهرة الفساد والرشوة قد لا تتصل بالفقر بقدر ما تتصل بالازدهار وما يرافقه من انحلال القيم والمعايير. وليس أدلّ في ذهني على صحة هذه الفرضية من تجربة كنت تعرضت لها خلال رحلة سابقة. وهنا اريد ان اكون صريحاً فأقول ان تجوالي في البلدان العربية من اقصى المغرب الى اقصى المشرق ومن الجنوب الى الشمال قد اوصلتني الى نتيجة واضحة وضوح حضور الشمس الساطعة فوق الارض العربية، وهي ان معنوياتي وثقتي بنفسي وشعبي تزداد وتتعمق حين اتعاطى مع الشعب، وعلى العكس تلحق بي الهزيمة واصاب باليأس والتشاؤم حين اتعامل مضطراً مع السلطات الرسمية والمؤسسات العامة والخاصة ايضاً من دون معرفة شخصية او وسيط بيني وبين من اتعامل معهم. من هنا ان المواطن تعلم الا يقترب من المؤسسات والموظفين من دون وسيط او معرفة شخصية. لذلك ايضاً لن انسى ما حييت هنا افترض اني سأحافظ على ذاكرتي ذلك اللقاء العابر المشحون بالمعاني مع فلاح سوري اعاد لي احساسي بالكرامة والاعتزاز والثقة بالنفس وبشعبي وقضاياه الكبرى. في طريقنا من تدمر في اتجاه حمص الى قلعة الحصن ضللنا الطريق كأنما لنهتدي، وكثيراً ما تحصل الهداية بعد ضلال فصادفنا فلاحاً يعمل جاهداً مع عائلته على بيدر منعكفين على كومة من منتوجاتهم الزراعية التي لم نعرف ما هي رغم خلفيتي الفلاحية. وبعد استفسار فهمنا ان كومة النتاج الفلاحي هي من "الكمون" فأصابنا العجب وحب الاستطلاع لما نعرفه من ندرة هذا المحصول وارتفاع ثمنه ولم نكن قد رأيناه من قبل الا في كميات ضئيلة. طلبنا من الفلاح حفنة صغيرة فملأ لنا كيساً غير صغير منها. ولما مد احدنا يده الى جيبه واخرج محفظته ليدفع ثمنها، تراجع الفلاح بضع خطوات الى الوراء واضعاً كيس الكمون وراء ظهره ممتنعاً عن اعطائنا اياه، وقال بحزم لا يمكن ان يساء فهمه او تفسيره: "اذا كان بدكم تدفعوا فلوس، نحن ما عندنا كمون، هذه هدية، وتكرم عيونكم". وظل الفلاح محتفظاً بالكيس وراء ظهره الى ان اعاد رفيقنا المحفظة الى جيبه فناوله اياه عندئذ مبتسماً ابتسامة مشرقة كالصباح بين اعمدة قلاع تدمر. قد يقال ان هذا الفلاح بسيط، ولكنني اعرف جازماً انه على مستوى رفيع من الفهم والاخلاق ليعرف كيف يقدّر اهمية القيم في بناء المجتمعات واستمرارها. اشكرك ايها الفلاح السوري الذي اعدت لي ثقتي بنفسي وبشعبي، وكم اتمنى لو سألتك عن اسمك. لو سألتك عن ذلك، ربما اجبتني "ليس من المهم". ما هو المهم؟ سؤال واحد والاجوبة عديدة من دون حدود . ولكن لا بد من الاجابة عليه حين نسعى لبناء مجتمع متقدم يكافح من اجل تحقيق احلامه من دون ان يلغي احلام الآخرين ان لم تهدف الى الغاء حقنا بالحلم. هذا امر في غاية الاهمية في مجتمع تتنازعه الاحلام والكوابيس. وانني اميل للاعتقاد ان الكوابيس تتغلب على الاحلام في عالمنا لما شاهدته ايضاً من نزوع كبير ومبالغ به عند الشباب الطالع لعدم الاكتراث بما يحدث حولهم، فأصبح يهمهم اكثر ما يهمهم اللهو كأنما يلجأون اليه هرباً من عجزهم وحرمانهم من حقوق المشاركة في صنع مصيرهم وتغيير الواقع المهيمن. هذه شكاوى مثقف لا يعرف كيف يجيد اللهو، فتبقى المشكلة من دون حلول. يبقى ان تكون لنا المناعة والقدرة على مواجهة الذات في أزمنة لا يقوى فيها الانسان على مواجهة النظام والمؤسسات. * روائي وعالم اجتماع، استاذ في جامعة جورجتاون - واشنطن.